تلقّف الصحابة رضوان الله تعالي عليهم ما كان ينزل علي سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم من وحي السماء. بفهم ووعي وسعي حثيث لتطبيق آياته في كافة شئون حياتهم. حتي كانوا قرآنا يمشي علي الأرض. مقتدين في ذلك بسيدنا رسول الله. الذي وصفته أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها بأنه ¢كان قرآنا يمشي علي الأرض¢.. وتنفيذا للتوجيه النبوي ¢أصحابي كالنجوم. بأيّهم اقتديتم اهتديتم¢ نسعي لمعرفة الفرق بين تعاملنا مع القرآن رجالا ونساء- وتعامل الصحابة والصحابيات الذين حفظوا القرآن وجعلوه منهاج حياة. في البداية يوضح الدكتور أحمد عمر هاشم . عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر أن جيل الصحابة هم أفضل تطبيق وتمثُّل لعمل رسول الله صلي الله عليه وسلم لأنهم الرعيل الأول والنموذج الأفضل لكافة المسلمين في جميع العصور حيث فهموا أن الغرض الأعلي من القرآن هو العلم والعمل بل انه من خلال القرآن نتعلم ونزداد علما ونصحح علمنا في العقيدة والعبادة والفقه وغيره من العلوم الشرعية والعربية. أوضح انهم استثمروا ما ورد في السنة الشريفة من الأجر في تلاوته خطوة نحو فهم القرآن والعمل به وليس مجرد الحفظ فقط . فعن ابن عباس عن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا دخل بيته نشر المصحف فقرأ فيه ناهيك عن قراءته في المسجد¢ .وكان ابن مسعود إذا اجتمع إليه إخوانه نشروا المصحف فقرأوا وفسّر لهم. فقد قال صلي الله عليه وسلم :¢ من أراد أن يأخذ القرآن غضّا طريّا كما أُنزل فليأخذه من ابن أم عبد¢ أي عبد الله بن مسعود. وعن الأعمش قال: مر أعرابي بعبد الله بن مسعود وهو يُقرئ قوما القرآن وعنده قوم يتعلمون القرآن- فقال: ما يصنع هؤلاء؟ فسمعه ابن مسعود فقال له: يقتسمون ميراث محمد صلي الله عليه وسلم. وأشار د. عمر هاشم إلي أن الصحابة لم يكونوا مجرد حفاظ فقط وإنما كانوا أحرص الناس علي تدبر القرآن وفهم معانيه واستيعاب أمثاله وقد كان بعضهم يقف علي الآية الليلة أو جزءا من النهار يكررون ويتأملون يحذون في ذلك حذو رسول الله صلي الله عليه وسلم الذي تعلموا منه ذلك فيروي أبو ذر. أن الرسول قام ليلة من الليالي يقرأ آية واحدة الليل كله حتي أصبح. بها يقوم وبها يركع وبها يسجد فقال القوم لأبي ذر: أي آية هي؟ فقال: ¢إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الرحيم¢. الفهم والتطبيق يوضح الدكتور محمد داود- أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة قناة السويس- أن الصحابة تعلموا الفهم والتطبيق العملي من الرسول وتعلمه منهم التابعون. فعن القاسم بن أيوب قال: ¢ كان سعيد بن جبير يردد الآية في الصلاة بضعا وعشرين مرة: ¢واتقوا يوما ترجعون فيه إلي الله ثم توفّي كل نفس ما عملت وهم لا يُظلمون¢ وهذه آخر آية نزلت من القرآن الكريم. توفّي بعدها محمد صلي الله عليه وسلم بتسعة أيام. أما ¢اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا....¢ فعاش صلي الله عليه وسلم بعدها ثلاثة أشهر. الخلفاء والصحابة وعن حال بعض الخلفاء الراشدين باعتبارهم من خير الصحابة لأنهم من المبشرين بالجنة قال الدكتور محمد رأفت عثمان. عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر. عن ابي بكر الصديق حدث ولا حرج فقد قالت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها: إن رسول الله قال في مرضه : مُروا أبا بكر يصلي بالناس. قالت عائشة: قلت إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يُسْمِع الناس من البكاء. فمُر عمر يصلي بالناس. ففعلت حفصة. فقال رسول الله: ¢مه. إنكن لأنتن صواحب يوسف. مُروا أبا بكر فليصلِ بالناس¢ فقالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيرا "وفي رواية قالت عائشة: "إنه رجل رقيق إذا قرأ غلبه البكاء وفي رواية فقيل له- أي للنبي-: ¢إن أبا بكر رجل أسيف إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس ¢. وقد روي البيهقي أن أبا بكر ابتني مسجدا بفناء داره - بمكة- وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيقف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يتعجبون منه وينظرون إليه وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن. أوضح د. رأفت عثمان انه كان للقرآن موقع عظيم في حياة عمر بن الخطاب ويكفي أن نذكر انه قد أسلم عندما سمع آيات من سورة طه فكان إسلامه عزا للإسلام والمسلمين وكم سمعنا بأخبار قوته وشدته في دين الله وغيرته علي حرمات الله وعن زهده وورعه وعن عدله وتواضعه . وقد وصفه عبد الله بن شداد قائلا: ¢سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصفوف في صلاة الصبح وهو يقرأ سورة يوسف حتي بلغ ¢إنما أشكو بثي وحزني إلي الله¢ وبكي حتي سالت دموعه علي ترقوته. قال النووي -رحمه- وفي رواية أنه كان في صلاة العشاء فتدل علي تكراره منه . وقال عنه هشام ابن الحسين :¢ كان عمر بن الخطاب يمر بالآية في ورده فتخيفه وفي بعض الروايات فتخنقه فيبكي حتي يسقط ويلزم بيته اليوم واليومين حتي يعاد ويحسبونه مريضا ¢ وعن أبي معمر أن عمر قرأ سورة مريم فسجد ثم قال: هذا السجود. فأين البكاء؟! يعني عند قوله تعالي: ¢خرُّوا سجدا وبُكيِّا¢. وكان عمر يعيش القرآن في كل حركاته وسكناته فقد مر بدير راهب فناداه: يا راهب. فأشرف. فجعل عمر ينظر إليه ويبكي. فقيل له: يا أمير المؤمنين. ما يبكيك من هذا؟ قال: ذكرت قول الله -عز وجل- في كتابه ¢عاملة ناصبة تصلي نارا حامية¢ فذاك الذي أبكاني. وعن بعض الصحابة مع القرآن قال د. رافت عثمان: هذا عبد الله بن عباس قال عنه ابن أبي مليكة: ¢ قرأ ابن عباس ¢وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد¢ فجعل يرتل ويكثر في ذلكم النشيج. وروي عن نافع انه قال: ¢ما قرأ عبد الله بن عمر هاتين الآيتين قط من آخر سورة البقرة إلا بكي ¢وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله¢ وذكر نافع أيضا أن ابن عمر إذا قرأ: ¢ألم يأنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله¢ بكي حتي يغلبه البكاء. وقرأ عبد الله بن عمر ¢ويل للمطففين¢ حتي بلغ ¢يوم يقوم الناس لرب العالمين¢ فبكي حتي خرَّ وامتنع عن قراءة ما بعدها. وقيل أن عبد الله بن عمر شرب ماء مُبرّدا فبكي فاشتد بكاؤه فقيل: ما يبكيك؟ فقال: ذكرت آية في كتاب الله -عز وجل: ¢وحيل بينهم وبين ما يشتهون ¢ فعرفت أن أهل النار لا يشتهون شيئا وإن شهوتهم الماء وقد قال الله -عز وجل-:¢أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله ¢ وكان ابن عمر يصلي بالليل فيمر بالآية فيها ذكر الجنة فيقف فيسأل الله الجنة ويدعو وربما بكي. ويمر بالآية فيها ذكر النار فيقف ويتعوذ بالله من النار ويدعو وربما بكي . وكان أبو موسي الأشعري إذا قرأ ¢يا أيها الإنسان ما غرَّك بربك الكريم ¢ سورة الانفطار, قال: يعني الجهل. ويبكي. وإذا قرأ ¢ أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو¢ بكي. تدبر وتطبيق من جانبه يؤكد الدكتور حامد ابو طالب . عضو مجمع البحوث الإسلامية . أن الصحابة كانوا يُنبِّهون ويُذكِّرون أنفسهم بأن الغاية من هذا كله إنما هي العمل بالقرآن الكريم. فمثلا هذا ابن مسعود جاءه رجل فقال له: علمني كلمات جوامع نوافع. فقال: نعم. تعبد الله ولا تشرك به شيئا. وتزول مع القرآن أينما زال. ومن جاءك بصدق من صغير أو كبير وإن كان بعيدا بغيضا فاقبله منه. ومن جاءك يكذب وإن كان حبيبا قريبا فاردده عليه ¢ وقد روي إبراهيم التيميي :¢ خلا عمر ذات يوم فجعل يحدث نفسه: كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة؟! فلم يهتد الي جواب مقنع. فأرسل إلي ابن عباس فقال: كيف تختلف هذه الأمة؟ فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين. إنا أُنزل علينا القرآن فقرأناه وعلمنا فيما أُنزل. وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرأون القرآن ولا يدرون فيما أُنزل فيكون لهم فيه رأي. فإذا كان لهم فيه رأي اختلفوا. فإذا اختلفوا اقتتلوا. أشار د. حامد أبو طالب إلي أن الصحابة علموا ما سيكون عليه حالنا مع القرآن فأثنوا علي حافظ القرآن العامل به فقال ابن مسعود: ¢ إنّا صعب علينا حفظ ألفاظ القرآن وسهل علينا العمل به . وإنّ من بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن ويصعب عليهم العمل به ¢ وبيّن في مقولة أخري الحال الصحيح لمن يحفظ القرآن ويطبقه عمليا فقال ¢ ينبغي لقاريء القرآن أن يُعرف بليله إذا الناس نائمون . وبنهاره إذا الناس مفطرون. وببكائه إذا الناس يضحكون . وبورعه إذا الناس يخلطون . وبصمته إذا الناس يخوضون . وبخضوعه إذا الناس يختالون . وبحزنه إذا الناس يفرحون¢ كما قال الفاروق عمر بن الخطاب :¢ كنا نحفظ العشر آيات فلا ننتقل إلي ما بعدها حتي نعمل بهن ¢ وروي عنه أنه حفظ سورة البقرة في تسع سنين وذلك ليس للانشغال عن الحفظ أو رداءة الفهم ولكن بسبب التدقيق والتطبيق. ودعا د. أبو طالب . مسلمي اليوم من مختلف الأعمار والأجناس أن يتدبروا ويقتدوا بتعامل الصحابة مع القرآن فقد قال عثمان بن عفان: ¢ لو طهرت القلوب لم تشبع من قراءة القرآن ¢ ووصف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه القرآن فقال لنا ولكل المسلمين: ¢ إذا أردتم العلم فانثروا القرآن فإن فيه علم الأولين والآخرين ¢ وحذرنا أنس بن مالك من مجرد الحفظ وتناقض الأقوال معه فقال : ¢ رُبَّ تال للقرآن والقرآن يلعنه ¢ وهذا عبد الله بن عمر يقول :¢ لقد عشنا دهرا طويلا وأحدنا يؤتي الإيمان قبل القرآن فتنزل السورة علي محمد صلي الله عليه وسلم فنتعلم حلالها وحرامها وأمرها وزجرها .وما ينبغي أن يقف عنده منها . ثم لقد رأيت رجالا يؤتي أحدهم القرآن قبل الإيمان. فيقرأ ما بين الفاتحة إلي خاتمته لا يدري ما أمره ولا زجره وما ينبغي أن يقف عنده منه . ينثره نثر الدقل !! ¢التمر الردئ¢ ولهذا كان حال الصحابة عند قراءة القرآن لم يكن همَّ أحدهم آخر السورة ولم يكن همّه عدد ما يختم من القرآن. الصحابيات والقرآن وتكشف الدكتورة فايزة خاطر- رئيس قسم العقيدة بكلية الدراسات الإسلامية للبنات بالزقازيق- عن أن هناك كثيرا من الصحابيات كنّ يحفظن القرآن ويحرصن علي تطبيقه عمليا في حياتهن. فهذه أسماء بنت أبي بكر يحكي عنها حفيد لها أنها قرأت يوما في الصلاة سورة الطور فلما انتهت إلي قوله تعالي ¢فمنَّ الله علينا ووقانا عذاب السموم¢ أخذت تكررها وتكررها, قال: فذهبت إلي السوق في حاجة ثم رجعت وهي مازالت تكررها. أوضحت أنه كان اهتمام أمهات المؤمنين رضي الله عنهن. وغيرهن من الصحابيات بحفظ القرآن الكريم وتعلم معانيه وتعليمه منذ نزوله علي رسول الله صلي الله عليه وسلم كاهتمام بقية الصحابة علي حد سواء. ولذا وجدنا فيهن حافظات وقارئات لكتاب الله ومفسرات لمعانيه وعالمات بأحكامه. وقد اشتهر بحفظ القرآن الكريم من أمهات المؤمنين عائشة وحفصة وأم سلمة رضي الله عنهن. وقد عدّهن أبو عبيد القاسم بن سلام وغيره من العلماء والقراء من أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم وساق الترمذيفي كتاب القراءات من سننه روايات عدة روتها أم المؤمنين عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما توضح أوجها لقراءات القرآن في بعض السور وتدل هذه القراءات علي عناية أمهات المؤمنين بحفظ كتاب الله ونقله كما سمعنه علي تنوع قراءاته . وقد حفظ القرآن من الصحابيات كأم ورقة بنت نوفل حيث جمعت القرآن الكريم كله. وكانت عناية الصحابيات في العهد النبوي وبعده بحفظ القرآن وتدبره ومعرفة معانيه وتعليمه المسلمين وهذا كان دورهن الذي أقامهن الله فيه. كالرجال. وحذرت د. فايزة من مجرد الحفظ الأصم بدون تدبر أو عمل لا نكون من الهاجرين للقرآن لأن الهجر الحقيقي للقرآن ليس بترك قراءته فقط وإنما يشمل أيضا هجر ما فيه من أوامر ونواه. وقد قال الله عز وجل علي لسان الرسول صلي الله عليه وسلم وكأنه يجسد ما نحن عليه فقال تعالي :¢ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً ¢ آية 30 سورة الفرقان . وما أجمل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حين قال :¢ لا تهذوا القرآن هذا الشعر ولا تنثروه نثر الرمل. قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة¢.