أول من جهر بالقرآن.. عبد الله بن مسعود

المنهج الإلهى - فى إصلاح البشرية وهدايتها إلى طريق الحق - يعتمد على وجود القدوة التى تحول تعاليم ومبادئ الشريعة إلى سلوك عملى، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو القدوة التى تترجم المنهج الإسلامى إلى حقيقة وواقع، قال تعالي: «لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة» (الأحزاب:21)، ولما سئلت أم المؤمنين عائشة - رضى الله عنها - عن خلقه - صلى الله عليه وسلم - قالت: «كان خلقه القرآن»! (2)، وقال صلى الله عليه وسلم: أصحابى كالنجوم بايهم اقتديتم اهتديتم، لهذا كانت لنا هذه الوقفة مع الأنبياء والصحابة والرعيل الأول من النساء المسلمات لنتعلم منهم وعنهم.
إنه الصحابى الجليل عبد الله بن مسعود -رضى الله عنه-، كان مولى لعقبة بن أبى معيط، يرعى غنمه فى شعاب مكة، فمرَّ عليه النبى ومعه الصديق -رضى الله عنه- ذات يوم، فقال له النبى: (يا غلام هل من لبن؟).
فقال عبد الله: نعم، ولكنى مؤتمن، فقال له رسول الله : (فهل من شاة حائل لم ينز عليها الفحل). فقال: نعم، ثم أعطاه شاة ليس فى ضرعها لبن، فمسح رسول الله ضرعها بيده الشريفة، وهو يتمتم ببعض الكلمات، فنزل اللبن بإذن الله، فحلبه الرسول بيده فى إناء، وشرب، وسقى أبا بكر، ثم قال النبى للضرع: (اقلص)، فجف منه اللبن، فقال عبد الله فى دهشة وتعجب: علمنى من هذا القول الذى قلته. فنظر إليه رسول الله فى رفق ومسح على رأسه، وصدره وقال له: (إنك غُليِّم معلم)، ثم تركه وانصرف. [أحمد].
سرت أنوار الهداية فى عروق ابن مسعود، فعاد إلى سيده بالغنم، ثم أسرع إلى
مكة يبحث عن ذلك الرجل وصاحبه حتى وجده، وعرف أنه نبى مرسل، فأعلن
ابن مسعود إسلامه بين يديه، وكان بذلك سادس ستة يدخلون فى الإسلام، وذات يوم، اجتمع أصحاب النبى، فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه؟ فقام عبد الله، وقال: أنا. فقالوا له: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلاً له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه. قال: دعوني، فإن الله سيمنعني. ثم ذهب إلى الكعبة، وكان فى وقت الضحى، فجلس ورفع صوته بالقرآن، وقرأ مسترسلاً: {بسم الله الرحمن الرحيم. الرحمن . علم القرآن} [الرحمن: 1-2]، فنظر إليه أهل مكة فى تعجب ودهشة، فمن يجرؤ على أن يفعل ذلك فى ناديهم؟ وأمام أعينهم؟! فقالوا فى دهشة: ماذا يقول ابن أم عبد؟!
ثم أنصتوا جيدًا إلى قوله، وقالوا فى غضب: إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد، ثم قاموا إليه، وضربوه ضربًا شديدًا، وهو يستمر فى قراءته حتى أجهده الضرب، وبلغ منه الأذى مبلغًا عظيمًا، فكفَّ عن القراءة، فتركه أهل مكة وهم لا يشكون فى موته، فقام إليه أصحابه، وقد أثَّر الضرب فى وجهه وجسده، فقالوا له: هذا الذى خشينا عليك. فقال: ما كان أعداء الله أهون عليَّ منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غدًا (أى أفعل ذلك مرة أخرى)، قالوا: لا، لقد أسمعتهم ما يكرهون.
وهاجر ابن مسعود الهجرتين، وآخى رسول الله بينه وبين الزبير بن العوام -رضى الله عنه- فى المدينة، وكان ابن مسعود من أحرص المسلمين على الجهاد فى سبيل الله، شارك فى جميع غزوات المسلمين، ويوم بدر ذهب عبد الله إلى رسول الله مبشرًا له، وقال: يا رسول الله، أنى قتلت أبا جهل، ففرح بذلك رسول الله، ووهبه سيف أبى جهل مكافأة له على ذلك.
وكان ابن مسعود أعلم أصحاب رسول الله بقراءة القرآن، ومن أنداهم صوتًا به، ولذا كان رسول الله يقول: (استقرئوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم مولى أبى حذيفة، وأبى بن كعب، ومعاذ بن جبل) [البخاري].
وقال: (من سره أن يقرأ القرآن غضًّا كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد) [البزار].
وكان رسول الله يحب سماع القرآن منه، فقال له ذات مرة: (اقرأ عليَّ)، فقال عبد الله: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: (أنى أحب أن أسمعه من غيري)، فقرأ ابن مسعود من سورة النساء حتى وصل إلى قوله تعالى: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا} [النساء: 14]، فبكى رسول الله وقال: (حسبك الآن) [البخاري].
وكان ابن مسعود يقول: أخذت من فم رسول الله سبعين سورة. وكان يقول عن نفسه كذلك: أنى لأعلم الصحابة بكتاب الله، وما أنا بخيرهم، وما فى كتاب الله سورة ولا آية إلا وأنا أعلم فيما نزلت ومتى نزلت.
وكان عبد الله بن عباس -رضى الله عنه- يقول: كان النبى يعرض القرآن على جبريل فى كل عام مرة، فلما كان العام الذى مات فيه النبى عرضه عليه مرتين، وحضر ذلك عبد الله بن مسعود، فعلم ما نسخ من ذلك وما بدل.
وقال حذيفة -رضى الله عنه-: لقد علم المحفظون من أصحاب رسول الله ( أن عبد الله بن مسعود كان من أقربهم وسيلة إلى الله يوم القيامة، وأعلمهم بكتاب الله. وكان عبد الله شديد الحب لله ولرسوله (، وظل ملازمًا للنبى، يسير معه حيث سار، يخدم النبى، يلبسه نعله، ويوقظه إذا نام، ويستره إذا اغتسل.
وكان النبى يحبه ويقربه منه، ويدنيه ويقول له: (إذنك عليَّ أن يرفع الحجاب، وأن تستمع سوادى (أسراري) حتى أنهاك) [مسلم]. فسمى عبد الله بن مسعود منذ ذلك اليوم بصاحب السواد والسواك، وقد بشره رسول الله بالجنة، وكان يقول عنه: لو كنت مؤمرًا أحدًا (أى مستخلفًا أحدًا) من غير مشورة منهم لأمرت (أى استخلفت) عليهم ابن أم عبد [الترمذي].
وقال: (وتمسكوا بعهد ابن مسعود) [الترمذي]، وروى عنه ( أنه قال: (رضيت لأمتى ما رضى لها ابن أم عبد) [الحاكم].
ويروى أن رسول الله أمر عبد الله بن مسعود أن يصعد شجرة فيأتيه بشيء منها، فلما رأى أصحابه ساقيه ضحكوا، فقال : (ما تضحكون؟ لَرِجْلُ عبدالله أثقل فى الميزان يوم القيامة من أحد)
[أحمد وابن سعد وأبو نعيم].
وفى خلافة الفاروق -رضى الله عنه- أرسل عمر إلى أهل الكوفة عمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود -رضى الله عنهما-، وقال: عمار أمير، وابن مسعود معلم ووزير، ثم قال لأهل الكوفة: لقد آثرتكم بعبد الله بن مسعود على نفسي. وجاء رجل من أهل الكوفة إلى عمر فى موسم الحج، فقال له: يا أمير المؤمنين، جئتك من الكوفة، وتركت بها رجلاً يحكى المصحف عن ظهر قلب. فقال عمر: ويحك؛ ومن هو؟ فقال الرجل: هو عبد الله بن مسعود. فقال عمر: والله، ما أعلم من الناس أحدًا هو أحق بذلك منه.
وكان عبد الله بن مسعود -رضى الله عنه- عالما حكيمًا، ومن أقواله المأثورة قوله: أيها الناس، عليكم بالطاعة والجماعة، فإنها حبل الله الذى أمر به، وإن ما تكرهون فى الجماعة خير مما تحبون فى الفرقة. وكان -رضى الله عنه- يقول: أنى لأمقت (أكره) الرجل إذ أراه فارغًا، ليس فى شيء من عمل الدنيا ولا عمل الآخرة.
وعندما مرض عبد الله بن مسعود مرض الموت، دخل عليه أمير المؤمنين
عثمان بن عفان -رضى الله عنه- يزوره، وقال له: أنأمر لك بطبيب؟ فقال
عبد الله: الطبيب أمرضني. فقال عثمان: نأمر لبناتك بمال، وكان عنده تسع بنات، فقال عبد الله: لا، أنى علمتهن سورة، ولقد سمعت رسول الله يقول: (من قرأ سورة الواقعة لا تصيبه الفاقة أبدًا) [ابن عساكر].
ويلقى ابن مسعود ربه على ذلك الإيمان الصادق، واليقين الثابت، طامعًا فيما
عند الله، زاهدًا فى نعيم الدنيا الزائف، فيموت -رضى الله عنه- سنة (32 ه)، وعمره قد تجاوز (60) عامًا ويدفن بالبقيع. وقد روى ابن مسعود -رضى الله عنه- كثيرًا من أحاديث رسول الله وروى عنه بعض الصحابة والتابعين -رضى الله عنهم-.