على مدى العشر سنوات الماضية، شهدت الإنتهاكات والجرائم المرتبطة بإستخدام السوشيال ميديا في أوروبا، زيادة في طبيعة الوقائع والعنف المرتبط بها، والتي أصبح الكثير منها الآن يشكل جرائم جنائية، ولم يسلم منها الكبير والصغير، حيث اتخذت أشكالا عديدة، منها ما يفضي إلى القتل والإنتحار، ومنها ما يفضي إلى تدمير اقتصاد الدول عبر غضب المواطنين من جرائمها التي لا تنتهي. كما باتت السوشيال ميديا، ملاذا آمنا لمجرمى الإنترنت الذين يتغذون على الإبتزاز عبر التهديدات والتشهير ونشر الصور والمقاطع وسرقة الهوية والأموال، التى تنتهي أيضا بالإنتحار والقتل، وأصبحت أيضا ملعبا لمستغلى الأطفال وسلوكياتهم، والسبب وراء ظاهرة تأجير العنف كخدمة عبر تجنيد الشباب في الجرائم المنظمة، وباب كبير للتحريض على الإرهاب، ونشر خطاب الكراهية بين الناس، والذي بدوره أيضا ينتهى بجرائم قتل. ووجد المحتالون ومروجو الشائعات وناشروا الفوضى، في السوشيال ميديا أرضا خصبة لبث سمومهم، واستخدام أساليب ملتوية للربح وتنفيذ أغراضهم، والتى من بينها السيطرة على الأجهزة بإستخدام البرامج الضارة، وسرقة البيانات الشخصية، وتنفيذ بعض أشكال الجرائم الإلكترونية، والتى تسبب جميعها أضرارا جسيمة لضحاياها. فى فرنسا، بإعتبارها الدولة التى يستخدم 80% من شعبها شبكات التواصل الإجتماعي، تواجه أشكالا مختلفة من الجرائم المرتبطة بالسوشيال ميديا، كان على رأسها انتشار ظاهرة التنمر بين المراهقين في المدارس، والتي في العديد من الحالات انتهت بكارثة فظيعة. الضحية ليندسى كانت الفتاة الصغيرة ليندسى داروين التي تبلغ من العمر 13 عاما، واحدة من القضايا الشهيرة التى شغلت الرأى العام الفرنسي، والتى انتحرت بعدما ضاقت بها الدنيا بسبب التنمر عليها من قبل أصدقائها، فى شمال باريس، ليس في المدرسة فحسب، بل كانت وسائل التواصل الإجتماعي بؤرة التنمر عليها. قبل أشهر، من الكارثة كتبت ليندسى رسالة إلى والدتها تتحدث فيه عن إمكانية انتحارها، بسبب ما تتعرض له من انتهاكات، كانت تصل فى بعض الأحيان إلى التعدى بالضرب بخلاف الإهانات المستمرة، من قبل البعض أشهرهم 3، وتركتها فى الدرج واكتشفتها والدتها التى قررت أن تتخذ موقف ضدهم، وأخطرت سلطات المدرسة والشرطة بالأمر. ولكن للأسف، على الرغم من تمكن إدارة المدرسة من إنهاء التنمر في المدرسة، إلا أنها لم تتمكن من منعه على صفحات السوشيال ميديا للطلاب، واستمر التنمر ضد ليندسى بنفس الطريقة، خاصة الإنستجرام، حيث كان المتنمرون يواصلون دوما كتابة التعليقات السيئة عنها، وهو الأمر الذى أدخلها فى حالة من الإكتئاب، ودفعها للتفكير فى الإنتحار جديا. ومع تقاعس الشرطة والمدرسة عن وضع حد للتنمر الذى تتعرض له الطفلة ليندسى، وصلت إلى قرارها اليائس، بل وعقدت العزم على تنفيذ ذلك داخل غرفتها، ولكن قبل ذلك قررت كتابة رسالة، إلى والدتها لتودعها الوداع الأخير، قالت لوالدتها "أنا آسفة لأننى فعلت ذلك، لكننى لم أستطع تحمل الإهانات صباحا ومساءا بعد الآن، والمضايقة والتهديدات". وداخل جدران غرفتها بمنزل العائلة بشمال فرنسا، قتلت نفسها، وتخلصت من حياتها، إثر ألم التنمر، ووفقا لوسائل إعلام فرنسية أكدت والدة ليندسى أنها حاولت فعل كل شيء، لكن لم يكن لدينا أى مساعدة، وتم التخلى عنهم تماما، ولم يكن لديهم أى دعم، لا قبل ولا أثناء ولا بعد الحادث، مشيرة إلى أن ابنتها كانت ضحية الإهانات المتكررة منذ بداية العام الدراسى وحتى وفاتها. المراهقة إليشا أيضا كانت السوشيال ميديا سببا فى واحدة من أشهر جرائم القتل التى شهدتها فرنسا، كان بطلها فتاة فى عمر الزهور تعرضت لأبشع أنواع التنمر والقتل، ليس على يد مجهولين أو مجرمين أو حتى عصابة متخصصة فى جرائم الخطف، بل جاءت الطعنة من أقرب الأقربين الذين كانوا أصدقاء الأمس وتحولوا فيما بعد إلى ألد الأعداء. واحتلت قضية إليشا اهتمام الفرنسيين بسبب ما تعرضت له من وحشية من قبل صديقيها فى المدرسة، الذين لم يرحموا توسلاتها وألقوها فى النهر حية حتى ماتت غرقا بعد تعذيبها، وكما جاء فى التحقيقات لم يكونوا يفترقوا إلا عند النوم فقط، ولكن تلك الصداقة تحولت إلى عداوة كبيرة. فى أحد الأيام وعندما كانت إليشا متوجهة إلى المدرسة، كان الجميع حولها يتهامسون وينظرون إليها بنظرات غضب وتعجب فى نفس الوقت، لكنها لم تدرِ أن هناك كارثة حلت بها، حتى فوجئت بإدارة المدرسة تستدعيها، وكانت المفاجأة بإنتشار صورة خاصة لها على السوشيال ميديا وخاصة الفيس بوك وعلى الجروبات بين الطلاب بالمدرسة. عادت الطالبة القتيلة إلى منزلها فى حالة من الإكتئاب ولم تتمكن من العودة إلى المدرسة مرة أخرى، حيث أنها لم تستطع أن تبرئ نفسها من نشر الصور، إلا أن عددًا من زملائها تتبعوا القضية وتمكنوا من معرفة ما حدث، حيث أكدوا لها أن هاتفها تم اختراقه وتسريب كافة الصور من داخله. عندما علم المجرمان أن إليشا توصلت إليهما، وعلمها بأنهما وراء اختراق هاتفها وتسريب صورها وفضحها بهذا الشكل البشع، قررا أن يخططان لجريمتهما الأكبر وتمكنا من استدراجها بجوار نهر السين من أجل الإعتذار لها، حيث كان المشهد الأخير فى حياتها هناك. ما إن وصلت حتى تعديا عليها بالضرب المبرح، وقاما بإلقائها فى النهر وهى مازالت على قيد الحياة حتى غرقت، وبعد عام من الجريمة حكمت المحكمة على المتهمين الشاب والفتاة بالسجن عشر سنوات بتهمة قتلهما المراهقة إليشا، ولكن السوشيال ميديا ظلت طليقة دون محاكمة. على المستوى العام، شهد الفرنسيون الجرائم والعنف الذى جاء بسبب انتشار السوشيال ميديا وعدم وجود رقابة عليها، حيث كان لها دورا رئيسيا فى شدة أعمال الشغب التي اندلعت فى فرنسا في يونيو 2023، وكانت تلك المنصات فى قلب الأحداث الدامية فى المدن والميادين المختلفة. أصابع الإتهام كلفت الأضرار الناجمة عن تلك الأحداث الإقتصاد الفرنسى غاليا، حيث تعرض أكثر من 200 محل تجارى للنهب الكامل، ودُمر 300 فرع مصرفى، وتعرض مئات السيارات للتدمير والحرق، وتم سرقة كل شيء، حتى صناديق الأموال الخاصة بالتبرعات تم نهبها، قبل إحراقها لتدميرها، ودفعت الشركات ما يقرب من مليار يورو، بخلاف الأضرار التى لحقت بالسياحة لعدة أشهر. أشار المسؤولون والمشرعون بأصابع الإتهام إلى نشر الرسائل المحرضة على العنف على السوشيال ميديا، حتى أن رئيس الجمهورية ماكرون استنكر ما شاهده على تطبيقات سناب شات وتيك توك وفيس بوك وغيرها من تأجيج الأوضاع فى الشوارع ووصفها بأنها كان لها تأثيرات كبيرة على أعمال الشغب العنيفة. وفى مثل تلك الظروف، أكد المشرعون أنهم يواجهون صعوبة في إنفاذ القانون مع شبكات التواصل الإجتماعى، التى تعتمد على مجموعات كبيرة من المحرضين الذين لا يتواجدون فى فرنسا، علاوة على أن تلك الشبكات تعتمد مع السلطات الأمنية على فكرة عدم الكشف عن الهوية. قواعد صارمة وفى رحلة البحث عمن سيدفع فاتورة المسؤولية المدنية والجنائية عن التحريض والعنف خاصة من قبل المراهقين، تبين في معظم القوانين الأوروبية؛ أن الوالدين هم المسئولين عن الأضرار التى يسببها أطفالهم القاصرون الذين تحت فى رعايتهم، حيث تتراوح العقوبة بين الغرامات وتصل إلى السجن. وأمام ذلك فتحت السلطات الأوروبية تحقيقات مختلفة مع منصات السوشيال ميديا، واتجه لفرض قيود وقوانين جديدة على منصات التواصل الإجتماعى، خاصة التيك توك والفيس بوك وانستجرام، وذلك بسبب ما يحدث فى هذا الفضاء الإلكترونى، والتى وصفها المسئولون بأنها تهدف إلى نشر الكراهية والعنف والنصب على المواطنين والإبتزاز، وهو ما يؤدى إلى زعزعة استقرار المجتمعات الأوروبية. ويسعى الإتحاد الأوروبى من خلال القوانين الجديدة حماية الأطفال والمراهقين، من مخاطر السوشيال ميديا، وبالأخص التى يتم من خلالها عمليات ابتزاز ونصب من أجل الربح، والتنمر الإلكترونى الذى يضر بالمراهقين ويدفعهم للإنتحار، كما تحاول حماية المجتمعات من الشائعات والأخبار الكاذبة، ومحاولات الإستقطاب بدافع العنصرية والإرهاب. ويشتهر البلوجرز فى أوروبا، بجمعهم أعداد ضخمة من المتابعين، تصل فى بعض الأحيان إلى عشرات الملايين، وهو ما جعل تحقيق الأرباح من المشاهدات والهدايا سهل بالنسبة لهم، ولكن أغلبهم يقومون بعمليات احتيال لزيادة المشاهدات وتحقيق أرباح، حيث يواجه المخالفون غرامات تصل إلى 6% من إجمالى مبيعاتهم السنوية، أو حتى حظر العمل فى أوروبا فى حالة ارتكاب انتهاكات خطيرة ومتكررة. أيضا يشكل الإحتيال والتزوير بإستخدام وسائل الدفع غير النقدية تهديدا خطيرا لأمن الإتحاد الأوروبى ويوفر مصدرا مهما للدخل للجريمة المنظمة، حيث بات يتم استقطاب الضحايا فى المقام الأول عبر منصات التواصل الاجتماعى، ووصلت التكلفة العالمية السنوية للجرائم الإلكترونية 5,500 مليار يورو. وهو ما دفع أوروبا لإنشاء المركز الأوروبى للجرائم الإلكترونية، والذى قام بإصدار قواعد أكثر صرامة ودفع المنصات الإلكترونية والسوشيال ميديا أن تكون أكثر مسؤولية فى إدارة المحتوى، و توفر نهجا مشتركا للكشف عن المحتوى عبر الإنترنت وإزالته ومنع إعادة ظهوره بسرعة وبشكل استباقى. اقرأ أيضا: خلاف على «انستجرام» بين مراهقات يتحول إلى عنف خارج أسوار المدرسة