لم تعرف البشرية دستوراً صان حقوق مخالفيه. وجعلها من صلب عقيدة معتنقيه مثل دستور الإسلام. وذلك لأن من الأصول الحضارية التي أقام عليها الإسلام حضارته الأولي الانفتاح علي الآخرين والاستفادة منهم وذلك في إطار أخلاقه السمحة ومبادئه السامية مع الاحتفاظ بالعقيدة والدعوة إليها بالحكمة والموعظة الحسنة. وأعطي الإسلام الأولوية في هذا الانفتاح وذلك التسامح لأهل الكتاب. ولقد ظهر حرص الإسلام علي مد جسر المعايشة مع أهل الكتاب في وقت مبكر قبل الشروع في بناء دولته. وذلك لأن أهل الكتاب وان خالفونا في المعتقد لكننا اتفقنا في أصل الرسالة ومصدرها السماوي. وهذه بعض مظاهر تهيئة المسلمين للمعايشة مع أهل الكتاب قبل الهجرة. فقبل الهجرة بسبع سنوات دارت رحي حرب ضروس بين فارس والروم. وكان المجتمع المكي بكافة فئاته يرقب هذه الحرب. فأهل الشرك يرغبون في نصرة فارس لأنهم عباد أوثان مثلهم. وأهل الإيمان يودون نصرة الروم علي فارس فهم أهل كتاب مثلهم. لكن شاء الحق جلاله ان تنهزم الروم أمام فارس. فساء ذلك المسلمين. حيث لقي المشركون المسلمين فعيروهم بتلك الهزيمة قائلين "انكم أهل كتاب. والنصاري أهل كتاب ونحن أميون. وقد ظهر إخواننا من أهل فارس علي إخوانكم من أهل الكتاب. وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم فأنزل الله: "الم غلبت الروم في أدني الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم" الروم 1 5 فخرج أبوبكر الصديق إلي الكفار فقال: أفرحتم بظهور إخوانكم علي إخواننا. فلا تفرحوا. ولا يقرن الله أعينكم. فوالله ليظهرن الله الروم علي فارس وتمر الأيام سراعا ليثبت صدق هذا الوحي فبعد سبع سنوات قدر الله جل جلاله ان تنتصر الروم علي فارس في الوقت الذي انتصر المسلمون علي صناديد قريش ببدر فكانت الفرحة فرحتين فرحة بنصرة المسلمين علي القرشيين وفرحة بنصرة النصاري علي الفارسيين. ثم جاءت صورة عملية أخري والمسلمون لازالوا أيضا بمكة وقد بلغ العذاب بهم أشده. فأمرهم الرسول بالهجرة الاولي ولكن إلي أين يهاجرون تاركين أوطانهم؟! الجواب الي بلاد الحبشة حيث دولة يحكمها ملك نصراني يلقب بالنجاشي وقد سمع عدله في الآفاق حتي قال المصطفي صلي الله عليه وسلم لأصحابه ان بأرض الحبشة ملكا لا يظلم أحد عنده. فالحقوا ببلاده حتي يجعل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه. وقد صار عدله درعا حصينا للجالية الاسلامية ببلاد الحبشة حتي قالت أم سلمة وهي تذكر ايام هجرة الحبشة "فأقمنا بخير دار مع خير جوار" وقد احسن سفير الاسلام الاول "جعفر بن أبي طالب" في عرض الاسلام في أبهي حلة واظهار عقيدته في أوضح صورة. ولازالت صورة جعفر رضي الله عنه محفورة في جبين التاريخ وهو يتلو علي النجاشي صدرا من سورة مريم عليها السلام حتي بكي النجاشي وبللت دموعه لحيته وأبكي اساقفته من حوله ليسجل القرآن الكريم تلك المودة والمحبة التي كانت بين ملك الحبشة النجاشي وبين أهل الاسلام الاول في قول المولي جل وعلا "لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصاري ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وانهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلي الرسول تري أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا ءامنا فأكتبنا مع الشهدين وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين المائدة 82 84 لقد كانت هجرة الحبشة نموذجا عمليا علي امكانية معايشة المسلمين مع مخالفيهم وتدريبا لهم للانفتاح علي الآخرين مع المحافظة علي مبادئ شريعتهم. ولم تتوقف مسيرة الاسلام في توطيد تلك المعايشة والمعاملة مع أهل الكتاب بعد الهجرة الي المدينة لبناء الدولة الاسلامية الاولي. بل زادت وكان من أجل صورها.