عندما اشتد الأذى بالمسلمين فى مكة لم يكن هناك بد من الهجرة بعيدا عن هذا العذاب، ولهذا أمر الرسول بعضا من الصحابة أهل مكة بالهجرة إلى الحبشة.. لماذا الحبشة بالذات؟ يقول رسول الله: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا، لا يظلم عنده أحد، وهى أرض صدق حتى يجعل الله لكم مخرجا مما أنتم فيه». رسول الله لم يفكر فى هداية النجاشى ملك الحبشة أولا للإسلام، ولم يضع الإسلام شرطا لدولة تجير المستجير، وتنصر المستضعف، وإنما كل مزايا هذا الملك وقتها أنه عادل.. لا يظلم عنده أحد.. يعلم رسول الله أن العدل هو أساس بناء الدولة وهو صمام الأمان لتعامل الشعوب، وهو نازع فتيل الطائفية والعصبية والجاهلية.. يعلم رسول الله بحكمته أن العدل وحده هو من سيجعل الملك يجير أصحابه، ويذود عنهم ويحميهم عندما يأتيه أهل قريش طلبا لهم، يعلم أن العدل هو الذى سيجعل النجاشى يفصل بين أهل قريش ومنهم عمرو بن العاص قبل إسلامه وبين أصحابه المهاجرين بالحق، وتفعيل نعمة العقل التى يهبها الله للمسلم والكافر.. يصدح كل فريق بحجته وبروعة بيانه، ويظن أهل قريش أن النجاشى لفريقهم أقرب، فالمصالح بين قريش والحبشة متواصلة فى التجارة والمعاملات، ولكن عدل النجاشى -غير المسلم وقتها- يقف لهم بالمرصاد، ويقطع السبيل على عمرو بن العاص ومن معه ويعودون إلى مكة بخفى حنين. والصدق لا يفترق عن العدل، فلا بد لأرض العدل أن يكون الصدق دستورها، دستور حاكمها وشعبها على السواء، ولذلك عندما أراد عمرو بن العاص أن يوغر صدر النجاشى على المسلمين المهاجرين عنده، قال له إن المسلمين يقولون كذا وكذا فى مريم والمسيح (النجاشى كان نصرانيا)، فطلب النجاشى المهاجرين ليعرف منهم رأيهم فى ما هو منسوب من عمرو بن العاص إليهم، ولما أجابه جعفر بن أبى طالب بفصاحته، وقرأ له آيات من سورة مريم -وهو اختيار غاية فى التوفيق- أقر النجاشى بصدق ما قال جعفر، وقال: إن هذا والذى جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، فوالله لا أسلمهم أبدا.. كان من الممكن أن ينأى النجاشى بنفسه عن كل هذه الصراعات، ويرد المهاجرين إلى قريش، أو يتعالى على جعفر بن أبى طالب وينكر ما قرأه من كتاب الله، ولكنه الصدق والعدل، كما قال رسول الله فى أمره لهم بالهجرة. إن رسول الله لم يشترط لهجرة أصحابه أن يكون بلد الهجرة مسلما، وحاكمها مسلما، وإنما اشترط قيما عامة يهنأ الجميع بالعيش تحت ظلالها متى تحققت، هذه القيم هى التى تدفع البلاد إلى التقدم وإلى حجز الأماكن المتصدرة فى تاريخ الأمم.. العدل، الحق، الحرية، المساواة، الصدق، الديمقراطية، الشفافية، وغيرها.. إذا تأملت كل القيم الإنسانية التى تنادى بها كل المنظمات العالمية ستجد لها مكانا بارزا فى الإسلام، وستجد مِن رسول الله وصحابته ما يبرز هذه القيم أفعالا لا أقوالا، اقتناعا لا تشدقا، وما جدوى كل هذه القيم ما دامت على الورق، وتجمعها -أيضا على الورق- فى البطاقة مجرد كلمة.. «مسلم»؟ سيقول البعض إن رسول الله كان مضطرا إلى أن يهاجر أصحابه إلى بلد وحاكم غير مسلمين، فلم يكن الإسلام انتشر وقتها، ولم يرسل الرسول رسله إلى الأمصار بعد.. للإجابة عن هذا (الفَتْى) عليك أن تلاحظ تاريخ عودة مهاجرى الحبشة.. إن رسول الله هاجر إلى المدينة وأسس دولته الإسلامية الآمنة المطمئنة التى يأمن الجميع فيها على نفسه وعرضه وماله، ومع ذلك لم يعد مهاجرو الحبشة إلا بعد صلح الحديبية، تركهم رسول الله فى أرض الكفر، لأنهم يمثلون خطا دعويا فى بلاد الحبشة، ويأمن عليهم هناك فى ظل عدل وصدق النجاشى الكافر وقتها. إن الدولة لا يتوقف الاعتراف بإنجازاتها ونصرتها والعمل على تقدمها على إسلامها من عدمه، إنما يتوقف على تغلغل القيم الإنسانية فيها وتطبيقها على أرض الواقع وامتثال الناس لها.. باختصار، الدولة لا تحتاج إلى بطاقة المسلمين، وإنما تحتاج إلى عدلهم وصدقهم.