قال تعالي: "وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأعَدّواْ لَهُ عُدّةً وَلََكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ*لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مّا زَادُوكُمْ إِلاّ خَبَالاً ولأوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمى بِالظّالِمِينَ*لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلّبُواْ لَكَ الاُمُورَ حَتّيَ جَآءَ الْحَقّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ".وردت هذه الآيات الكريمة في سورة التوبة التي سميت بالسورة الفاضحة من حيث إنها عنيت بكشف فضائح المنافقين والمخذلين الذين يندسون في الأمة ليحدثوا بلبلة في الأفكار واضطرابًا في النفوس وهلعًا من العدو.. انطلاقًا من طبعهم المتأصل في نفوسهم وهو الضعف والحذر. والخوف والجبن عن ملاقاة الأعداء واسترخاص الحياة في سبيل الله سعيًا إلي حياة العز والقوة والمجد.. هؤلاء المنافقون في كل أمة هم آفتها وجرثومة الفتك والدمار بها.. ذلك أن لديهم من فصاحة اللسان . والكلام المعسول . والتعليلات الملفقة.پپوالقدرة علي اختراع ما يثير الشكوك والريب. وما يثبط العزائم والهمم. وما يسبب الفرقة والخلاف بين الصفوف. ما يجعل البسطاء يتأثرون بما يسمعونه منهم دون تحرّي ولا تدبر. وهذا ما يقرره القرآن الكريم عنهم: "لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مّا زَادُوكُمْ إِلاّ خَبَالاً ولأوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمى بِالظّالِمِينَ" ويشتد نشاط هؤلاء في أيام الحروب ..إذ من عادتهم الصيد في الماء العكر. ولقد اهتمت هذه السورة الكريمة ببيان مواقفهم السخيفة في غزوة تبوك.. تلك الغزوة التي دعا إليها رسول الله صلّ الله عليه وسلم في وقت القيظ والحر الشديد.. ذلك الموعد الذي تميل النفس فيه إلي الراحة. والتمتع بالظل والماء البارد.. دعا المؤمنين إلي هذه المعركة مع أقوي دول العالم حينذاك.. مع دولة الرومان العظمي في وقت كانت هي المنتصرة علي منافستها فارس .. لما علم تجمع قواتها لحرب المسلمين.. ولأول مرة يعلن رسول الله صلي الله عليه وسلم! عن مقصده في غزواته.. فقد كانت لديه من الحكمة في القيادة ما يجعل كل تحركاته السابقة لهذه الغزوة في سرية تامة حتي لا يتسرب الخبر إلي العدو حتي يفاجئه بالضربة القاضية دون تأهب منه ولا استعداد .. حرصًا منه صلوات الله وسلامه عليه علي عدم إراقة الدماء . وعلي رسم الخطط بما تتطلبه المواقف الحازمة .. ولكنه في هذه الغزوة بالذات أعلن عن مقصده .. إذ أنها بعيدة وشاقة . والوقت صيف قائظ. والعدو في أوج عظمته السياسية والعسكرية.. ومن ثم كان لابد من إعلام أصحابه حتي يستعدوا استعدادًا كافيًا.. فليست المعركة عادية كهذه المعارك التي خاضها من قبل .. وصدر الأمر بالنفير العام. وحرك الإيمان نفوسًا بذلت كل ما تملك في سبيل الله. كما فعل سيدنا عثمان بن عفان وغيره من الصحابة البررة.. وهنا .. وأمام هذه الأخطار التي يترقبها دائمًا المنافقون انخلعت قلوبهم. وتوافدت علي رسول الله صلي الله عليه وسلم منهم الوفود يعتذورن عن الخروج معه بأعذار واهية حتي بلغت تفاهة أعذارهم أن جاء رجل منهم يعتذر بأنه يحب النساء وأنه لا يطيق إذا رأي نساء الروم أن يفتن بهن..هكذا يدعي أنه يخاف الفتنة بالنساء مع أنه بتقاعسه يدعو إلي فتنة أكبر.. ومن هنا قال عنه رب العزة: "وَمِنْهُمْ مّن يَقُولُ ائْذَن لّي وَلاَ تَفْتِنّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنّ جَهَنّمَ لَمُحِيطَةى بِالْكَافِرِينَ". إنهم حاقدون علي الإسلام والمسلمين كلما رأوه ينتصر ويظهر حَزَّ ذلك في نفوسهم . وساؤوهم وكانوا في كرب عظيم. وإن أصيب المسلمون بمحنة فرحوا وشمتوا وأطلقوا الإشاعات المغرضة الكاذبة قائلين: نحن أبعد نظرًا.. لقد علمنا النتيجة قبل حصلوها فلم نخرج معه ؟! .. وهذا ما يقرره القرآن الكريم: "إِن تُصِبْكَ حَسَنَةى تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةى يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلّواْ وّهُمْ فَرِحُونَ" ويخرس القرآن ألسنتهم بصوت الإيمان "قُل لّن يُصِيبَنَا إِلاّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَي اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُؤْمِنُونَ" ..والمؤمنون لا يصيبهم شر مطلقًا .. فإنهم لا ينتظرون من الحياة إلا أحد أمرين لا ثالث لهما : إما أن يعيشوا أحرارًا في عزة وقوة ونصر يقهر كل الأعداء. وتعلو معه كلمة الله . يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.. وإما أن يموتوا بررة شهداء تستقبلهم حياة أخري أفضل من تلك الحياة الدنيا "وَلاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءى عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ*فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مّنْ خَلْفِهِمْ أَلاّ خَوْفى عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ". أما المنافقون فلا مصير لهم سوي أمر واحد هو العذاب .. إما من عند الله . وإما بأيدي المؤمنين "قُلْ هَلْ تَرَبّصُونَ بِنَا إِلاّ إِحْدَي الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابي مّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبّصُوَاْ إِنّا مَعَكُمْ مّتَرَبّصُونَ". وللحديث بقية في العدد القادم إن شاء ا لله