كثيراً ما تضيع أصوات المنصفين من الكتاب الغربيين -وهم قلة- وسط ضوضاء الكثرة الجاحدة أو الحاقدة منهم. ووسط تقصير المسلمين في حق دراسة تراثهم وتحقيقه والاعلام به. وفي القيام بواجب إحيائه. وعلي ذلك فإن هذه القرون الطويلة التي كان فيه المسلمون هم حملة مشاعل المعرفة في جميع فروعها. يتم إسقاطها من حساب التاريخ عن جهل فاضح أو عمد واضح. أو عن كليهما معاً. وحين أفاق الغرب في القرن الحادي عشر الميلادي من جهالة العصور المظلمة. ليجد نفسه أمام حضارة إسلامية شامخة البناء بهرته. فاندفع طلاب العلم والمعرفة الغربيون إلي ترجمة كل ما استطاعوا ترجمته من مؤلفات المسلمين. وإلي محاكاة كل ما أمكنهم محاكاته من فنونهم. وصناعاتهم. ونظمهم. وأدواتهم» مما أدي إلي قيام الصحوة التي يطلق عليها المؤرخون اسم "النهضة الاوروبية في القرن الثاني عشر الميلادي" أو "النهضة الوسيطة". وعلي الرغم من أن هذه النهضة كانت في أساسها. وفكرها. ومادتها العلمية مستمدة من الحضارة الإسلامية إلا أنها وقفت من الإسلام موقفاً معادياً. لم يمكنها من استيعابه فكراً وعقيدة. فضلاً عن قبوله نظاماً شاملاً للحياة» وذلك لأن سرعة انتشار الإسلام انتشاراً آمناً. تلقائياً. في مساحات واسعة من العالم. وبين كثير من الشعوب التي كان بعضها قد اعتنق النصرانية ديناً قد أفزع الكنيسة لدرجة أنها رفضت مجرد النظر في دعوة خاتم الأنبياء والمرسلين. علي الرغم من بقاء العديد من الإشارات القاطعة إلي بعثته الشريفة في الكتب التي بين أيديهم -رغم تحريفها- فوقفت أوروبا من تلك الدعوة موقف المعاداة والرفض والمقاومة والتشويه. وقد أفزع الغربيين أنه لم يكد ينقضي قرن واحد من الزمان علي بعثة رسول الله -صلي الله عليه وسلم- حتي كانت الدولة الإسلامية قد امتدت من المحيط الأطلسي حتي المحيط الهندي شاملة كثيراً من الأراضي التي كانت تحت سيطرة الكنيسة وهيمنتها. وفي ذلك يروي الدكتور سعيد عبدالفتاح عاشور في كتابه "المدنية الإسلامية" نقلا عن المؤرخ الإنجليزي بيكر "Becker" ما ترجمته: "إن أوروبا العصور الوسطي نظرت إلي انتشار الإسلام من وجهة النظر الكنسية الضيقة. وكأن الكنيسة قد أفزعها وآلمها انتشار الإسلام في بلاد ترتبط بأصول المسيحية ونشأتها -مثل الشام ومصر وشمال العراق- فراحت تدَّعي أن الإسلام لم يأخذ سبيله إلي هذه البلاد إلا بحد السيف". ولكن "بيكر" يؤكد أن هذه النظرة -التي مازال بعض المتعلمين في أوروبا حتي اليوم يرددونها. ويعتقدون في صحتها- هي بعيدة عن الواقع» لأن الوثائق المعاصرة كلها تثبت أن العرب قد تسامحوا مع أهالي البلاد المفتوحة. ولم يفرضوا عليهم ديانة معينة. وإنما فرضوا فقط سيطرتهم السياسية» فسيطرة العرب السياسية هي التي انتشرت بقوة السلاح. أما الديانة الإسلامية نفسها.. فقد وجدت سبيلها إلي قلوب الغالبية العظمي من أهالي البلاد المفتوحة. بدليل ما أجمعت عليه الوثائق المعاصرة من تسامح العرب المطلق مع المسيحيين واليهود علي حد سواء. وهو تسامح لم يحظوا به في ظل حكامهم السابقين". والحقيقة التي يغفل عنها الكثيرون أن الفتوحات الإسلامية لم يُقصد منها الهيمنة علي الآخرين. بل كان كل هدفها إبلاغ رسالة رب العالمين دون أدني قدر من الإكراه أو الإجبار. كانت نهضة أوروبا في القرن الثاني عشر الميلادي "أو النهضة الوسيطة" هي الشعلة التي أضاءت الطريق أمام النهضة الإيطالية في القرن الخامس الميلادي حين زاد الاتصال الحضاري بين غرب أوروبا ومراكز الحضارة الإسلامية في كل من اسبانيا وصقلية. وعبر الحروب الصليبية. وفوق ذلك كله عبر حركة الترجمة للمؤلفات العربية إلي اللغة اللاتينية -وقد كانت لغة العلم عندهم آنذاك-. وفي ذلك يقول "جوستاف جروينباوم" في كتابه "حضارة الإسلام" ما ترجمته: "إن الغرب الأوروبي لم يكتف في كثير من الحالات بالوقوف علي المادة اليونانية التي قدمها له المسلمون لتلك المادة. فمنذ القرن الثالث عشر -مثلاً- حرصت جامعة باريس علي الربط بين فلسفة أرسطو وشروح ابن رشد لهذه الفلسفة. وكان أهم مراكز الترجمة من العربية إلي اللاتينية في كل من الأندلس وصقلية. وكان من الغربيين الذين قصدوا اسبانيا في القرن الثاني عشر للنهل من مصادر الحضارة الإسلامية: "أديلارد" "Adelard" الإنجليزي. وهيرمان "Herman" الألماني. وجيرارد الإيطالي "Gerard of Cremona". وكلى منهم تعلّم العربية. وقام بدور في ترجمة المؤلفات العربية إلي اللغة اللاتينية. ويذكر أن جيرارد وحده ترجم أكثر من سبعين مؤلفاً عربياً. فقد أقام في طليطلة ونقل إلي اللاتينية فيما نقل فلسفة الكِندي والمجسطي. هذا بالإضافة إلي المستعربين من أهل اسبانيا من المسيحيين واليهود الذين قاموا أيضا بترجمة كثير من المؤلفات العربية من أمثال "دومينيكوس جنديسلافي" "Dominicus Gondislavi" و"بطرس ألفونسي" "Petrus Alphonsi" و"حنَّا الأشبيلي" "John of Seville" و"إبراهام بن عزرا" اليهودي "Abraham Ben Ezra" و"روبرت الشستري" "Robert of Chester" الذي قام بترجمة معاني القرآن الكريم إلي اللاتينية لأول مرة في مطلع القرن الثاني عشر الميلادي. و"ريموند" "Reymond" رئيس أساقفة طليطلة الذي أنشأ مكتباً كبيراً للترجمة في النصف الأول من القرن الثاني عشر الميلادي. وقد قام هذا المركز بترجمة كثير من أمهات المراجع العربية إلي اللغة اللاتينية. وكان من أعلام الترجمة من العربية في مطلع القرن الثالث عشر الميلادي "ألفريد" "Alfred" الإنجليزي. و"مايكل سكوت" "Michael Scott" المستشرق الاسكتلندي الذي ترجم فيما ترجم خلاصة الفلسفة لابن سينا. وشروح ابن رشد علي أرسطو. أما جزيرة صقلية فقد سعدت بحكم إسلامي دام قرابة القرنين من الزمان "من 290 - 484ه الموافق 903- 1091 تقريباً". ثم احتفظت بثقافتها العربية الإسلامية. وبنسبة كبيرة من المسلمين بعد سيطرة النورمانديين عليها. فكان لها -بحكم ذلك. وبحكم توسطها بين أوروبا النصرانية وشمال افريقيا المسلم- دور رائد في حركة الترجمة من العربية إلي اللاتينية وكان من أشهر الذين قاموا بذلك "ايوجينيوس البالرمي".