لقد شرع الإسلام الوصية عند توافر أسبابها وبزوغ بواعثها وذلك لحكم جليلة تجمع بين مصالح العباد في الدنيا ورجاء الثواب في الآخرة فهذه البواعث الشريفة تنال بها الدرجات العالية الرفيعة وقد أوضحنا فيما سبق أنه ليس كل وصية تصدر من الموصي يقرها الشرع أو يرضي عنها العقل بل يختلف حكمها حسب حالها فالوصية عند الفقهاء الأربعة تعتريها الأحكام الشرعية الخمسة فقد تكون واجبة مثل الوصية برد الودائع والديون وبما عليه من الفرائض والكفارات وفدية الصيام ونحو ذلك. وقد تكون مستحبة في سبل البر كالوصية للغريب الفقير وقد تكون مباحة كالوصية لغني إذا لم يقصد بها الفدية وقد تكون مكروهة كالوصية لأهل الفسوق والمعاصي وقد تكون محرمة باطلة إذا كانت بما لا يجوز شرعاً كالوصية بالنياحة ونحوها. وبناء علي ما تقدم فبصفة عامة الوصية غير واجبة علي رأي الجمهور خلافاً لمن قل بوجوبها للأقربين الذين لا يرثون خاصة وهو رأي طاوس وقتادة والفحال ومسروق والحسن وجابر بن زيد واختاره الطبري وهو قول داود وابن حزم واستدلوا بالآية "كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً علي المتقين" واستدلالهم بالآية من وجهين الأول أن الآية محكمة غير منسوخة ولكن ظاهرها العموم ومعناها الخصوص لأن لفظ الأقربين يشمل الوارثين وغيرهم فخص فيها من يرث بآية الفرائض ولحديث "لا وصية لوارث" وبقي حق من لا يرث من الوالدين والأقربين من الوصية علي حاله. والوجه الثاني أن الوصية كانت واجبة للوالدين والأقربين مطلقاً بنص آية الوصية ولكنها نسخت في حق من يرث فقط وبقيت في حق والوالدين والأقربين الذين لا يرثون. ومن تتمة هذا الرأي عند بعض القائلين به أنهم يرون عدم صحة الوصية لغير ذوي القرابة إذا وجد من ذوي القرابة من هو محتاج وهو عند طاوس والفحال وذكر صاحب المغني أن الأولي أن يترك الوصية للأقارب الفقراء من غير الورثة وذلك في قول عامة أهل العلم حتي قال بن عبدالبر لا خلاف بين العلماء فما علمت. ويري ابن حزم في كتابه المحلي في الفقه ان الموصي ان مات ولم يوصي تجب وصية في تركته لأقاربه غير الوارثين لأن الوصية عنده فرض واجب الأداء فان قصر المتوفي فيما يجب. كان علي من يلي أمر المسلمين تنفيذ هذا الواجب. وقد كان هذا الرأي سبباً بني عليه المشرع المصري في قانون الوصية رقم 71 لسنة 1946 احكامه في شأن الوصية الواجبة حيث يري ابن حزم بصفة عامة وجوب الوصية دون تعيين لصفة الموصي له- أخذاً من ظاهر الحديث الشريف "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي به يبيت ليلتين إلا ووصيته عنده مكتوبة" ولم يكن أمر الوصية الواجبة معروفا في قانون الوصية المصري حتي صدور قانون الوصية رقم 71 لسنة 1946 والذي جاء في المادة 76.77.78.79 باحكام الوصية الواجبة حيث خلصت المادة 76 علي أنه إذا لم يوص الميت لفرع ولده الذي مات في حياته أو مات معه ولو حكماً بمثل ما كان يستحقه هذا الولد ميراثاً في تركته لو كان حياً عند موته وجبت للفرع في التركة وصية يقدر هذا النصيب في حدوث الثلث بعدة شروط. الأول- أن يكون هذا الفرع غير وارث. الثاني- أن لا يكون الميت قد أعطي هذا الفرع بغير عوض من طريق آخر قدر ما يجب له فان كان اعطاه أقل منه وجبت له وصية بقدر ما يكمله. الثالث- أن تكون هذه الوصية لأهل الطبقة الأولي من أولاد البنات مثل بنت البنت أو ابن البنت أو أولاد الأبناء من أولاد الظهور وإن نزلوا مثل ابن الابن وابن ابن الابن. الرابع- أن لا يزيد مقدار الوصية الواجبة علي الثلث فلهم نصيب الأصل أو الثلث أيهما أقل. الخامس- أن لا يكون صاحب الوصية الواجبة محجوبا من أصله حيث يحجب كل أصل فرعه دون فرع غيره فوجود الابن يحجب ابن الابن وابن الابن الأقرب يحجب الأبعد. ويقسم نصيب الأصل علي فروعه قسمة الميراث أي للذكر مثل حظ الانثيين. ونظمت المادة 77 حالة ما إذا أوصي لمن وجبت له الوصية الواجبة بأكثر من نصيبه كانت الزيادة وصية اختيارية وان أوصي له بأقل من نصيبه المستحق بالوصية الواجبة وجب له ما يكمله وان أوصي لبعض من وجبت لهم الوصية دون البعض وجب لمن لم يوصي له بقدر نصيبه. وقد أكدت المادة 78 بأن الوصية الواجبة تقدم علي غيرها من الوصايا وقد ورد في المذكرة التفسيرية لهذا النص انه استند علي ما نقله ابن مفلح عن الإمام أحمد وما روي عن طاوس. ومن الجدير بالذكر أن اللجنة التي وضعت القانون لم تأخذ برأي ابن حزم كلية حيث إنه يري تطبيق الوصية الواجبة علي الاقارب غير الوارثين في حين ان القانون قصر الوصية الواجبة علي الاحفاد فقط غير الوارثين وكذلك خصصت الوصية الواجبة في مقدارها بالثلث أو نصيب الأصل أيهما أقل يعتبر هذا اجتهادا مردود عليه باستحباب ان تكون الوصية دون الثلث إذ أن ذلك رأي السلف وما ذهب به ابن عباس حيث قال: "لو غض الناس في الوصية من الثلث إلي الربع لكان أحب إلي لأن رسول الله -صلي الله عليه وسلم-قال الثلث كثير. ويقول قتادة أوصي أبوبكر بالخمس وأوصي عمر بالربع والخمس أحب إلي". وهو ما جنح إليه الحنابلة من انه يشترط في اباحة الوصية للفقير ان تكون بالخمس حتي لا يتأذي الورثة وحقيقة الأمر ان الوصية الواجبة كثرت فيها الأقوال وتفرعت بخصوصها الأدلة وقد حاولنا قدر الاستطاعة بيان أهم نقاطها وأياً كان الاختلاف بين العلماء في الوصية للوارث أو الوصية الواجبة فنحن ننصح من يستحقهما ان كان غنياً أن يستعفف لرجحان القول بعدم جوازهما وان كان فقيرا فليأكل بالمعروف وهذا من مرونة الشريعة المباركة وصلاحيتها في جميع الأحوال فلله الحمد والمنة.