قصتان عن قطع يدإنسان تحت عجلات القطار. الأولي مصرية حضرتها بنفسي أيام الطفولة عام 1965 والثانية برازيلية أنقلها لكم عن كمال الملاخ كتبها في الأهرام عام ..1978 وللقصتين دافع ومغزي وسأدلف إلي دلالة القصتين وعلاقتهما بالأحكام الشرعية في قطع اليد المنصوص عليها في التوراة والإنجيل والقرآن. أما القصة الأولي فكانت ساعة منصرفنا من نهاية اليوم الدراسي من مدرستنا النيل الابتدائية وكان لابد من عبور مزلقان السكة الحديد. فشاهدنا زحاماً مكثفاً وجلبة لم نعهدها في العادة ولما اقتربنا رأينا منظر "تاج الدين" وقد بترت يده تحت عجلات القطار وهو في ناحية واليد في ناحية أخري وكان تاج الدين يسبقنا في العمر بسنوات قليلة وكان شجاعا يملك قلب أسد وقد تحدي زملاءه أن يضع يده تحت عجلات القطار مقابل خمسة قروش. في وقت كان "اللي معاه قرش يساوي قرشا" كما يقال.. وصمم الولد "ذو القلب الميت" علي تحديه ورهانه الذي يثبت فيه شجاعته حتي لا يقال عنه جبان. وضحي بيده في سبيل ذلك. أما القصة الثانية لبرازيلي في مدينة "سان باولو" اسمه "باتيستا مونيوز" وانتظر مجيء قطار ثم وضع يده اليمني علي الشريط فمر عليها القطار وقطعها.. وارتمي الرجل مغمي عليه.. جاءت الشرطة فقال الرجل بعد أن استرد وعيه: إنه أحد الذين اشتركوا في السطو علي بنك صغير وصدر عليه حكم بالسجن سبع سنوات وأنه هرب من تنفيذ الحكم لعدة شهور ومنذ أيام جلس يقرأ في التوراة. وعندما وصلت به القراءة إلي عبارة: "قبل أن تلقي يدك في النار اقطعها". أسرع إلي شريط السكة الحديدية حيث قطع يده. وهذا "كمال الملاخ جريدة الأهرام بتاريخ 15/9/1978". القصة الثانية استدل بها القمص "بيشوي كامل" علي أن الإنسان الروحاني يقطع يده ويتخلص منها قبل أن يأخذها معه إلي النار أو تأخذه هي معها إلي النار وهو يري تميز المسيحية في ذلك بأن صاحب المعصية هو الذي يقوم بقطع يده بنفسه.. مستدلاً بما ذكر علي لسان المسيح في الإنجيل: "فإن اعثرتك يدك أو رجلك فاقطعها وألقها عنك. خير لك أن تدخل الحياة أعرج أو اقطع من أن تلقي في النار الأبدية ولك يدان أو رجلان. وإن اعثرتك عينك فأقلعها وألقها عنك. خير لك أن تدخل الحياة أعور من أن تلقي في جهنم النار ولك عينان" "متي 18:8-9". وإن كانت تلك القصة دلالة علي أن في التوراة أيضاً ما في الإنجيل من التخلص من اليد التي تسبب في أن يرتكب صاحبها ذنبا.. غير أن تلك كله شرعه رب الأرض والسماء الواحد القهار لأمة بني إسرائيل قبل بعث النبي محمد صلي الله عليه وسلم كما ذكر ذلك في القرآن الكريم: "وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والسن بالسن والجروح قصاص" "سورة المائدة".. وهي الآية التي أتت في سياق ذكر القرآن الكريم التوراة. وهي دليل علي اتفاق الكتب السماوية الثلاثة علي أحكام القطع التي ملأ الغرب أجواءه صراخا وعويلا بسبب ثبوتها في ديانة الإسلام. أما قاطع يده الأول في القصة المصرية. فلم يفعلها تعبداً لله. ولا اتباعاً لشرع. بل معصية لله ولولا أن القلم لم يجر عليه في سنه لحوسب علي تهوره. الذي ظنه شجاعة وإقداما. ولم يفعلها أيضاً يهودي قرأ التوراة فأراد تطبيق الحكم علي نفسه. كما استدل القمص في القصة الثانية. ولم يكن نصرانياً فقرأ الإنجيل وأراد أن يطهر بعض جسده من كل جسده ولا يحمل معه شيئاً عصي الله به إلي النار كما استدل القمص بحكايات من فقعوا أعينهم مثلاً أو حتي بعض أعضاء أجسادهم بأنفسهم بسبب ما ارتكبته من آثام.. كما دعا إلي ذلك واستشهد. فالمسألة تختلف من ظرف لظرف ومن بيئة لأخري ومن شخص لشخص ومن ديانة لديانة أخري. وفي ديننا الإسلامي الحنيف لا نبحث عمن ستره الله فنكشف هذا الستر. عليه ونصر علي قطع يده أو رجمه بالحجارة أو قطع رقبته بالسيف حدا. مثلا مادام لم يعترف بجرمه أو يقبض متلبساً بمصيبته. وقد قالها صلي الله عليه وسلم مشرقة منيرة: "من اتي شيئاً من هذه القاذورات فليستتر فأنه من أبدي له صحيفته أقمنا عليه حد الله". فقدم جانب الستر أولاً وما بينه وبين ربه يغفره له ربه. حتي إنه من تقدم متعرفاً يتلمس له الشرع المعاذير وفي قصتي ماعز والمرأة الغامدية ما يجعلك توقن أن الشرع يبحث عن المخرج قبل الحكم ويتلمس العذر قبل التطبيق فيباغت رسول الله صلي الله عليه وسلم ماعزا بالرد علي غير المتوقع: "ويحيك فاستغفر الله وتب إليه" وتكرر المحاولة ثلاث مرات علي هذا المنوال. ولما يرجع إليه مرة أخري يفاجئه بالسؤال: "ويلك.. وما يدريك ما الزنا؟ فلما أكثر الحضور والسؤال بالتطهير سأل ابه جنون؟ أشرب خمرا"؟. ثم لما أصر وتأكد أنه يريد التطهر من الاثم طبق عليه حد الله.. والفعل نفسه في الغامدية التي أمرها أن تنتظر حتي تضع حملها. ثم لما جاءت أمرها أن تنتظر حتي تفطم ولديها ولما أتت بعد ذلك دفع بالطفل لمن يكفله وطبق عليها حد الله. إن الإسلام لا يبحث عن إهانة الإنسان العاصي بقدر ما يريد تطهيره أو تطهير المجتمع من إفساده لو تعدي الإفساد حقوق من يشاركه الحياة في المجتمع. ولا يريد العبث بكرامته حتي وإن كان عاصيا.. ولما سب أحد الصحابة للمرأة وهي ترجم نهره رسول الإنسانية وقالها صراحة: "لقد تابت توبة لو قسمت علي سبعين من أهل المدينة لوسعتهم" وتعالوا اسمعوا معي استخدام روح النص قبل التمسك بحرفية النص في التطبيق ومراعاة الصالح العام أو حتي الخاص في شأن التطبيق الشرعي للحكم. ومن رحمة الإسلام بالعاصي أو المعتدي أنه يعطل الحكم إن وجد البديل كقبول الدية ورضي أهل الموتور أو المصاب. واسمع لما رواه أنس بن مالك :أن الربيع عمة أنس كسرت ثنية جارية. فطلبوا إلي القوم العفو. فأبوا. فأتوا رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال: "القصاص". فقال أخوها أنس بن النضر: يا رسول الله. تكسر ثنية فلانة؟! فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "يا أنس. كتاب الله القصاص". قال* فقال: لا والذي بعثك بالحق. لا تكسر ثنية فلانة. قال: فرضي القوم. فعفوا وتركوا القصاص. فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "إن من عباد الله من لو أقسم علي الله لأبره". لو استعرضت معكم مشاهد وأحكام القطع في الكتب المقدسة السابقة للقرآن ودلالاتها في أعراف مجتمعاتهم وقارناها بحالات القطع في شريعة الإسلام ودلالاتها في أعراف مجتمعاتنا الإسلامية لطال بنا المقام والخلاصة أن الإسلام الذي نادي رسوله صلي الله عليه وسلم بتساوي الشريف مع الوضيع في تطبيق الحد الشرعي. وقالها مجلجلة علي الملأ بين الأقوام والعشائر ولا تزال مجلجلة إلي يومنا هذا "وأيم الله لو أن فاطمة بن محمد سرقت لقطعت يدها". مؤكداً أنه هلك أصحاب عهد مضي "كان إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد". هذا الإسلام العادل هو نفسه الإسلام الراحم الذي يقدم العذر ويلتمس لصاحبه المخارج والمعاذير قبل أن يطبق عليه شرع الله تعالي..