لم تقف ثورة يناير عند حد إسقاط نظام سياسي فاسد بل تعدته لإسقاط عادات وتقاليد مبنية علي المظهرية والفشخرة وروح الانهزامية والاستسلام.. وبسواعد الشباب المصري الأصيل انتصرت الوطنية والانتماء والتضحية للوطن الغالي. انتشر الشباب الحر في كل مواقع العمل يجتهدون وينحتون في الصخر لبناء مستقبل مصر بروح الجماعة بعيداً عن الأنانية أو المصلحة الشخصية.. منطلقين من أرضية دينية ووطنية تحث علي العمل الشريف دون استنكاف أو تعال. وإيماناً من "عقيدتي" بواجبها في إلقاء الضوء علي الجوانب الايجابية كما تكشف السلبيات نلتقي اليوم مع مجموعة من شباب مصر "المفرح" الذي يعمل في مجال نظافة قطارات السكة الحديد.. علي وعد بتقديم المزيد من هذه الصور المشرفة في مواقع العمل المختلفة. ولدت فكرة هذا التحقيق في طريق عودتي من بلدتي بمحافظة أسوان في رحلة القطار رقم 989 أو مايطلقون عليه "العروسة" فقد اعتدت طوال السنوات الماضية عدم استخدام حمامات القطار نظراً لحالة التردي والسوء التي تصيبها ومثلي كثيرون.. لكن هذه المرة فوجئت بالمحاسب علاء عثمان وكان يجلس بجواري يقول لي في اندهاش: تصور. لقد ذهبت إلي الحمام فوجدت عامل نظافة يستأذن في دقيقة قبل الدخول لأنه لم يكمل بعد نظافة الحمام. وعندما دخلت وجدت مناديل ورقية ورائحة طيبة وكأننا في فندق وليس قطار السكة الحديد وعلي الأخص قطار الصعيد الذي كان منسياً تماماً.. بل الصعيد كله والشعب المصري بأكمله كان منسياً في ظل النظام السابق.. ويبدو أن الثورة ستعيد اكتشاف حقيقة وجوهر المصري الأصيل. يستطرد علاء قائلاً: وهذا التغير يفرض علينا كشعب التعامل الحضاري مع ممتلكاتنا التي عادت إلينا حتي نحافظ عليها للأجيال القادمة.. وأذكر هنا أنني قضيت سنوات في احدي البلاد العربية الخليجية ووجدتهم يحافظون علي الممتلكات العامة كحرصهم علي ممتلكاتهم الخاصة ونحن المصريين أفضل الشعوب لسنا أقل وطنية من غيرنا. يشاركه الرأي أحمد الشوكي موظف بإحدي شركات الورق والطباعة مؤكداً أنه "زبون" دائم للسكة الحديد باعتباره من أبناء أسوان فالقطار هو الوسيلة الأكثر أمناً وراحة وفي متناول الجميع.. ويقول: الحقيقة أنني لم أصدق نفسي حينما رأيت عامل النظافة يسير بين عربات القطار يمارس عمله لأن المعتاد لدينا هو انتشار الباعة والمتسولين. والراكب منا يحرص علي عدم الأكل أو الشرب حتي لا يضطر إلي الذهاب للحمام. معاناة النساء وتقول مني سعيد ربة بيت : تعرضت والدتي "لدوخة" ورغبة في "الترجيع" وأحضرت لها "كيساً" حتي لا تضطر للجوء إلي حمامات القطار التي تثير "القرف" أصلاً لكنني فوجئت بالركاب يتهامسون عن النظافة ومستوي الخدمة فذهبت كما أتأكد بنفسي فوجدت كلامهم صحيحاً.. والحمد لله أن والدتي لم "تتقيأ" ولكنها مع ذلك ذهبت إلي الحمام بعدما سمعته. تضيف: المفروض أن نحافظ علي هذه النظافة خاصة السيدات فهن أكثر معرفة وتجربة بالتعب والمعاناة في هذا المجال فعلي كل واحد أن يترك المكان نظيفاً كما وجده. روح الجماعة وكان لزاماً علينا اللقاء مع أصحاب هذا الجهد في التغيير وإعادة روح الانتماء في نفوسنا.. فيقول محمود علي أحمد مواليد 77 وحاصل علي الاعدادية : نحن لا نخجل من أي عمل طالما أنه شريف بل علي العكس أنا أشعر بالسعادة والراحة النفسية لأنني أسعد الناس بما يجدونه من النظافة والرائحة الطيبة حيث نقوم بتنظيف عربات القطار وخاصة الحمامات التي كانت في الماضي لا يستطيع أحد استخدامها من سوء رائحتها.. أما الآن تتولي الشركة الخاصة ERIS النظافة بتوزيع 6 عمال بالإضافة إلي المشرف علي كل قطار من الدرجة الثانية المكيفة والأولي. ومجموعة النظافة هذه تبدأ الرحلة من أسوان حتي الأقصر ثم تستبدلها مجموعة أخري من الأقصر حتي القاهرة وهكذا. يضيف محمود علي: رغم أن جميع زملائي يؤدون عملهم بروح طيبة وسعادة إلا أن هناك سلوكيات بعض الركاب تغضبنا مثل قضاء الحاجة خارج "القاعدة" ومع ذلك وباعتباري مشرفاً علي المجموعة أعتذر لزملائي وأحثهم علي أداء العمل. يشير إلي أن هناك مشرفين يراقبون أداءهم في المخطات المختلفة ويوقعون علي "أورنيك مرور" في محطات قناة نجع حمادي. سوهاج. أسيوط. المنيا. بني سويف. تأثر نفسي يلتقط خيط الحديث زميله حسين محمد سالم وبروح فكاهية يقول: كل شغلي أن يشعر الراكب بالراحة لأن عدم قدرته استخدام الحمامات لقذارتها يجعله عصبياً في تصرفاته. وقد حدث مع موقف طريف حين وجدت شخصاً ثائراً لانقطاع المياه من الحمام فقلت له مازحاً: مين اللي مزعلك ياباشا؟! فقال لي: محدش يقدر يزعلني. بس ازاي مفيش مياه في الحمام؟! فأسرعت وأحضرت له 3 زجاجات مليئة بالمياه. وبعد خروجه شكرني وقدم لي مبلغ 50 جنيهاً ورفضتها وقلت له: أنا أديت عملي وآخذ عليه مرتباً من الشركة. ثم اكتشفت أنه وكيل نيابة. يضيف زميله عماد الدين: نتسلم في كل رحلة قطار أدوات النظافة مثل: الفنيك. الصابون. المطهر. سلك مواعين. مسَّاحة. فتَّالة. فرشة حمام.. ونقوم بعمل النظافة اللازمة قبل بدء رحلة القطار ونضع المناديل الورقية في مكانها.. لكن ما يحزننا أن بعض الركاب يسيئون الاستخدام وأكثر من هذا فهناك قلة منهم يأخذون "بكرة المناديل" معهم!! سلوكيات مستفزة يتفق معه زميله أبو دوح محمود مصطفي قائلاً: للأسف نجد بعض الأمهات يلقين بمخلفات أبنائهن مثل البامبرز بجوار الحوض بدلاً من وضعها في سلة القمامة. أو إلقاء أعقاب السجائر في الطرقات. والأغرب أن هناك البعض يغرق أرضية الحمام بالمياه لأنه يغسل شعره بالكريمات مثل "جل" وغيره وكأنه سيتوجه من القطار إلي موعد غرامي!! يؤيده زميله حسين أحمد محمد أحمد ولكنه يؤكد أن هناك أيضاً أناساً محترمين يحافظون علي نظافة القطار بوضع القمامة في أماكنها وأكثر من هذا فالبعض أراه يحمل ما يقع من الآخرين ويضعه في سلة القمامة.. فالمجتمع فيه هذا وذاك ولكننا نريد أن يكون الطيب أكثر من غيره حتي نكون أفضل مجتمع. شباب وطني ويتحدث علي أبو الحجاج رئيس قطار الأقصر عن أولئك الشباب بإعجاب وافتخار مؤكداً أنهم شباب عملي مجتهد لا ينظر إلي المظهرية الكذابة كما لا ينتظر الوظيفة الميري أو مد يده لأخذ المصروف من أبيهم وإنما "ينحتون" في الصخر لبناء مستقبلهم في بلدهم مفضلين ذلك عن السفر إلي الخارج لغسيل الصحوة أو غيره.. مشيراً إلي أن هؤلاء الشباب منهم حملة شهادات عليا فهناك حاصل علي ليسانس آداب وكان يعمل بأحد الفنادق الكبري وتم الاستغناء عنه في احدي المشاكل التي يثيرها أحد أمراء الخليج المقيمين بصفة دائمة في مصر. فاضطر للعمل في هذا المجال بدلاً من الجلوس في البيت. أوضح أبو الحجاج أن منظومة تطوير الخدمات بالسكك الحديدية لها خطة تسير بمقتضاها بشكل منتظم وليست مرتبطة بإدارة معينة حتي لا تتوقف بمجرد تغيير الإدارة. يستدرك أبو الحجاج قائلاً: إذا كانت الإدارة تسعي لمزيد من التطوير والتحسين في خدماتها فإن جمهور المستفيدين من تلك الخدمات يجب أن يتعامل معها بشكل أفضل باعتبارها ملكاً للشعب كله وليست لإدارة أو حكومة معينة خاصة وأنه بعد ثورة يناير تغيرت كثير من المفاهيم وأصبح الجميع متأكداً من أنه يمتلك ثروة هذا الوطن الغالي وبالتالي فواجبنا المحافظة عليها. ويضرب أبو الحجاج أمثلة علي سوء الاستخدام بذاك الرجل الذي يستخدم "رف الحقائب" لينام عليه وهذا يعرضه للكسر. وسبدة أخري أيضاً وضعت ابنها لينام علي الرف وعندما نبهها استنكرت وقالت له: طيب سأنزله.. كنوع من التهدئة فقط!! وكذلك الركاب الذين يحضرون معهم حلل محشي وطبيح ثم "يدسون" البقايا أسفل المقاعد مما ينتج عنه الصراصير والفئران. دور المسئولين وإذا كان علي الجمهور جانب من المسئولية فإن الإدارة أيضاً عليها جانب كما يقول أبو الحجاج مثل اساءة استخدام التذاكر الاسمية لأبناء الهيئة الذين يهدونها لأقاربهم ومعارفهم وهؤلاء يرفضون السماح لنا بالكشف عن هويتهم وإن لم نتأكد منهم نتعرض لخصم يومين لكل من المفتش ورئيس القطار إذا أثبت رئيس القطار اللاحق هذه المخالفة فهو يريد "عمل شغل" وليدرك صاحب هذا الامتياز أنه يعرض نفسه لإلغاء امتيازه. وكذلك مسألة السوق السوداء للتذاكر فهي علنية في الأقصر مثلاً ولا أحد من المسئولين أو الشرطة يتحرك وحلها يكمن في العودة إلي النظام القديم وتشديد العقوبة. وهناك خطأ ترتكبه الهيئة بإجبار المسافر إلي سوهاج قطع التذكرة حتي أسوان ب 55 جنيهاً فهذا علاوة علي خلقه لسوق سوداء أخري حيث يصعد البعض من محطات تسبق سوهاج وقنا لجمع هذه التذاكر من الراكب بشكل أو آخر ويبيعونها للمسافر إلي أسوان بأي ثمن. وهذا يؤدي إلي خسارة الهيئة مبلغ 24 جنيهاً في التذكرة فما المانع من قطعها القاهرةسوهاج بمبلغ 38 جنيهاً ومن سوهاجأسوان 48 جنيهاً أي أن اجمالي بيعها مرتين 79 جنيهاً بدلاً من بيعها ب 55 جنيهاً لأسوان. أملاك الشعب ويدعو أبو الحجاج كل راكب إلي الحفاظ علي نظافة وحماية القطار لأنه ملك لجميع الشعب أما الموظف أو العامل فهو يقضي 4 أو 6 ساعات ثم ينزل بعكس الراكب الذي يستخدمه كوسيلة انتقال بشكل شبه دائم.. مؤكداً أن الحفاظ علي ذلك هو واجب ديني قبل أن يكون وطنياً. كما يطالب وسائل الإعلام بعدم إثارة البلبلة وتسليط الضوء فقط علي القصور والسلبيات فهناك نقاط مضيئة كثيرة تحتاج الإبراز خاصة في هذه الظروف الصعبة التي تمر بها بلادنا مشيراً بما تفعله عقيدتي من تقديم النماذج الطيبة في المجتمع وهي كثيرة ونريد زيادتها لأن مصر تستحق منا كل خير.