* يسأل صبحي سويدان من كفرالشيخ: خلاف كبير في بلدتنا إثر نداء أحد العامة علي طفل مفقود باستخدام مكبرات الصوت بالمسجد الكبير في البلدة» تلبية لاستغاثة أمه التي كاد قلبها ينفطر من البكاء. فاختلف الناس في أمر هذا النداء بين مؤيد ومعارض. حتي وصل الخلاف إلي حد الاتهام في الدين والإيمان. فالمعارضون يستدلون بحديث رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم : "إذا رأيتم الرجل ينشد ضالته في المسجد فقولوا له: لا ردها الله عليك". ويستدلون أيضاً بأن المساجد ما جعلت لذلك. وإنما جعلت للعبادة. ويرون أن هذا ليس من العبادة. والمؤيدون يستدلون بأن حفظ النفس من مقاصد التشريع. وأن هذه نفس مفقودة ومن مقاصد التشريع أيضاً حفظ العقل والدين. ومن يكون في هذا الموقف يكاد يطير عقله. واستدل المؤيدون أيضاً بأن هذا الدين دين رحمة وسماحة. وأن المقصود بالضالة في الحديث: البهائم وما هي في حكمها كما ورد في سبب الحديث. وأن حرمة الإنسان أعظم من حرمة البنيان. كما قال النبي صلي الله عليه وآله وسلم للكعبة: "ما أعظم حرمتك عند الله! ولدم امريء مسلم أعظم حرمة منك". ** أجابت أمانة الفتوي بدار الإفتاء: روي الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يقول: "من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك» فإن المساجد لم تبن لهذا". وروي مسلم أيضاً عن بريدة رضي الله عنه: أن رجلا نشد في المسجد» فقال: من دعا إلي الجمل الأحمر؟ فقال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم : "لا وجدت» إنما بُنيت المساجد لما بنيت له" وعلة النهي: صون حرمة المساجد التي بُنيت للعبادة والصلاة والذكر وقراءة القرآن والاعتكاف عن ملهيات الدنيا ومشغلاتها. وما يقتضيه ذلك من طلب الهدوء والسكينة فيها حتي يحصل عنه في هذه الأحاديث: ما يكون فيه تشويش علي من في المسجد. ومنافاة لما جُعلت المساجد لأجله» بحيث تكون المساجد مرتعاً للأمور الدنيوية المحضة» من البيع والشراء المشتمل علي المساومة والتغابن. وطلب البحث عن الحيوانات الضالة والممتلكات المفقودة. مع ما قد يكون فيه من جُعل مادي يلهي عن حضور الصلاة أو يشوش علي صلاة الحضور. ونحو ذلك من المُلهيات والمشغلات. والضالة في اللغة: هي الحيوان الضائع. ولا تطلق علي غير الحيوان. أما غير الحيوان فيُقال فيه: لقطة. وضائع. ولا يطلق علي الضائع من الإنسان ضالة. قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في "غريب الحديث" "2/203. ط. دائرة المعارف العثمانية": "الضالة لا يقع معناها إلا علي الحيوان خاصة» التي هي تضل" أه. ومن العلماء من نص علي أن الضالة إنما تطلق في الأصل علي البهيمة دون غيرها. قال الإمام الجوهري في "الصحاح": "5/1748. ط. دار العلم للملايين": "الضالة: ما ضل من البهيمة للذكر والأنثي" أه. وقال العلامة الزمخشري في "الفائق" "1/65. ط دار المعرفة": "الضالة: صفة في ازصل للبهيمة فغلبت" أه. وقال الحافظ ابن الجوزي في "غريب الحديث": "2/17. ط. دار الكتب العلمية": "إنما تستعمل الضالة في الحيوان.. فأما الجمادات فهي اللقطة" أه. وقال العلامة الفيومي في "المصباح المنير": "2/363. ط. المكتبة العلمية": "والأصل في الضلال: الغيبة. ومنه قيل للحيوان الضائع: ضالة بالهاء للذكر والأنثي. والجمع الضوال. مثل: دابة ودواب. ويُقال لغير الحيوان: ضائع. ولقطة.. إلي أن قال: فإن الضال: هو الإنسان. والضالة: الحيوان الضائع" أه. وجاء في "شرح حدود ابن عرفة" للعلامة الرصاع "ص: 431. ط. المكتبة العلمية" في تعريف "الضالة": " نعم وُجد بغير حرز محترم .. فيدخل فيه الإبل والبقر والغنم" أه. ومن ذلك كله يتبين أن البحث عن الزطفال التائهين عن طريق النداء عليهم عبر مكبرات الصوت بالمساجد: لا صلة له بالنهي الوارد في الحديث لا من جهة اللفظ ولا من جهة المعني. أما اللفظ: فإن الطفل التائه لا يسمي "ضالة" في لغة العرب فلا يشمله لفظ الحديث أصلاً. وأما المعني: فإن النداء علي الطفل والبحث عنه هو من باب حفظ النفوس من التلف. وهو أهم الكليات الشرعية الخمس. ولا شك أن صيانة المُهج وإبقاءها مقدم علي غيره من المصالح الخاصة والعامة. وإذا ضاع الفل من أهله فيجب علي الناس شرعاً التكاتف والتعاون والعمل علي رجوعه إليهم عن طريق أرجي الوسائل لذلك» فإن المساجد هي مجامع الناس. خاصة في القري والبلدان الصغيرة التي يعرف الناس فيها بعضهم. فيرجي من خلال النداء عبر مكبراتها عودة الأطفال التائهين. فإذا تعينت المساجد طريقاً لذلك صار واجباً» لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وذلك كله من باب التعاون علي البر والتقوي» وفيه من ثواب رغاثة الملهوف وتفريج كرب الناس وإعانتهم ونجدتهم ما رغبت إليه الشريعة وأمرت به وحثت عليه. لكن يراعي تطبيق ذلك بطريقة منظمة لا تشويش فيها علي المصلين. ولا يجوز بحال من الأحوال لا شرعاً ولا عقلاً ولا عرفاً أن يُقال لهم: لا ردَّه الله عليكم!! ومن خاطبهم بذلك فهو اثم شرعاً وملوم عرفاً. وبناء علي ذلك: فن البحث عن الأطفال التائهين من ذويهم أو الإخبار عنهم والنداء عليهم عن طريق مكبرات الصوت في المساجد هو أمر جائز شرعاً. بل ومستحب أيضاً» لما فيه من التعاون علي البر والتقوي والنجدة وإغاثة الملهوف. بل إذا غلب علي الظن تعينه طريقاً للحفاظ علي الطفل من الضياع أو التلف فإنه يصير واجباً.