وأما الثيوقراطية التي جاء بها الإسلام فلا تستبد بأمرها طبقة من السدنة أو المشايخ. بل هي التي تكون في أيدي المسلمين عامة. وهم الذين يتولون أمرها والقيام بشئونها وفق ما ورد به كتاب الله وسنة رسوله. ولئن سمحتم لي بابتداع مصطلح جديد لآثرت كلمة "الثيوقراطية الديمقراطية" أو "الحكومة الإلهية الديمقراطية" لهذا الطراز من نظم الحكم. لأنه قد خوَّل فيها للمسلمين حاكمية شعبية مقيدة. وذلك تحت سلطة الله القاهرة وحكمه الذي لا يغلب. ولا تتألف السلطة التنفيذية إلا بآراء المسلمين. وبيدهم يكون عزلها من نصبها. وكذلك جميع الشئون التي يوجد عنها في الشريعة حكم صريح. لا يقطع فيها بشيء إلا بإجماع المسلمين. وكلما مست الحاجة إلي إيضاح قانون أو شرح نص من نصوص الشرع. لا يقوم ببيانه طبقة أو أسرة مخصوصة فحسب. بل يتولي شرحه وبيانه كل مَن بلغ درجة الاجتهاد من عامة المسلمين. فمن هذه الوجهة يعد الحكم الإسلامي "ديمقراطيا"" فهذا ما يُفهم من مجموع كلام المودودي. وإن كان لنا تحفظ علي تسميته الحكومة الإسلامية "ثيوقراطية" لما فيه من إيهام التشابه ب "الثيوقراطيات" المعروفة في التاريخ. وإن نفي هو ذلك. 3- الملاحظة الثالثة: أن الحاكمية التشريعية التي يجب أن تكون لله وحده. ليست لأحد من خَلقه. هي الحاكمية "العليا" و"المطلقة" التي لا يحدها ولا يقيدها شيء. فهي من دلائل وحدانية الألوهية. وهذه الحاكمية -بهذا المعني- لا تنفي أن يكون للبشر قدر من التشريع أذن به الله لهم. إنما هي تمنع أن يكون لهم استقلال بالتشريع غير مأذون به من الله. وذلك مثل التشريع الدِّيني المحض. كالتشريع في أمر العبادات بإنشاء عبادات وشعائر من عند أنفسهم. أو بالزيادة فيما شرع لهم باتِّباع الهوي. أو بالنقص منه كما أو كيفا. أو بالتحويل والتبديل فيه زمانا أو مكانا أو صورة. ومثل ذلك التشريع في أمر الحلال والحرام. كأن يحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل لله. وهو ما اعتبره النبي صلي الله عليه وسلم نوعا من "الربوبية" وفسر به قوله تعالي في شأن أهل الكتاب: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ "التوبة:31". وكذلك التشريع فيما يصادم النصوص الصحيحة الصريحة كالقوانين التي تقر المنكرات. أو تشيع الفواحش ما ظهر منها وما بطن. أو تعطل الفرائض المحتَّمة. أو تلغي العقوبات اللازمة. أو تتعدي حدود الله المعلومة. أما فيما عدا ذلك فمن حق المسلمين أن يشرعوا لأنفسهم. وذلك في دائرة ما لا نص فيه أصلا وهو كثير. وهو المسكوت عنه الذي جاء فيه حديث: "وما سكت عنه فهو عفو" وهو يشمل منطقة فسيحة من حياة الناس. ومثل ذلك ما نص فيه علي المبادئ والقواعد العامة دون الأحكام الجزئية والتفصيلية. ومن ثَمَّ يستطيع المسلمون أن يشرعوا لأنفسهم بإذن من دينهم في مناطق واسعة من حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. غير مقيدين إلا بمقاصد الشريعة الكلية. وقواعدها العامة. وكلها تراعي جلب المصالح. ودرء المفاسد. ورعاية حاجات الناس أفرادا وجماعات. وكثير من القوانين التفصيلية المعاصرة لا تتنافي مع الشريعة في مقاصدها الكلية. ولا أحكامها الجزئية. لأنها قامت علي جلب المنفعة. ودفع المضرة. ورعاية الأعراف السائدة. وذلك مثل قوانين المرور أو الملاحة أو الطيران. أو العمل والعمال. أو الصحة أو الزراعة. أو غير ذلك مما يدخل في باب السياسة الشرعية. وهو باب واسع ومن ذلك تقييد المباحات تقييدا جزئيا ومؤقتا. كما منع سيدنا عمر الذبح في بعض الأيام. وكما كره لبعض الصحابة الزواج من غير المسلمات. حتي لا يقتدي بهم الناس. ويكون في ذلك فتنة علي المسلمات. والأستاذ المودودي - وهو أشهر من نادي بالحاكمية. وتشدد فيها - قد بيَّن في كلامه أن للناس متسعا في التشريع فيما وراء القطعيات والأحكام الثابتة والحدود المقرَّرة. وذلك عن طريق تأويل النصوص وتفسيرها. وعن طريق القياس. وطريق الاستحسان. وطريق الاجتهاد.