أزعجني كما أزعج كل المصريين الخوف علي مياه النيل بعد إقامة سد النهضة التي تزمع أثيوبيا إقامته، لأن الاعتداء علي النيل هو اعتداء علي الوجود المصري نفسه، فبفضل هذا النيل اقيمت أول حضارة عرفها التاريخ، تلك الحضارة التي أنارت ماحولها من شعوب العالم.. وهذه الحضارة لم تكن تقوم أصلا لولا وجود النيل. وفي كتابه (تكوين مصر) يقول المؤرخ محمد شفيق غربال وهو يدافع عن مصر وتاريخها.. إنها إن كانت هبة النيل كما يقول المؤرخ اليوناني هيرودوت، فهي أيضا هبة المصريين.. فلولا المصريين ماقامت علي ضفافه هذه الحضارة البازخة التي امتدت عشرات القرون.. إنه يقول: وإني لأدرك تمام الإدراك هل يمكن أن يكون الأمر غير ذلك .. أن النيل منبع حياتنا، وأن مصر ماهي إلا الأراضي الواقعة علي ضفتي النهر، وأن ليس لها من حدود إلا الذي تصل إليه مياه النهر، ومع ذلك فإن المصريين هم الذين خلقوا مصر.. تأمل النيل مجتازا آلاف الأميال من خط الاستواء إلي البحر المتوسط، هل تجد علي طول مجراه إلا مصرا واحدة؟ إن هبات النيل كهبات الطبيعة سواء بسواء.. طائشة عمياء إذا ما تركت دون ضبط فإنها تدمر كل شيء وتخلف مستنقعات الملاريا الوبيلة، والإنسان وحده هو الذي يستطيع أن يجعل من هذه الهبة نعمة لا نقمة، وقد كان ذلك ما عمله الإنسان في مصر، فمصر هبة المصريين. وإذا كانت مصر هبة المصريين، فلكي تتمكن من أداء دورها الحضاري، لابد أن يظل شريان حياتها سليما وهو النيل، ولابد أن تتضافر كل الجهود لحل هذه الأزمة الخطيرة التي لم تعرف مصر مثلها عبر كل العصور.. فهذا السد كما يقول عنه الخبراء له سلبيات كثيرة ويؤثر علي مستقبل الحياة في مصر. إن نهر النيل كما يقول عنه الدكتور جمال حمدان في كتابه شخصية مصر: إن النهر وملاحة النهر أساس انتشار الحضارة داخل الوادي، وكان أيضا وسيلة توحيده سياسيا. لطالما تغني الشعراء والأدباء بهذا النيل العظيم، وعرف المصريون القدماء أهميته لحياتهم، بل كان من مسوغات دفاع المصري القديم عن نفسه في العالم الآخر أنه لم يدنس ماء النهر، فهل يمكن بعد ذلك أن نهون من شأن ما يتعرض له من مؤامرات وأهواء سياسية، أم أن يكون حل هذه الأزمة مسألة حياة أو موت؟!