لاشك أن بداخل كل منا طاقات وقدرات خفية قد تمكنه من تبوؤ مكانة لايضاهيه أو ينافسه فيها أحد شريطة حسن استغلالها والعمل علي إبرازها وتنميتها إذا اقتضي الأمر ويعتبر المعاقون علي اختلاف إعاقاتهم أحد هؤلاء فأغلبهم لديه الكثير من القدرات الخاصة والمواهب المدفونة كالرسم وعزف الموسيقي والتمثيل وإلقاء الأشعار لكن الغريب أن يتم تأسيس فرقة مسرحية جميع أعضائها من الصم والبكم الذين قرروا تحدي إعاقة الصمم التي أصيبوا بها منذ نعومة أظفارهم ليبتكروا أسلوبا جديدا يمكنهم من للتواصل مع الآخرين .. هذه التجربة تبناها المخرج المسرحي رضا عبد العزيز ذلك الشاب الذي قرر تحويل حلمهم إلي واقع ملموس وتبني مواهبهم في تجربة طالتها الكثير من الانتقادات والسخرية عند خروجها إلي النور ولكن عبد العزيز لم يعبأ بكل هذا وقرر تأسيس فرقة "الصامتون" المكونة من 23عضوا لاتتعدي أعمارهم الأربعة والعشرين ربيعا لتصبح بذلك أول فرقة للصم علي مستوي المنطقة العربية وربما كذلك في قارة أفريقيا أيضا.. وقد حازت إعجاب الكثير من رواد المسرح الحديث في العالم أجمع فور مشاركتها بالمهرجانات المختلفة وتم تكريمها أيضا بالمحافل الدولية ولاسيما بروسيا وبلجيكا كما قدمت إسرائيل دعوة رسمية للفرقة لمشاركتهم بإحدي ورش العمل إلا أن مخرج الفرقة اعتذر عن تلك المشاركة بدعوي رفضه القاطع لفكرة التطبيع وتصدير تلك الفكرة الرائدة إلي دولة محتلة لا تقدر وزنا لأي معني من معاني الإنسانية.... »آخرساعة« التقت بأعضاء الفرقة وحاورتهم بمساعدة أحد مترجمي لغة الإشارة لتتعرف علي طموحاتهم وآمالهم كما تعرفت من رضا عبد العزيز صاحب تلك الفكرة الجريئة علي مشكلات الفرقة ومايتمناه لها مستقبلاً. منذ أن تطأ قدماك أرض مسرح الإبداع بمركز طلعت حرب الثقافي والذي فتح بابه علي مصراعيه لاستقبال هؤلاء المبدعين ومهد لهم كل الصعاب لتتاح لهم فرصة التدريب وإخراج مالديهم من مكنون إبداعي، حتي يلفت انتباهك منظر أعضاء فرقة "الصامتين" وهم يصطفون في تناغم موسيقي رائع ليلتقوا تعليمات وشرح رضا عبد العزيز بلغة الإشارة التي هي وسيلة التواصل معه ولا يحيدون عن تعليماته أبدا، يحاولون بذل كل مجهوداتهم لإخراج العرض الذي يتدربون عليه بكل إتقان فهم يعشقون أباطرة المسرح المصري كزكي طليمات وسيدة المسرح العربي الفنانة سميحة أيوب ويسيرون علي دربهم، لا تتجاوز أعمارهم الخامسة والعشرين ربيعا حباهم الله بثقة كبيرة بالنفس وحضور طاغ يدفعك للتجاوب معهم وأن تعيرهم عيون يقظة لتتابع مسرحية "الأجنحة الصغيرة" التي يتدربون عليها فحتما سيصلك كثير من التيم والقيم الإنسانية التي يحاولون من خلالها تغيير نظرة المجتمع اليهم... مكنتهم المهرجانات المحلية والدولية التي شاركوا بفعالياتها كمهرجان الغردقة الدولي لمسرح الطفل في إقامة الكثير من علاقات الصداقة مع فناني مصر والوطن العربي علي رأسهم الفنانة الكبيرة "نيللي" و"نهي العمروسي" اللتين أعجبتا بأدائهم الباهر وقابلوهم بعاصفة من التصفيق الحار رفعت من حالتهم النفسية وشجعتهم لبذل الرخيص والنفيس ليتربعوا علي عرش مسرح الصم والبكم. وتعتبر الفنانة" مارتينا وفيق" دينامو الفرقة فلا يصيبها كلل أو ملل مهما زادت عدد ساعات التدريب أو تكالبت عليها أوامر المخرج تلك الفتاة التي أتمت عامها الواحد والعشرين ربيعا بالكاد وقد أصيبت بالصمم منذ نعومة أظافرها ولكن والداها لم يستسلما لتلك الاعاقة بل عاهدا أنفسهما أن يحولا تلك الاعاقة الي دافع لتفرد "مارتينا" ونبوغها وقد تحقق لهما ماأراداه فابنتهما تعشق العزف علي الأورج والكمان وتتباري مع قريناتها الأصحاء بكل ثقة وقوة لتتغلب عليهم, تتميز بسرعة بديهة ملفتة للنظر ووجه طفولي ينبض بالحياة. وقد اقتربنا أكثر منها لتحدثنا عن فرقتها هذه فقالت: الكثير من الناس ينظرون الينا علي أننا فئة مهمشة ليس لها الحق في أن تحيا حياة كريمة كباقي الأصحاء فالعديد من المهن مقصورة عليهم وممنوع علينا أن نقترب منها والكارثة أن تساعدهم حكومات مابعد ثورة يناير في تطبيق تلك المنظومة الظالمة والأدهي من ذلك أن يحرموننا من مزاولة الأنشطة التي نحبها ولا يعيرونها أي اهتمام فمنذ أن التحقنا بتلك الفرقة حتي وجهت الينا الكثير من الانتقادات وتنبأ الكثيرون لها بالفشل ولكننا وضعنا نجاحها نصب أعيننا وبذلنا قصاري جهدنا لنضعها علي ساحة المسرح الحديث. وتضيف مارتينا: شاركنا في العديد من مهرجانات المسرح المختلفة وكان آخرها مهرجان الغردقة لمسرح الطفل الذي شاركت فيه أكثر من عشرة دول أوربية وعربية وحازت مسرحية "راحة الأرواح"التي قدمناها اعجاب الحضور وتم تكريم أعضاء الفرقة جميعهم ... أما محمود رمضان هذا الشاب الذي يقطن بإحدي قري محافظة الغربية وعلي الرغم من ضيق يد أسرته وفقرها الملاحظ إلا أنه لا يتكاسل عن حضور اي عرض أو ورشة عمل للفرقة فالفن كما يصف لنا يجري في دمه ولا يستطيع أن يبتعد عنه يوما من الأيام مهما قابلته عواصف أو ضوائق وهذا الشاب ذو الستة عشر عاما يدرس باحدي المدارس الفنية بقسم الخزف والمعروف بين أساتذته "بالمبدع"، إلا أن وجه محمود تغطيه سحابة من الكأبة وتغشاه مسحة من الحزن تجبرك علي التعاطف معه دون أن تعرف مصدرها أو مايحتفظ به في مكنون صدره.. يقول رمضان: تعرفت علي رضا عبد العزيز مخرج الفرقة بالمصادفة أثناء زيارته لمدرستنا وقد تقربت إليه عندما علمت أنه مخرج مسرحي وفرحت كثيراً عندما علمت بنيته تكوين فرقة مسرحية للصم والبكم وعندما عرض علي الانضمام لعضوية الفرقة لم أتردد رغم المعاناة التي أواجهها أثناء سفري من الغربية إلي القاهرة إلا أنه بعد نجاح اي عرض مسرحي أنسي الألم الذي كنت أشعر به. وعن أقرب العروض المحببة إلي قلبه يقول: تعد مسرحية "كلنا إنسان" أقرب العروض المحببة الي قلبي وتلك المسرحية تدعو إلي نبذ العنف والتمييز بين أفراد الجنس البشري فالاسلام دعا أيضا الي ذلك فلا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوي والغريب أن هناك الكثيرين من أبناء جلدتنا لايعترفون بذلك ويعاملوننا كأننا طبقة أخري تختلف عنهم كما يأتي عرض"نيران صديقة"كثاني العروض التي اعشقها والتي تتحدث عن الإدمان والصعوبات التي تواجه المدمنين سواء الصحية أو الاجتماعية من خلال إحدي الشخصيات التي وصلت إلي مرحلة الإدمان المزمن وواجه صعوبة في الإقلاع عن المخدرات حتي أودت بحياته وضاع مستقبله . كما التقينا المخرج الشاب رضا عبد العزيز ابن المحلة الكبري وصاحب التجربة الرائدة في الوطن العربي والذي أتته تلك الفكرة بعد ان توغل في عالمهم الخاص وخاص في كتب علم النفس والفلسفة وقرر تعلم لغتهم حتي أتقنها وفكر في إسعادهم عن طريق تأسيس فرقة مسرحية عام 2005 تناقش قضاياهم وكانت تجربة الموسيقي "بيتهوفن" هي نبراسه الذي سار عليه. يقول عبد العزيز: تتميز فرقة "الصامتين" بأن لها منهجا منفردا وتعتبر تجربة"بيتهوفن"القاسية مصدر إلهامي فعندما فقد سمعه وأصبح لايستطيع قيادة الأوركسترا بشكل سليم، لعدم سماعه له، عاني إحباطا شديدا جعله يتوصل إلي نظرية "الاتصال العظمي" عن طريق وضع جسمه علي البيانو الخشب، ليشعر بالذبذبة، ويستحضر من ذاكرته الموسيقية، ما علق بها، قبل أن يفقد السمع، إضافة إلي استخدامه ذاكرته العظمية، من خلال إحساسه بالبيانو، واتبعت هذا الأسلوب وطورته ليكون النقر علي الكفوف والاكتاف، همزة وصل بين الموسيقي ورقص الصامتين ومن هنا اتتني الفكرة. ويضيف عبد العزيز: وقد قدمنا عشرات العروض المسرحية التي أبهرت حضور مهرجان الغردقة لمسرح الطفل ومهرجان الابداع العربي كعروض "الأجنحة الصغيرة" و"دموع الفرح" و"أرابيسك" وغيرها من العروض المستوحاة من القصص والحالات الإنسانية المؤثرة وقد شاركنا أيضا في الأسبوع الثقافي المصري الهندي في الهند وكان نجاحنا بها نجاحا باهرا. ويشير رضا إلي أنه يستعد حاليا لتطوير تجربة فرقة الصامتين عن طريق دمج المعاقين المكفوفين في أحد العروض الفنية ولكن بشكل مختلف، حيث يتم الآن تكوين مجموعة من الموسيقيين المكفوفين، وسيقوم الصامتون بتقديم أحد عروضهم الراقصة علي أنغام فريق المكفوفين الموسيقي، مما يعد تحديا فنيا وإنسانيا، حيث إن الموسيقيين المكفوفين لن يروا رقص الصامتين علي أنغامهم، وفي المقابل لن يسمع الصامتون الأنغام الموسيقية التي يعزفها لهم المكفوفون، وكأن كل إنسان منهم يعين الآخر علي تحدي إعاقته بالفن والإبداع. أما عن دعوة إسرائيل للفرقة فقال: أسست إسرائيل فرقة شبيهة بفرقة الصامتين في اعقاب نكسة 67 إلا أن التجربة كانت أشبه بعروض الصوت والضوء فقد استعانوا بسماعات الأذن لكي يستطيع الممثلون سماع مايدور حولهم فبهذا لم تصبح تجربة رائدة بل تجربة ناقصة فأرادوا تطوير فرقتهم هذه من خلال تنظيم ورشة عمل مع فرقتنا كنوع من أنواع التطبيع الثقافي ولكنني رفضت فليس من المعقول أن أدنس طهارة القضية الفلسطينينة بهذا التطبيع خاصة أن عروضنا تدعو الي نبذ العنف وتقبل الآخر والتعايش السلمي وهو ما يتنافي مع سياسات اسرائيل. واختتم رضا حديثه بتوجيه نداء باسم أعضاء فرقة "الصامتون" إلي وزارة الثقافة المصرية بتوفير الرعاية والاهتمام بفرقته، واستغلال النجاح الكبير الذي حققته الفرقة، في العديد من المحافل الفنية، سواء المحلية أو الخارجية، علي مدار السنوات الثلاث الماضية خاصة أن الفرقة لاتلقي أي دعم من الوزارة ولا تنظر إليها بعين الاهتمام.