في الطريق إلي بورسعيد هذه المرة، فرضت بعض المخاوف نفسها، عن الحالة الأمنية، وأن تري المدينة التي تحبها في حالة انكسار، وحزن. لكن ما إن دخلت عبر بواباتها، حتي بدأت الصورة الإخبارية تتلاشي. صحيح لا تواجد شرطياً في الشوارع، فقط تحمي مجموعات من الجيش المنشآت الحيوية، وتنظم المرور في بعض المحاور الهامة، لكن المدينة نابضة بقوة سحرية كعادتها. طاقة قادرة علي شحنك، وتبديد مخاوفك بل وعلاج إحباطك. عندما تتحدث مع الناس في الشوارع الصاخبة، أو في المتنزهات الهادئة، ستعرف أنهم تعرضوا لعدوان، وأنهم يشعرون بالأسي، لكنك ستتأكد من قوتهم الاستثنائية التي علي ما يبدو تشحنها الأحداث، وتظهرها الشدائد. ثلاثة أيام قضيتها بين شوارعها ومقاهيها وعلي شواطئها وداخل بحرها، وكانت المفاجآت تتوالي. من مقهي في حارة غير مزنوقة في منطقة العرب، أو في حفل سمسمية في بور فؤاد. كانت بورسعيد تتنفس كعادتها هواء الحرية، بملء صدرها. كأنما تتنفسه عن الوطن بأسره. تضج في نهارها بإيقاع حياة متحمس، وتتنزه عند الغروب حالمة علي شواطئها الساحرة، وفي المساء كانت ترقص وتغني علي السمسمية، كما كانت تفعل أيام الاحتلال. نعم لا تندهشوا لقد رأيت بعيني بورسعيد تغني. حكايات البحر والصيادين علي شواطئ الحنين لا تملك إلا أن تحبها. فهي فريدة في الجغرافيا، وصانعة للتاريخ. أوقفت أطماع المعتدين. وفتحت ذراعيها للعابرين. أضاءت في سنوات النضال حالك لياليها بقنابل الفدائيين، وأحيت عرس بطولتها علي أوتار السمسمية. اقتسمت خيرها مع من أحبوها، وضعت القنابل في أرغفة الخبز لمن اعتدوا عليها. هي قطعة من الماس تلمع بالمفاجآت علي كتف الوطن كنيشان. ليس كمثلها مدينة. وهي تملك ناصية الدنيا. وتمسك بيديها دفة البحار. من مائها تشرق الحرية. وهي بدون منافس أرض التضحيات. بور سعيد التي دفعت ثمن السد العالي مقدما. وتلقت رصاصات الغدر فداء للوطن بأسره، وما زالت. الكثيرون لا يعرفون عن بور سعيد سوي أنها كانت منطقة حرة. لكن هؤلاء فاتهم الكثير. فقد بقي فيها ملامح أكبر مدينة كوزموبوليتانية في العالم. احتضنت عشرات الآلاف من أبناء الشرق والغرب، عاشوا معا وأنتجوا روح المدينة المتحررة، شوارع متقاطعة بنظام كشبكة لتواصل حتمي. أبنية مزجت بين الطرز، بشرفات خشبية تستند علي أعمدة تراقب العابرين. مبني هيئة قناة السويس بقبابه الشهيرة. شاطئ يمتد علي البحر، ويميل عند مدخل القناة، يقابله شاطئ بور فؤاد. والمعديات التي تروح وتجيء كطقس يومي للبهجة. بهجة العبور في الصباح مع النوارس، وفي الظهيرة في مواجهة الشمس، وقبيل الغروب علي مرأي من الجالسين بقصبات الصيد. عبور في الاتجاهين لا يتوقف علي مدار الساعة في حركة دائبة يتحول في المساء إلي مشهد من فيلم سينمائي لم ينتج بعد عن الأضواء وهي تجري علي صفحة الماء تخطف الأبصار. في الصباح الباكر وعلي شاطئ البحر يقوم الصيادون بالحد، وهي طريقة للصيد بالشباك، لكن هذا اليوم كان البحر عاليا بعض الشيء، فخلا الشاطئ إلا من المغامرين من صيادي أم الخلول. تراهم علي البعد يسيرون في الماء من الغرب إلي الشرق، تظهر أنصاف قاماتهم، وعصي يضغطون عليها. وسرعان ما تأتي الأمواج فتضربهم. يتوقفون لحظات ثم يعاودون قيادة عصيهم. تعيش أصداف أم الخلول الصغيرة تحت رمال البحر بحوالي ربع المتر. ويقوم الصياد باستخدام (العدة) والتي تنتهي بشريحة حديدية تسمي الصدادة، يغرسها في الرمال لتجرف الأصداف، وتمر الرمال من فتحات الشبكة وتبقي أم الخلول داخل الشباك. الجو بارد ومجموعتان من الصيادين تحرثان البحر. خرجت المجموعة الأولي، اقتربت منهم. عرفت أنهم يعملون في هذا المجال ثلاثة أو أربعة شهور كل عام، وهي شهور الشتاء. تبدأ من ديسمبر وتنتهي في مارس. يعملون منذ الشروق وحتي الغروب في أوقات انحسار الماء. حصيلة اليوم قد تكون من عشرين لثلاثين كيلو. وتباع أم الخلول بجنيهات قليلة. البعض يقوم بطبخها حيث تقلي في الزيت وتقلب حتي تتفتح، ويضعون عليها الثوم أو الطحينة والطماطم. بينما يفضل البعض أكلها مملحة. وهي تملح لمدة يوم واحد، ويؤكل ما بداخل الأصداف الصغيرة. وهي لمن لم يتذوقها جديرة بالتجربة. للبحر في بور سعيد إحساس خاص. كأنه يبدأ من هنا بالذات وينتهي. وهو مصدر للرزق بالنسبة للكثيرين من أهالي المدينة. سواء الصيادين أو البمبوطية. شاطيء ممتد يلتقي بالممشي السياحي علي شاطئ مدخل القناة عند قاعدة تمثال دليسيبس. تلك التي وقف فوقها التمثال، وكانت تقع داخل البحر كما توضح الصور القديمة. وعلي الممشي السياحي تطل بنايات قديمة صمدت، وبنايات حديثة حلت محل أخري سقطت. حتي تصل إلي المعدية. يقف هناك قسم شرطة الميناء، وهو في مبني قديم مكتوب عليه (بوليس) بالعربية والإنجليزية. يشعرك بالاحترافية وبالاحترام للمكان. فالمعمار بلا شك له تأثير معروف في إيصال الرسائل والانطباعات. بالنسبة لي هو الأجمل بين أقسام الشرطة التي رأيتها في مصر. بالإضافة إلي المبني التاريخي بشكله المميز علي الشاطئ، وللتصميم والغرف بأرضياتها الخشبية القديمة، فإن للمكاتب داخله إطلالة مميزة علي القناة والمعديات وبور فؤاد علي الشاطئ الآخر. ربما يحتاج إلي بعض العناية والصيانة ليبقي شاهدا علي روح المدينة. وقد دخلته للحصول علي بعض التصاريح للقيام برحلة بحرية واستشعرت تأثير هذا الموقع وتلك الإطلالة علي الهدوء والأريحية التي لا تخطئها العين. تعبر المعديات بانتظام علي مدار الساعة. تدخل السيارات بنظام عبر حارات لتأخذ دورها في العبور، وتحمل كل واحدة ما يقرب من ثلاثين سيارة بخلاف المشاة. تبحر ناحية بور فؤاد وبالعكس. يقف الجامع الشهير في صدارة المشهد في الذهاب، وفي العودة يحتل مبني الهيئة البطولة كمبني أسطوري يخرج من زرقة الماء. في بور فؤاد يأخذك الطابع المعماري الأوربي لمساكن العاملين بالهيئة. بسيط وإنساني وأنيق. ورغم زحف عمران أحدث وأقل جمالا إلا أن المكان يحتفظ بالكثير من روحه. وبين الحين والآخر تتوقف أمام مبان بساعات منتصبة أو ساعات في الواجهة. كما تجد بقايا حدائق خلابة. وفي النهاية يؤدي بك الطريق إلي التفريعة حيث تجد البعض وقد جلسوا يصيدون الأسماك بقصبات الصيد. وما زالت المنافذ الجمركية قائمة في أماكنها شاهدة علي زمن المنطقة الحرة، وإن كانت خاوية في الغالب. رغم صغر المدينة نسبيا إلا أنك تحتاج إلي أيام لسبر أغوارها وكشف أسرارها. لا يخفي الحجاب الذي زحف علي المدينة كغيرها ملاحة جمال متوسطي محتف بالحياة. مع نصف تحفظ يراوح بين روح مدينة منفتحة علي العالم، وتقاليد ريفية انتصر لها الوافدون، ورجحته الحالة العامة التي اكتست بها البلاد منذ منتصف السبعينات. لكن يظل المزيج ذا نكهة خاصة، وتظل بور سعيد من أكثر المدن المصرية مقاومة للتزييف، حتي مقارنة بالقاهرة وفقا للملاحظة السريعة. كنت علي موعد مع رحلة بحرية بصحبة الأثري الشاب أحمد رجب، والذي تمتلك عائلته بعض اللانشات التي تعمل في تموين السفن. استغرق استخراج التصاريح نحو الساعة، واكتشفت أن كوني صحفيا يصعب الإجراءات. بين الجوازات والأمن العام والأمن الوطني وغيرها، وهي لحسن الحظ موجودة كلها في قسم الميناء. ولحسن الحظ أيضا أنه رغم كثرة الإجراءات إلا أن التعاون والأريحية كانت سمة واضحة داخل المكان، وعلي كل المستويات. دخلت إلي الميناء وأخذنا اللنش. للبحر إحساس خاص كل مرة. كانت الطيور أقرب، تتنوع بين النوارس بلونها الأبيض، وطائر أسود، وأصغر يطلقون عليه كما في بلاد أخري عصفور الجنة. تعبر السفن الضخمة المجري الملاحي كل يوم وتمر ببورسعيد. تشبه مدنا عائمة أو جبالا معدنية تسد الأفق بضخامتها. وفي نفس الوقت تجد مراكب الصيد الصغيرة التي تتحرك بالقرب من الشواطئ. في ميناء الصيد كنت أرغب في التقاط بعض الصور للمراكب الخشبية الراسية وللصيادين، لكنني التزمت بالتعليمات الصارمة بعدم التصوير. في أحد الشوارع الرئيسية كان أحد الشباب يجلس داخل مكان صغير لبيع الكتب. لفت نظري وجود كتب تراثية وأخري أعمال أدبية عالمية. ولفت نظري أكثر أنه كان يقرأ أحد الكتب بانهماك. ولأنني ذهبت إلي بورسعيد لاكتشاف روحها الحقيقية بعيدا عن الكلاشيهات والصورة الإعلامية، فقد توقفت عنده. قدمه لي الصديق الكاتب أسامة كمال. وكانت المفاجأة انه أيضا كاتب للقصة القصيرة والرواية ويقوم بكتابة سيناريو. اسمه محمد ضرغام. قال إنه عثر علي هذا المكان الصغير بالصدفة. وأنه اكتشف أنه كان يستخدم في بيع الكتب والجرائد والمجلات في الثلاثينيات. لذلك فقد فرض تاريخه. يتكلم محمد عن مكانه الصغير باعتزاز. ويحلم بأن يتمكن في يوم من الأيام من عمل مكتبة ضخمة تحتل بناية كاملة من عدة أدوار من مباني بورسعيد القديمة. ويقول إنه يحضر الكتب علي ذوقه الخاص، وقد وجد إقبالا عليها رغم انها أعمال رصينة، علي عكس الفكرة السائدة بأن الناس لا يقرأون. معظم زبائنه من الشباب. ويعقد صداقات معهم وأحيانا يقترض منهم بعض الكتب لقراءتها كما حدث مع رواية موبي ديك. يقول محمد إنها رحلة وراء المعني وزمالة في المشوار. يعيش ككاتب ولا يلتزم بمواعيد محددة لذلك يعتمد علي أبو أحمد الذي يعاونه ويضمن فتح المكان بانتظام. أما هو فيأتي لساعات كل يوم وينهمك في القراءة وأحيانا الكتابة. يقول إنه ليس علي صلة بما يسمي الوسط الثقافي في بور سعيد باستثناء مجموعة محدودة يعتبرهم أصدقاء ويقرأ لهم مثل أسامة كمال ومحمد الطناحي والشاعر محمد عبد الهادي الذي يحب شعره ومحمد السلاموني الذي لديه رواية مهمة ستصدر قريبا، وسيد زلط وآخرين. ومن غذاء العقول إلي طعام بورسعيد الشهي، وأسماكها الطازجة، وبأسعار متنوعة علي حسب المكان. يمكن تناول ساندويتشات السيبيا وبيضها والجمبري أو تناول السبيط المحشو بالجمبري في مطاعم صغيرة منتشرة بالشوارع وبأسعار معقولة، أو شراء السمك نيئا وإرساله لأفران الشي. وبحثا عن مذاق المدينة سألت عن حلوي مميزة لا تصنع في مكان آخر. وكانت التمرية والسمنية ونوع خاص من الزلابية كبيرة الحجم. عند أحد محلات الحلوي المنتشرة توقفت. يقوم الحلواني جمعة محمد بعمله منذ ثلاثين عاما. وهو يصنع الحلوي الشرقية بأنواعها وفي المساء فقط يقدم التمرية والسمنية. لأنه يصنعها في الصباح ويتركها تتخمر حتي المساء. بعض الأماكن الصغيرة تتخصص في عملهما وتقدمها في الصباح الباكر للموظفين والعمال المتجهين إلي أعمالهم كفطور. يقول جمعة الذي يربي لحيته، ويضع لافتات ثورية معارضة لاذعة علي فاترينته إن التمرية مأخوذة غالبا عن اليونانيين الذين كانوا يعيشون بالآلاف في بورسعيد. هو تعلمها من حلواني مصري تعلمها علي يد حلواني يوناني. التمرية عبارة عن سميط بسبوسة يعجن مع دقيق ويطبخ علي النار مع ماء يغلي ثم يعجن مع جوز الهند ويبرد، ويقوم بعمل ما يعرف بعجين تهوية شبيه بعجين الجلاش منفصلا ويغلف به عجينته الأصلية بعد التخمر، وتقلي في الزيت ثم تؤكل مع سكر بودرة. السمنية تصنع بنفس الطريقة لكن يوضع مع العجين سكر ويوضع في الفرن ثم يوضع في السمن ويؤكل. الزلابية في بورسعيد مختلفة. وهي شبيهة بحلوي سورية اسمها زنجل وحجمها كبير وغير منتظم. جولة في الشوارع التجارية تكشف أن المدينة تعيش حالة كساد، مقارنة بالأيام العادية. وقد قررت الذهاب إلي منطقة تجارة الملابس المستعملة المعروفة بالبالة. منطقة شعبية تسمي القنال الداخلي، بنيت علي ردم قناة داخلية تظهر في الصور القديمة للمدينة وكانت أحد معالمها الجميلة. المكان عبارة عن محلات متجاورة يفصلها طرقات ضيقة، كما ينتشر ما يعرف بالفرش، وهو البيع بدون محلات. وينتشرون في الشارع الرئيسي. التقيت بأحد التجار واسمه أحمد محرم. وما إن عرف بأنني صحفي حتي طلب مني توصيل رسالة. قال إن بورسعيد هي أول من قام بالثورة علي نظام مبارك عام 2001عندما كان الجميع صامتين، ووقتها اتهموا بالتطاول. وقد دخل منهم الكثيرون إلي السجون والمعتقلات وبعضهم تم تعذيبه حتي أصيب بالجنون. وقد شاركوا في ثورة يناير بسلمية. وأسأله بعد وعد بتوصيل رسالته عن تجارة البالة. فيقول إنه يتم جلبها من عدة دول مثل بلجيكا وألمانيا وإيطاليا وهولندا. وتجلب بالكيلو الذي وصل سعره إلي سبعين وثمانين جنيها وكان في الماضي بأثمان زهيدة. توجد في الخارج معامل للفرز والتجهيز ويتم جمع الشغل بالطن وتصنيفه إلي فئات ومستويات. وفي بورسعيد يتم توزيعه للجملة والقطاعي، وهذه التجارة موجودة في عدة محافظات كالقاهرة في وكالة البلح وغيرها كما توجد في الإسكندرية ومحافظات عديدة. ويصف الزبائن بأنهم من كل المستويات. لأن هناك أشياء بورقتها او استعمال خفيف كما يصفها. يمكن ان تشتري جاكيت بستين جنيها ثمنه في المحلات بستمائة جنيه ومن ماركة معروفة. ومنطقة القنال الداخلي بها حوالي ثمانمائة محل بخلاف الفرش كما توجد منطقة أخري للبالة في منطقة موقف دمياط. ويضيف: البالة بتفرج علي ناس كتير. يعني طالب فقير ممكن يشتري قميص بعشرة جنيه، أو أب يشتري هدوم العيد لأولاده. بسعر زهيد. ويعلق علي موضوع المنطقة الحرة بقوله: من أيام مبارك كانوا يلوحون لنا بإعادة المنطقة الحرة، لكن أرضنا كلها غاز، وإمكانات. أفضل إنعاش المدينة بنشاطات إنتاجية غير محدودة. لن نطلب من المسئولين أن ينظروا لبورسعيد لأن مصر كلها في أزمة وتحتاج إلي من ينظر لها. الطنبورة.. ألحان من مقام البطولة والسمسمية سلاح في وجه الطغاة السمسمية ليست مجرد آلة موسيقية شعبية. أوتارها كانت الروح لمدن القناة في كفاحها الطويل للدفاع عن مصر. علي أوتارها الخمسة أطلقت المقاومة قذائف الصمود في وجه أعتي القوي، وبشجن ألحانها عاش المهجرون حلم العودة لبيوتهم، وهي ذات الأوتار التي كانت قادرة علي قهر الأحزان وإحياء ليالي البهجة في أمسيات الفرح. وفي بور سعيد كادت تبعات المنطقة الحرة أن تدفعها إلي خلفية المشهد. لولا جهود فنانين مخلصين استطاعوا ان يعبروا بها، وأن يعيدوا إطلاق ذخائر المقاومة من جديد. هذه المرة المشهد مختلف. صحيح تحتفظ الذاكرة بأغنيات وأناشيد 56 وصحيح ما زالت الأوتار تعزف ألحان التهجير والعودة والحنين، لكن أجيالا سلمت لأجيال. معظم الآلات الآن لم تعد تقتصر علي أوتارها الخمسة ولا علي مقام الرصد المميز. تزايدت الأوتار حتي وصلت إلي ستة عشر، وتعددت الفرق، وجري في النهر كلمات وألحان جديدة. وقد كان من حظي أن أقوم بحضور حفلين كانا مصدر سعادة كبيرة لي. الحفلان كانا علي مقاهي شاطئية ساحرة في ليالي بور فؤاد. جمهور جاء ليغني ويرقص علي أنغام النضال والذكريات. يوصل حاضرا بطوليا بماض مشرف. الطنبورة زكريا إبراهيم فنان وهب حياته للحفاظ علي تراث وفن بورسعيد. كان من قام بتأسيس فرقة الطنبورة التي أشاهد عروضها منذ التسعينات. ظلت تقدم حفلاتها في عدة أماكن في القاهرة منها الهناجر وبيت الهراوي ووكالة الغوري وغيرها، وهو بالإضافة لذلك يقوم بدور في حفظ التراث الشعبي من خلال مركز المصطبة بعابدين. وما زال يواظب علي العرض المجاني للفرقة علي شاطئ بور فؤاد، في ليال مميزة تستحق أن توضع علي الخارطة السياحية. يغني ويرقص ويدير الفرقة يقدم فقراتها. يري أن الشباب قاموا بالثورة لكن جيلنا مهد لها.. نحن من وضعنا بذرتها. بورسعيد علي شاطئ المتوسط وتعتقد أنها يمكن أن تري أوربا من هنا. وأبو العربي ذهب إلي قبرص عائما. يضحك ويضيف: الناس في تكوينهم المقاومة، والنجاح فيم عجزت عنه القوي النظامية. وهي بلد طول عمرها في النضال والمواجهة، وكم ضربت بالمدافع والطائرات. بالتاكيد حدث اختلاف من ستة وخمسين لسبعة وستين والتهجر ثم العودة والانفتاح والمنطقة الحرة، وهو بلا شك أثر علي التركيبة الاجتماعية كما حدثت هجرة من أماكن مجاورة. وبدأت أزمة في الجانب الوطني الجمعي لأن الوضع الاقتصادي الجديد كان قائما علي الفردية، وحسابات المكسب والخسارة. أثناء التهجير كانت الأغاني الشعبية تحفظ الذاكرة الجمعية. لكن في الانفتاح حدث خصخصة حتي للفن. الطنبورة من 25 سنة في عز المنطقة الحرة كان هدفها الحفاظ علي البعد الوطني، والثقافي حتي لا تضيع الذاكرة. نحن وحدنا دون المستوي الشعبي والرسمي كنا نحتفل ب23 ديسمبر وشهداء 56 ورغم الصعوبات حاولنا ألا تنطفئ الشمعة. بعد الثورة حدث اختلاف لأنها غيرت المزاج العام، وتراجع الإقبال علي أنماط مثل تامر حسني وعمرو دياب واللمبي، وأصبح الشباب مهتمين بالقيمة والرسالة. كان هناك تنقية للذوق العام والآن أصبحت في حال أفضل، وفتحت فرصا للتواجد مع الفلاحين في القري ومع قطاعات من العمال، وكنا في جامعة الإسكندرية بالأمس وقبل ذلك في القاهرة. الفن مقاومة وسلاح، لكنه أيضا ترفيه، في الأفراح وفي الشوارع، وفي حفلات شم النسيم. ويسترجع زكريا أيام البدايات والتي ترجع إلي عام 69 حيث هجر مع عائلته إلي السنبلاوين. وقتها انضم لفرقة تضم مهجرين آخرين وكان يغني ويرقص معهم. ويضيف بحماس: أحب الرقص وأنا راقص أكثر مني مغنٍ. الرقص حتي الموت أو الموت رقصا، والجيزاوي عضو بالفرقة معنا وهو فوق السبعين ويرقص. نحن شعب محب للحياة والموسيقي والرقص برغم كل ما تعرضنا له. نقوم حاليا بنقل الفن للأجيال التالية. لدينا براعم في الطنبورة خمسة عازفين جدد. مركز المصطبة للفنون الشعبية في القاهرة أتاح لي التوثيق والحفاظ علي الفن. نحاول الحفاظ عليه للمدينة ولمصر، ونطرح موسيقانا علي المستوي العالمي. الآن الفن مسألة حياة أو موت ومعركة أساسية في مواجهة قوي الرجعية. نحن نغني للوطن وللحبيبة وللحياة، والأعداء اليوم أعداء حياة، أعداء ثقافة مصر وتراثها وشخصيتها. بالأمس كنت أغني في جامعة الإسكندرية وغنيت (يناير 26) فجاء لي أحد الأساتذة وقال لي: إنتو اللي هاتخلصونا من الإخوان. الثورة رفعت سقف التعبير. كنت أضطر أيام مبارك إلي بعض الترميز أو التحايل لكن الآن فتحت الثورة الحرية للتعبير. الآن نتحدث عن تجار الدين، ونخاطب من يشير بأصبعه. هذا هو حصاد الثورة إلي جانب الأحزاب والنقابات المستقلة. وحول مواكبة السمسمية للاحداث الجارية في مصر وبورسعيد يقول: عملنا أغاني بكلمات جديدة علي ألحان قديمة لمواكبة الثورة في يناير 2011 وقمنا فيما بعد بعمل إغنيات جديدة. لدينا ألبوم جديد بعنوان يناير 26مسجل بمستوي عال لأغاني المقاومة الشعبية. الآن الناس مؤهلة لهذا خصوصا بعد مذبحة بورسعيد. لدينا كل يوم أربعاء حفل مجاني للجمهور. أحاول عمل حلول للإنفاق علي الفن المجاني. نشتبك مع الفلاحين والطلبة ونحاول القيام بدور مجتمعي. طبعا بدأنا في مرحلة لم يكن فيها فرق مستقلة او مجتمع مدني. كنا نحن والورشة البداية. اليوم اختلفت الأمور بدأنا من أجل الدور المجتمعي. حدث فارق بالتأكيد والثورة فتحت المسام. رغم العرقلة التي حدثت من المجلس العسكري ثم الإخوان. لكن أنا متأكد من انتصار الشعب المصري، ومصر دولة مدنية، ولن تكون إخوانية أو سلفية، وبورسعيد تغني وترقص وتناضل كعهدها دائما. المرسية وفي حفل آخر علي شاطئ بور فؤاد التقيت بجابر مرسي. وهو حكاية بورسعيدية فنية حيث ينتمي لآل مرسي المعروفين في مجال السمسمية والفنون عموما. وهو أيضا نحات فوم ومناظر وكانت له مشاركات مسرحية. وعن بداياته يقول بفخر: ولدت لأجد السمسمية في البيت. كان والدي شاعرا وأخوتي يعزفون. حمام و مرسي وابراهيم الله يرحمه وعبد القادر كان شاعرا وفاطمة علمتها العزف وهي الوحيدة في بورسعيد التي تعزف السمسمية. كنت أعزف علي السمسمية التراثية ذات الخمسة أوتار أيام التهجير في المحلة. أجدت العزف وأنا في السابعة من عمري، وكنت محل فخر الجميع. غنينا الأغاني الوطنية والمعبرة عن الوجدان البورسعيدي مثل (مهما طال الليل علينا.. مهما نار الشوق تقيد.. بكرة شمس الدنيا تطلع.. لما نرجع بورسعيد) وهي من تأليف والدي، وكان المهجرون يسمعونها فيبكون. رجعنا بور سعيد في أول اتوبيس، وكان يضم الفنانين، وقابلنا المحافظ عند جبانة الشهداء ونحن عائدون من ناحية الجميل. أوتوبيس الفن كان يضم عبده خليل وابراهيم خلف وهو من علم الناس السمسمية في بور سعيد وكان أكبرنا سنا، وأنا كنت الأصغر وكان معنا صلاح الحصري عازف الإيقاع وأخي ابراهيم وعم حسن العشري. أيام جميلة ومحفورة في الذاكرة بحلاوتها ومرارتها. كانت لنا أغان مميزة كآل مرسي من تأليف والدي مثل: (يا واقف علي الحدود). (ويا صهيون ويا صهيون) وتراث السمسمية يتوارثه الأجيال ولا نكف عن الغناء وترديد أغاني عم كامل عيد وعم محمد أبو يوسف الله يرحمه. وفي بورسعيد أكثر من فرقة مثل أبناء بورسعيد والطنبورة وغيرهما ونؤسس فرقة صوت البحر حاليا وتضم مجموعة من أفضل فناني بورسعيد. الفرقة أساسها سمسمية ومرسية بدلا من الطنبورة وستضم عود وكولة وكمان، ومعي ضابط إيقاعي يلعب إيقاعا أسبانيا. والمرسية هي آلة قمت بتطويرها وهي من تصميمي وتنفيذي ضمن محاولات التطوير، وهي بين الطنبورة والسمسمية في المقاس والصوت. وغيرت نوع الأوتار فجعلتها تضم أوتار عود وأوتار ماندولين وأوتار قانون. هي تضم 14 وترا. أوتار القانون للطبقة الحادة، وأوتار الماندولين قوي في المنتصف، وأوتار العود تعطي الطبقة الغليظة. وهي مصنوعة من الغاب. الخمسة أوتار القديمة كانت غير كافية للاغنيات العامة، الألحان القديمة متقاربة لأنه لا توجد مساحة لحنية إلا خمس نغمات من مقام الرصد. في المرسية تجويف الغاب يجعل للآلة رنينا مختلفا. ونسعي دائما للتطوير ولدينا أغنيات جديدة مثل (يناير 26) التي كتبها أخي إبراهيم مرسي والذي رحل منذ أسابيع. وتقول كلماتها: (في يناير 26 اتقلبت الموازين.. يا شبابنا يا أحرار.. شهداءنا يا أبرار.. قتلوكوكم الخاينين.. في يناير ستة وعشرين.. اتنطقت الأحكام .. شوف أعدم مننا كام.. والشعب كله آلام.. وفي بلدي الكل حزين.. في يناير 26.. علي السطوح واقفين.. قناصة محترفين.. بيصوبوا التنشين..علي أبرياء سلميين.. والدم شمال ويمين.. في يناير 26.. بالعند والإصرار.. الشرطة ضربت نار.. في جنازة الثوار.. والنعش ولع نار.. بالقرب من الجبابين.. في يناير 27.. من بعد الدم ما سال.. هدد بإيده وقال.. طوارئ وتجوال.. علي مدن القنال.. وطوارئه تخوف مين.. في يناير 29.. هب الشعب وقال.. لا طوارئ ولا تجوال.. علي بدل النضال.. ولا انتوا خلاص ناسيين.. عدوان 56.. في يناير 29.. يا شعب لا ترتاح.. قدامنا ياما كفاح.. جالنا نظام سفاح.. بيقتل سلميين.. دول خونة ومأجورين.. في يناير 29.. ويختتم جابر مرسي كلامه قائلا: هذه الأيام أصعب علي شعب بور سعيد من عدوان 56 لأن العدو ليس محتلا أجنبيا. بورسعيد ضحية خيانة والشعب المصري يعرف تفاصيلها وكل المتورطين فيها. لكن بور سعيد لن تنكسر. أنت شاهدتنا نغني ونرقص ونبدع. نحن واثقون من الانتصار، والنظام الحالي غير مقبول وضحكوا علي الناس باسم الدين وسيرحلون ربما تكون مسألة وقت. البهجة والرقص والغناء انتصار ضد مشروع الرجعية. صانع الأوتار في منطقة القنال الداخلي التقيت بفنان من نوع خاص. فنان فطري شعبي تخصص في صنع آلات السمسمية والطنبورة، كما يقوم بجمع الآلات القديمة التي يعتبرها جزءا من الذاكرة والتاريخ لنضال بور سعيد. اسمه محمد غالي. وقد وقع في عشق السمسمية عندما كان مهجرا إلي المنزلة في طفولته، وكان يترك كل شيء ليستمع إليها. الورشة الصغيرة التي يطلق عليها اسم التراثية تضم آلات متعددة سألته عن الفرق بينها فقال وهو يشير: هذه الطنبورة من عام 48 وهي أصل السمسمية، وكان يعمل عليها سنجأ زار. وهو لقب العازف. أقوم بتصنيع السمسمية بأشكال مختلفة اتخيلها، وأقوم برسمها وتنفيذها. الأساسيات واحدة لكن أستطيع عمل أشكال مختلفة. الجندوه آلة مستوحاة من الهارب الفرعوني، وهي موجودة مع بعض الفرق ومع فرق الزار ،ومع فرقة الطنبورة. هناك أيضا السنطورة وهي ذات حجم متوسط وبسبعة أوتار، والطنبورة غليظة والسمسمية حادة. والسنطورة في الوسط. محمد غالي لا يعزف علي السمسمية لكنه يقوم بتصنيعها وقد فوجئت به في الليلة التالية للحوار يشارك بأغنية مع فرقة الطنبورة بدعوة من الفنان زكريا إبراهيم. وقد أظهر موهبة في الغناء. لكن مواهبه كفنان فطري لا تتوقف عند هذا الحد. فهو يصنع نماذج للحياة في بور سعيد. يصنعها بمبانيها وبحرها وناسها ويقوم بتفصيل ملابسهم الصغيرة بصبر. ودائما عازف السمسمية حاضر، حتي وسط الصيادين علي شاطئ البحر. يحكي لي عن أسرار الصنعة فيما يخص الآلات الموسيقية: السمسمية عبارة عن مثلث من الخشب وعلبة صوت ومفاتيح وأوتار والكرسي الذي تمر عليه الأوتار والحلقة التي تمسكها. أصنع المثلث من خشب الزان. والعلبة من الأبلكاش وبأشكال مختلفة. أحيانا يطلب البعض سمسمية من الأرو. لكن الزان أفضل وخصوصا الزان الخفيف. يأتي لي زبائن من السويس والإسماعيلية والموضوع ليس تجاريا. أصنع الآلات لأجل الفن، أتمني أن تكون موجودة في كل محلات الموسيقي كآلة شعبية مصرية تنتمي لخط القناة وهي بالمناسبة موجودة في بعض البلدان المجاورة وانتقلت مع البحارة. لا أحب أن يضع بعض العازفين الآلة علي الأرض بعد انتهاء العزف. الآلة يجب أن تكرم لأنها ذات قيمة. آلة غنوا عليها للوطن والحب وأصلها فرعوني. أقوم أيضا بصنع الجندوه والذي يشبه الهارب الفرعوني. صوته بين الطنبورة والسمسمية. زوجتي تشاركني في صناعة الآلات الموسيقية وهي من تقوم بتجهيز الجلد وشده علي الأطباق. وقد تعرفت عليها في حفل للسمسمية وجمعنا الحب المشترك للفن. وهو ما دفعها للاستقالة من عملها كمعيدة بكلية الطب. نعيش حياة بسيطة مليئة بالحب للفن والرغبة في نشره. ولا تنقصنا سوي بعض الإمكانيات لنقوم بذلك. وعن العازفين الذين يحب الاستماع إليهم يقول: العازفون أنواع. روحاني مثل محمد السعيد شهيب أبو إسلام في فرقة الطنبورة. وأعتبره الروحاني الوحيد. هناك المحترف الأكاديمي محسن العشري وهو مصنف عالميا كأفضل عازف سمسمية وواحد من أفضل عازفي الآلات الشعبية، ومحمود غندر في قصر الثقافة ومحمد الشناوي في الطنبورة وله مزاج فنان. وجمال زلط أستاذ تعطيه النوتة ويعمل وفقا لها. وأخيرا أتمني عمل متحف للسمسمية ومركز ثقافي. للتعريف بها. شباب بور سعيد يمسكون بزمنها الجميل: الوطن برائحة الغياب رائحة الغياب عنوان آسر لكتاب تحت الطبع من تأليف الكاتب أسامة كمال وتصوير وليد منتصر. وهو يبحث عن ذلك الزمن الذي رحل وترك أثره في المكان والروح. يفرد الكتاب صفحات عديدة لبورسعيد بشوارعها ومبانيها وشخوصها ذات الطابع الأسطوري. وهو ضمن محاولات عديدة تهتم بتوثيق تاريخ المدينة وتراثها المعماري يشارك فيها وليد منتصر ويجمع صور المدينة القديمة خالد عبد الرحمن الصيدلي الذي تخصص في جمع مئات الصور بالأبيض والأسود منذ القرن التاسع عشر التي تؤرخ للمدينة منذ نشأتها. كان جميلا أن ألتقي بهؤلاء الشباب. أعرف أسامة كمال من خلال زياراته المتكررة للقاهرة كأديب وصحفي حر وكاتب أطفال. وكانت المفاجأة ذلك الزخم من العمل والاهتمام من شباب بورسعيد المثقف والواعي، الذي احتفظ بقدر كبير من الشغف والصدق. وقد حدثني أسامة كمال عن تجربة الكتاب. شخصيات سحرية بدأت فكرته بمقالات عن شخصيات قديمة. وأنا جزء من الحكاية، أرصد تأثيرها عليّ وعلي المحيط. الشخصيات المهمشة والمنسية وشخصيات من الثورة مجهولة وشخصيات تمثل قيمة وأماكن وأشياء كأفيش السينما. رحلة اكتشاف لمدن القناة الثلاثة وهناك أشياء من مصر عموما. من شخصيات الكتاب عم احمد عوض حلاق وقصاص وشاعر في الخمسينات، وكان عنده نتيجة عليها رقم سبعة لا يتغير وكنبة سحارة للانتظار فيها كل الأشياء التي حصل عليها من البحارة والبمبوطية وشهادة تقدير من قصور الثقافة. تحمل موت ابنه وابنته وزوجته، ولم يتحمل نقله من مكانه الذي تمت إزالته فمات. أيضا عم سعد المصور الذي كان يعمل علي ماكينة اشتراها بأربعة جنيهات وهو صاحب استوديو الرصيف، ومازال حتي الآن يحمض بطريقة بدائية. والده عم عباس أول من أمسك كاميرا في بور سعيد. احتد علي مديره في الشركة وخرج بدون مستحقات. كان هناك مكان للأرمن تركوه، وبه كاميرات اشتغل بها ولما رجعوا تركوها له لبراعته في التصوير، وعلم أولاده ومنهم عم سعد. يجلس في نفس المكان من الحرب العالمية الثانية. صور عبدالناصر وعبدالوهاب وكل الاماكن القديمة في بورسعيد. هناك أيضا شخصية الجنرال كما يطلق عليه أهل بور سعيد. وهو شخصية سحرية يلبس سلاسل ذهبية وقنبلة مسيلة للدموع ويلقي البيانات. وهو يذكرنا بمجموعة من الشخصيات السحرية البورسعيدية في الماضي مثل شخصية أبو الفقر الذي كان يركب الحصان الأبيض في احتفالات بورسعيد ويرتدي نياشين نحاسية وقد مات منسيا في عزبة فاروق. أيضا شخصية كوريا البلوك أمين وهو معادل لأبو العربي، أتي بفلوس من حرب اليمن، وكان يركب الحنطور ومعه اثنان يلمعان له الحذاء. وسيد الشرايدي المعادل لحسن اللول الشخصية التي جسدها أحمد زكي في فيلمه الشهير. كذلك يحتفي الكتاب بأشياء وأماكن كتمثال الملك فؤاد الذي وضع علي قاعدته لعشرة أيام ثم قامت ثورة يوليو وتمت إزالته، وعاد ليوضع عام 2002 وأزيل بعد ضجة قام بها البدري فرغلي، ليعود إلي المخزن كما كان. وهناك أيضا متعلقات دليسبس في مدن القناة الثلاثة والتي قمنا بتتبعها ومنها حكاية تمثاله الشهير. تراث معماري فنان الفوتوغرافيا وليد منتصر واحد ضمن حركة قوية للتصوير في بورسعيد. يشاركون في المسابقات ويحققون نجاحات كبيرة. أقام وليد معرضا عن بورسعيد برؤيته حاول من خلاله إعادة العلاقة بين الناس ومدينتهم التي حجبت عنهم بسبب المنطقة الحرة. يقول وليد: حتي البحر حجب عن الناس. تربيت في بورفؤاد في منطقة الفيلات وحي الافرنج في بورسعيد وهي المتأثرة معماريا بالمعمار الأوربي. وفي المعرض الذي أقمته عن المدينة التقطت مشاهد كشتاء بورسعيد والنوارس والبحر والصيادين. كما رصدت قبل الثورة حالة الإحباط والانزواء للوجوه والأجساد وإحساس الاغتراب. عمل وليد أيضا علي تصوير وتوثيق التراث المعماري للمدينة بالتعاون مع المركز الفرنسي. ومن خلال هذه التجربة تعمق في فهمه. وأصبح من الناشطين في هذا المجال. من خلال مبادرة تراث بور سعيد. يقول إن بورسعيد عمرها حوالي 150 سنة لكن فيها توليفة غير متكررة لمدينة كوزموبوليتانية. وهو ما انعكس في المعمار والمدارس والكنائس وامتزج مع العمارة الشرقية وخرجت توليفة عمارة خشبية. ومبان كثيرة لها حكايات. مالا يعرفه الكثيرون أن جوستاف إيفل صاحب برج إيفل أقام كوبريين صغيرين في بورسعيد. عند منطقة جمركية ولديّ صور لهما. ولديّ الرسم الذي رسمه بيده. كذلك كان يوجد في بور سعيد البيت الحديد كما يطلق عليه الناس وقد أقام فيه مونتجمري والملك جورج وأوجيني عندما جاءت في المرة الثانية بعد 25سنة وأول أسانسير كهربائي في مصر كان في البيت الحديد، وكان فندق وسينما وكازينو. الفنار كان بمثابة التقاء لشوارع عديدة وحتي في بورفؤاد الشوارع رسمت لتراه في نهايتها من الشاطئ الآخر. ونحن بنينا حوله مباني وأخفيناه، وهو أقدم مبني خرساني في العالم. عمارات رائعة يرصد وليد منتصر 1500 مبني تراثي في بورسعيد، والمسؤولون اختصروها كالعادة للمصالح والمجاملات وبقي 700 أو أكثر بقليل. التنسيق الحضاري قام بالتوثيق فقط. هناك مبان متهالكة. فندق ناسيونال عمره 140 سنة ومتهالك وترميمه هو أن يهدم وتبني نسخة طبق الأصل كما قال الخبراء. علي مستوي العالم الترميم يتم بالتوعية والإقناع بأن التراث يأتي بدخل. لو كانت هناك صيانة دورية لما وصل لهذه الحالة. نريد للمكان أن يخدم الناس. العالم يستفيد سياحيا من التراث المعماري. كما يري وليد. من المعالم الهامة في المدينة: البيت الإيطالي وكان البيت الثقافي للطلاينة وعليه رخامة باسم موسوليني الإمبراطور العظيم. وأيام الحرب كان مقر الحزب الفاشي في بورسعيد. بورسعيد كان فيها 18 ألف إيطالي وأكثر من ثلاثين ألف يوناني. كانوا يسكنون في الحي الإيطالي وشوارع أخري وبورفؤاد وكانوا مندمجين في الحياة، لكن هاجروا في الخمسينات والستينات. هناك حماية قانونية علي الورق لبعض المباني لكن في الواقع تنتهك. ومن يعتدي علي عقار لا تنفذ العقوبات. أبيض وأسود من الشباب المهتمين بتوثيق تراث بورسعيد الصيدلي الشاب خالد عبد الرحمن. بدأ الموضوع عندما قرر ترميم بيتهم القديم ليتزوج فيه. دخل في تفاصيل هندسية ومعمارية جرته إلي عالم ساحر لم يخرج منه حتي الآن. لديه مئات الصور عن تراث المدينة المعماري وشوارعها. ويعيش حالة حنين دائم لما كانت عليه مدينته كما في الصور بالأبيض والأسود. المدينة التي كانت ملتقي لثقافات العالم. يحب كثيرا فندق ناسيونال فهو أشبه ببيوت الأمريكان في أفلام رعاة البقر القديمة، كما لفت نظره عمارة سلويك .. العمارة الأقدم في بورسعيد التي ظهرت في صور بدايات بورسعيد عام 1880 يقول خالد: من المفارقات العجيبة أن تجد فرشا لملابس داخلية يغطي مدخل مبني قديم منقوش عليه تاريخ بنائه 1888 أو تجد أكواما من القمامة أمام مبني كان في أحد أدواره قديما السفارة الأمريكية. ويضيف: أتمني أن أعيش اليوم الذي أجد فيه اهتماما بهذا التراث، فقيمة هذه المباني ليست في كونها قديمة وعتيقة فقط ولكن أيضا لكونها نموذجا معماريا لم ولن يتكرر. الوطن برائحة الغياب رائحة الغياب عنوان آسر لكتاب تحت الطبع من تأليف الكاتب أسامة كمال وتصوير وليد منتصر. وهو يبحث عن ذلك الزمن الذي رحل وترك أثره في المكان والروح. يفرد الكتاب صفحات عديدة لبورسعيد بشوارعها ومبانيها وشخوصها ذات الطابع الأسطوري. وهو ضمن محاولات عديدة تهتم بتوثيق تاريخ المدينة وتراثها المعماري يشارك فيها وليد منتصر ويجمع صور المدينة القديمة خالد عبد الرحمن الصيدلي الذي تخصص في جمع مئات الصور بالأبيض والأسود منذ القرن التاسع عشر التي تؤرخ للمدينة منذ نشأتها. كان جميلا أن ألتقي بهؤلاء الشباب. أعرف أسامة كمال من خلال زياراته المتكررة للقاهرة كأديب وصحفي حر وكاتب أطفال. وكانت المفاجأة ذلك الزخم من العمل والاهتمام من شباب بورسعيد المثقف والواعي، الذي احتفظ بقدر كبير من الشغف والصدق. وقد حدثني أسامة كمال عن تجربة الكتاب. شخصيات سحرية بدأت فكرته بمقالات عن شخصيات قديمة. وأنا جزء من الحكاية، أرصد تأثيرها عليّ وعلي المحيط. الشخصيات المهمشة والمنسية وشخصيات من الثورة مجهولة وشخصيات تمثل قيمة وأماكن وأشياء كأفيش السينما. رحلة اكتشاف لمدن القناة الثلاثة وهناك أشياء من مصر عموما. من شخصيات الكتاب عم احمد عوض حلاق وقصاص وشاعر في الخمسينات، وكان عنده نتيجة عليها رقم سبعة لا يتغير وكنبة سحارة للانتظار فيها كل الأشياء التي حصل عليها من البحارة والبمبوطية وشهادة تقدير من قصور الثقافة. تحمل موت ابنه وابنته وزوجته، ولم يتحمل نقله من مكانه الذي تمت إزالته فمات. أيضا عم سعد المصور الذي كان يعمل علي ماكينة اشتراها بأربعة جنيهات وهو صاحب استوديو الرصيف، ومازال حتي الآن يحمض بطريقة بدائية. والده عم عباس أول من أمسك كاميرا في بور سعيد. احتد علي مديره في الشركة وخرج بدون مستحقات. كان هناك مكان للأرمن تركوه، وبه كاميرات اشتغل بها ولما رجعوا تركوها له لبراعته في التصوير، وعلم أولاده ومنهم عم سعد. يجلس في نفس المكان من الحرب العالمية الثانية. صور عبدالناصر وعبدالوهاب وكل الاماكن القديمة في بورسعيد. هناك أيضا شخصية الجنرال كما يطلق عليه أهل بور سعيد. وهو شخصية سحرية يلبس سلاسل ذهبية وقنبلة مسيلة للدموع ويلقي البيانات. وهو يذكرنا بمجموعة من الشخصيات السحرية البورسعيدية في الماضي مثل شخصية أبو الفقر الذي كان يركب الحصان الأبيض في احتفالات بورسعيد ويرتدي نياشين نحاسية وقد مات منسيا في عزبة فاروق. أيضا شخصية كوريا البلوك أمين وهو معادل لأبو العربي، أتي بفلوس من حرب اليمن، وكان يركب الحنطور ومعه اثنان يلمعان له الحذاء. وسيد الشرايدي المعادل لحسن اللول الشخصية التي جسدها أحمد زكي في فيلمه الشهير. كذلك يحتفي الكتاب بأشياء وأماكن كتمثال الملك فؤاد الذي وضع علي قاعدته لعشرة أيام ثم قامت ثورة يوليو وتمت إزالته، وعاد ليوضع عام 2002 وأزيل بعد ضجة قام بها البدري فرغلي، ليعود إلي المخزن كما كان. وهناك أيضا متعلقات دليسبس في مدن القناة الثلاثة والتي قمنا بتتبعها ومنها حكاية تمثاله الشهير. تراث معماري فنان الفوتوغرافيا وليد منتصر واحد ضمن حركة قوية للتصوير في بورسعيد. يشاركون في المسابقات ويحققون نجاحات كبيرة. أقام وليد معرضا عن بورسعيد برؤيته حاول من خلاله إعادة العلاقة بين الناس ومدينتهم التي حجبت عنهم بسبب المنطقة الحرة. يقول وليد: حتي البحر حجب عن الناس. تربيت في بورفؤاد في منطقة الفيلات وحي الافرنج في بورسعيد وهي المتأثرة معماريا بالمعمار الأوربي. وفي المعرض الذي أقمته عن المدينة التقطت مشاهد كشتاء بورسعيد والنوارس والبحر والصيادين. كما رصدت قبل الثورة حالة الإحباط والانزواء للوجوه والأجساد وإحساس الاغتراب. عمل وليد أيضا علي تصوير وتوثيق التراث المعماري للمدينة بالتعاون مع المركز الفرنسي. ومن خلال هذه التجربة تعمق في فهمه. وأصبح من الناشطين في هذا المجال. من خلال مبادرة تراث بور سعيد. يقول إن بورسعيد عمرها حوالي 150 سنة لكن فيها توليفة غير متكررة لمدينة كوزموبوليتانية. وهو ما انعكس في المعمار والمدارس والكنائس وامتزج مع العمارة الشرقية وخرجت توليفة عمارة خشبية. ومبان كثيرة لها حكايات. مالا يعرفه الكثيرون أن جوستاف إيفل صاحب برج إيفل أقام كوبريين صغيرين في بورسعيد. عند منطقة جمركية ولديّ صور لهما. ولديّ الرسم الذي رسمه بيده. كذلك كان يوجد في بور سعيد البيت الحديد كما يطلق عليه الناس وقد أقام فيه مونتجمري والملك جورج وأوجيني عندما جاءت في المرة الثانية بعد 25سنة وأول أسانسير كهربائي في مصر كان في البيت الحديد، وكان فندق وسينما وكازينو. الفنار كان بمثابة التقاء لشوارع عديدة وحتي في بورفؤاد الشوارع رسمت لتراه في نهايتها من الشاطئ الآخر. ونحن بنينا حوله مباني وأخفيناه، وهو أقدم مبني خرساني في العالم. عمارات رائعة يرصد وليد منتصر 1500 مبني تراثي في بورسعيد، والمسؤولون اختصروها كالعادة للمصالح والمجاملات وبقي 700 أو أكثر بقليل. التنسيق الحضاري قام بالتوثيق فقط. هناك مبان متهالكة. فندق ناسيونال عمره 140 سنة ومتهالك وترميمه هو أن يهدم وتبني نسخة طبق الأصل كما قال الخبراء. علي مستوي العالم الترميم يتم بالتوعية والإقناع بأن التراث يأتي بدخل. لو كانت هناك صيانة دورية لما وصل لهذه الحالة. نريد للمكان أن يخدم الناس. العالم يستفيد سياحيا من التراث المعماري. كما يري وليد. من المعالم الهامة في المدينة: البيت الإيطالي وكان البيت الثقافي للطلاينة وعليه رخامة باسم موسوليني الإمبراطور العظيم. وأيام الحرب كان مقر الحزب الفاشي في بورسعيد. بورسعيد كان فيها 18 ألف إيطالي وأكثر من ثلاثين ألف يوناني. كانوا يسكنون في الحي الإيطالي وشوارع أخري وبورفؤاد وكانوا مندمجين في الحياة، لكن هاجروا في الخمسينات والستينات. هناك حماية قانونية علي الورق لبعض المباني لكن في الواقع تنتهك. ومن يعتدي علي عقار لا تنفذ العقوبات. أبيض وأسود من الشباب المهتمين بتوثيق تراث بورسعيد الصيدلي الشاب خالد عبد الرحمن. بدأ الموضوع عندما قرر ترميم بيتهم القديم ليتزوج فيه. دخل في تفاصيل هندسية ومعمارية جرته إلي عالم ساحر لم يخرج منه حتي الآن. لديه مئات الصور عن تراث المدينة المعماري وشوارعها. ويعيش حالة حنين دائم لما كانت عليه مدينته كما في الصور بالأبيض والأسود. المدينة التي كانت ملتقي لثقافات العالم. يحب كثيرا فندق ناسيونال فهو أشبه ببيوت الأمريكان في أفلام رعاة البقر القديمة، كما لفت نظره عمارة سلويك .. العمارة الأقدم في بورسعيد التي ظهرت في صور بدايات بورسعيد عام 1880 يقول خالد: من المفارقات العجيبة أن تجد فرشا لملابس داخلية يغطي مدخل مبني قديم منقوش عليه تاريخ بنائه 1888 أو تجد أكواما من القمامة أمام مبني كان في أحد أدواره قديما السفارة الأمريكية. ويضيف: أتمني أن أعيش اليوم الذي أجد فيه اهتماما بهذا التراث، فقيمة هذه المباني ليست في كونها قديمة وعتيقة فقط ولكن أيضا لكونها نموذجا معماريا لم ولن يتكرر. ناضل وغني للحب والوطن الشاعر كامل عيد يتذكر أيام النضال هناك أشخاص يختزنون خلاصة المدن. الريس غزالي في السويس وعم كامل عيد في بور سعيد، وغيرهما في مدن النضال والحرية. عاش الرجل أيام العدوان الثلاثي وكتب ولحن أغاني المقاومة. وعاصر تاريخ المدينة التي بقي فيها خلال تهجير ما بعد النكسة. والكلام معه ممتع والاستماع إليه لا يمل، وذكرياته تحتاج إلي كتب لتدوينها. وصوته ما زال يحتفي بالحياة وهو ينشد لنا بعضا من أغانيه. لأول مرة لا أطمئن علي مصر رغم أنني شاهدت الأعداء يدكون البلد بالقنابل. بهذه الكلمات يصف عم كامل الحال الآن. ويضيف: في ثورة الشباب التي انتظرناها واستمرت 18 يوما فقط كان الشعب كله بعلم واحد. يحملونه ويرسمونه علي الجباه. شعرت أن التغيير قادم. لكن الأحداث جعلتني أقلق حتي تفاقمت الأمور.. عاش الرجل كل الاحداث فهو من مواليد بورسعيد 1932 والأم والأب أيضا مواليد بورسعيد. جدوده جاءوا بعد حفر القناة، وجده لوالده كان يعمل في شركة قناة السويس العالمية. ويضيف: تنقلت وأنا طفل بين عدة أماكن بسبب عمل والدي. وهو ما أكسبني الكثير من الخبرات. وعشت في الإسكندرية وأحببتها لأنها قريبة الشبه من بور سعيد. عشنا مع الأجانب باحترام متبادل وكان أملي أن أعمل في الكوبانية. (شركة القناة) لذلك قررت تعلم النجارة عملا بنصيحة أمي، حاولت عام 55 ولم أتمكن رغم نجاحي في الاختبارات. وعندما أمم عبدالناصر القناة فرحت بورسعيد. وبورسعيد ناصرية ارتبطت به وارتبط بها. ظل الأجانب موجودين وظلوا يعاملون برقي، لكن أتيحت لنا فرص أكبر للالتحاق بالعمل. ويحكي عم كامل عيد عن ذكريات النضال: وزعوا علينا السلاح، تشيكيا، وصعدت وشددت بندقية، ولم أكن مدربا، ونزلت إلي ميدان المسلة. ذهبت لعساكر الجيش، وعلموني تنظيفها وتشغيلها. وأعطوني تسع طلقات. وذهبت إلي الحي عند أبو سمرة بتاع الطعمية، وأكملت تنظيفها وعلقتها في كتفي وكنا نعلم بعضنا مهارات القتال. في 29 أكتوبر بدأ العدوان الفعلي وفوجئت أن بور سعيد تدمر لمدة أسبوع ضربت خلاله ليلا ونهارا. أنزلو قواتهم علي الشاطئ وحاصروا بور سعيد ودخلوها من شارع محمد علي ووضعوا علي أول دبابة العلم الروسي، وكانت خدعة حيث ضربوا الناس في محمد علي من ناحية الإفرنج. وبدأت المقاومة وهناك من أبطالنا من دهسوا تحت الدبابات ووصل المعتدون للرسوة وظلوا حتي وقف إطلاق النار فنزلنا ووجدنا الجثث تملأ الشوارع. الناس أخذت أهلها إلي المستشفي الأميري وكانوا يحملون الجثث علي عربات اليد ودفن البعض في الاستاد لأن المقابر لم تكف. هكذا أفسدت بورسعيد خطة الدول الاستعمارية. كان مصطفي شردي يصور، ونيسكاتيللي الإيطالي وهو خال لاعب الكرة الشهير ألدو، وكان شكله أجنبيا واعتقد المهاجمون أنه معهم فسمحوا له بالتصوير. كنت من قام بعمل موبيليا نيسكاتيللي في ورشة بالإفرنج، لذلك كان يعرفني ويثق بي وقد أعطاني صورا التقطها للعدوان أخذتها وقت الحصار عندما كنا نأكل العيش الحاف ونشرب من بالوعات المطافئ. واستطعت تهريبها عبر بحيرة المنزلة وإرسالها إلي الجرائد في القاهرة، ليري العالم بشاعة العدوان. ويروي عم كامل عيد مسترسلا حكايات عن أسر مور هاوس قريب الملكة علي يد حمدالله وسيد عثمان ومحمد سليمان وطاهر مسعد وعلي زنجير وأحمد هلال. وعن عسران الذي كان في بيته قنابل يدوية ووضع قنبلة في رغيف وجعل الفتيل في فمه. وقام بواحدة من أهم العمليات الفدائية. ويحكي عن محمد مهران الذي أخذوا عينيه.. ويتحسر علي هذه الأيام ويقول: الآن يتآمرون علينا ليحولونا إلي قتلة. بور سعيد التي دافعت عن مصر والعالم العربي. وحولت دولا عظمي إلي دول درجة ثانية. ويتحدث عن مشواره مع الشعر وكيف تأثر بالسينما حيث كان في بور سعيد ست عشرة دار سينما حتي أواخر الستينات. الآن لا يوجد سوي ثلاث تقريبا. هذه الأجواء وحالة الانفتاح الثقافي للمدينة فجرت داخله الرغبة في الكتابة. شقت أغنياته طريقها إلي الوجدان الشعبي حتي أن باحثي التراث عثروا علي بعضها في قري المنزلة علي لسان الفلاحات. وأحمد مرسي كان يجمع أغاني وسأل عن مؤلف أغنية حبيتك يا بت يا شلبية. واكتشف أنها أغنية عم كامل. وعن ذكريات النكسة يقول: هجرنا عام 69، وظللنا طوال عامين نقوم بعمل صناديق كبيرة لنقل المعدات، من الهيئة، وكنت أشعر كأنني أكفنها. طلبت أن أكون في الدفاع الشعبي. وعملنا ورشة طوارئ وغرفة عمليات في مخبأ من أيام الحرب العالمية الثانية وكان رحمه الله صابر عبد الرحيم سبقني بأسبوع أو اثنين. وكانت فرقة ولاد الأرض قد ظهرت والكابتن غزالي، وغنوا وطنيات جميلة من السويس. وطلب مني عمل فرقة علي غرار السويس والإسماعيلية. وقمنا بتكوينها من الدفاع الشعبي والمدني، وكان فيها حمام أحمد نصر وأحمد كفتة والشحات وشيخون ومحمد الأمريكاني كان عازف السمسمية، وبحثت عنه في شارع السواحل وكانوا خميرة السمسمية الباقية حتي الآن. وكنا نقوم بالبروفات في الترسانة البحرية. ثم انتقلنا إلي النقابة لقربها. وكتبت الأغاني للفرقة. ولحنتها. عم كامل عيد شاعر عامية مهم كتب له الشاعر عبدالفتاح مصطفي مقدمة أحد دواوينه، كما طبعت أعماله والنوت الموسيقية لألحانه. وكتب عن أشعاره النقاد. ويظل جزءا حيا من ذاكرتنا الوطنية والنضالية وقيمة فنيه تزداد مع الزمن. يؤرخ للشوارع ويوثق الحرف: روح بور سعيد في لوحات مصطفي العزبي فنان من طراز خاص. تخصص في توثيق الحياة في بورسعيد. حياة البسطاء من صيادين وعمال وحرفيين. كأنما يحاول تجميد الزمن عند ذكريات الطفولة. تلك الذاكرة التي احتفظت بروح بورسعيد في زمنها الجميل. لوحاته تشعرك بحنين غامض، وعلي قدر ما يتمسك بشوارع بورسعيد وشواطئها كعالم لأعماله، إلا أن الزمن المصري عموماً حاضر بقوة. يرسم تقاطعات شوارع بعينها في بورسعيد بمعالمها وناسها، لكنه يستطيع أن ينفذ إلي ذاكرتنا جميعا علي اختلاف مدننا الفنان مصطفي العزبي الذي يستشرف السبعين بأقل القليل من الضوء علي أعماله، فنان يستحق الاحتفاء بقدر ما احتفي بروح الوطن. عرفته علي الإنترنت بالصدفة وأنا أتصفح مواقع تهتم ببورسعيد قبيل سفري. أصررت علي لقائه. وبعد جهد في الوصول إلي تليفونه ومكانه كان اللقاء. الأتيليه الخاص به في منطقة شعبية كتلك التي يرسمها في أعماله. مكان صغير ومزدحم بالأعمال. اندهشت عندما علمت أن عمله الأصلي مقاول معماري. بدأ سلسلة أعماله التي توثق الحياة في بور سعيد منذ عام 97.. برسم والده الذي كان يعمل جزارا، وتوالت اللوحات. رسم صيادي أم الخلول وبائع البطاطا وعمال الفحم في السفن البخارية ومبيض النحاس وسوق السمك والكلوباتي وبائع البطيخ »بالشقة« وشاطئ بورسعيد والبمبوطية وبائع البقلويظ والمنجد وبائع الكنافة والقطايف والسواري وهو يقبض علي عربجي يضع حمولة زائدة ترهق الحيوان وغيرها العشرات من مشاهد الذاكرة الجميلة. يهتم بالتفاصيل ويرسم غالبا تقاطعات شوارع بعينها بمعالمها. كما كانت في زمنه الجميل الذي يبرع في نقله إلينا بسلاسة ورسوخ. أقام معرضا بسويسرا عام 2002 ضم ثلاثين لوحة ولديه الآن أكثر من سبعين لوحة بعضها لأماكن لم يعد لها وجود كمحطة اللنشات التي كانت توصل إلي المطرية ودمياط وبحر البقر في بحيرة المنزلة. المكان ردم ضمن أماكن عديدة. ويتحدث عن موضوعات لوحاته بشغف يعادل شغف ألوانه بذلك الزمن. يحكي عن موسم صيد السردين قبل السد العالي الذي كان يشبه موسم جني القطن، يتزوج بعده الشباب. أيام كان الكيلو ثمنه 12 قرشا ووقة الجمبري بأربعة قروش. يتمني مصطفي العزبي وضع لوحاته في مكان ببورسعيد لتراها الأجيال الجديدة ورفض عروضا لبيع الكثير منها. يحكي بمرارة عن أنه طلب من سعد عبدالرحمن رئيس هيئة قصور الثقافة عرض أعماله في القاهرة، لكنه قال له: هي القاهرة ناقصة فنانين. لكنه تمكن بعدها من العرض في أماكن خاصة. والسؤال: إذا لم تكن رعاية وتقديم العون لفنان من هذا الطراز هو دور هذه الهيئة فماذا يكون دورها؟ مذبحة في حديقة المنتزه: بور فؤاد تستغيث كنت أبحث عن حديقة المنتزه التي أحبها، ولكنني لم أتعرف عليها عندما وقفت علي بابها. تجولت في المدينة بحثا عنها واعتقدت أنني تهت عنها. حتي التقيت بشاب من بورفؤاد حكي لي الحكاية. قال لي: هذه هي حديقة المنتزه، لكنها لم تعد كما كانت. واتر البحري ناشط بيئي ومصور حياة طبيعية، وكاتب حر في مجلة ناشيونال جيوجرافيك للشباب مصر. مهتم بشكل خاص بحديقة المنتزه. يعرف تاريخها وحكاية كل شجرة فيها. يعرف الطيور المهاجرة التي تحط علي أشجارها. الحديقة التي أنشئت مع المدينة في عشرينيات القرن الماضي. يقول واتر: أنا أيضا لم أعد أجد الحديقة علي صور القمر الصناعي علي موقع جوجل لأنه تم ذبح أشجارها. هذه الحديقة التي أنشئت بنظام خاص كمصدات للهواء وامتصاص الملوحة ولتكون مناسبة للطيور المهاجرة وبالتالي للتوازن البيئي تم ذبح أشجارها ضمن المذابح اليومية لحدائق مصر وأشجارها من كلية الفنون الجميلة بالزمالك إلي حديقة فريال ببورسعيد إلي حديقة الحيوان بالجيزة وفي العباسية وغيرها. يري واتر أن الموضوع وراءه شبكة منظمة تتاجر في الأشجار بحجة أنها قديمة ويجب قطعها. وأن الموضوع لا يخص بورفؤاد ولكن علي مستوي الجمهورية. ويقول: فتش عن المحليات واسأل وزارة الزراعة. ويشير إلي الحفر حيث اقتلعت أشجار بكاملها عمرها عشرات السنين. أحد المسئولين قال إنه اقتلع الأشجار حفاظا علي الآداب العامة، ويأتي ذلك ضمن سياسة التفكير بالنصف الأسفل التي تتبناها الدولة حاليا. الأشجار المتبقية عارية وقبيحة مطلية بجهل بلون أبيض. ونفس الشيء حدث لحديقة فريال قبل عامين واكتشفوا أن هناك مقاولين من الشرقية أخذوا الأشجار لتصنيع الأثاث. وكان رئيس حي بورفؤاد الحالي هو رئيس حي الشرق وقتها. أما السيدة مسئولة حدائق بورفؤاد فتري أن الحديقة الآن أفضل بدون أشجار أو ظلال. مذابح الأشجار مستمرة في كل المحافظات تقريبا وربما لن تنتهي قبل انتهاء مذابح البشر.