برغم برودة الجو وغياب يطول لأشعة الشمس وتلحف الناس هنا بالصوف والجوخ من "ساسهم لراسهم"، إلا أن دفء مشاعر الأتراك تجاه ضيوفهم ونظافة مدينتهم استانبول الضاحكة – وكل مدنهم – تبعث علي الحيوية والنشاط مهما كانت البرودة والأمطار التي قد تستمر يوما ونصف اليوم بدون توقف، ومع هذه الأمطار التي تجري أحيانا كالسيول لم تتوقف الحياة ولم يرتبك المرور ولم تغرق استانبول في شبر ميه بل علي العكس تغسل المدينة وجهها الصبوح وتتألق أكثر فأكثر، أشجارها وشوارعها وتمضي الحياة سهلة مريحة ، عرفت أن طريقة تخطيط استانبول العتيقة وأخواتها أقرب إلي مدينة الإسكندرية بانحدارات مناسبة تفضي إلي بالوعات صرف علي الجوانب ذات كفاءة عالية مما يسهل عملية ابتلاع ماء المطر كاملا وتحويله إلي خزانات كبيرة ربما لإعادة استخدامه في الري أو ثمة أغراض أخري ، والأهم أن المواطن والزائر لاترتبك حياته ولا تغرقه معاجن الطين والروائح الكريهة بل رأيت الناس تخرج للاستمتاع بزخات المطر التي ترسم لوحة شتوية ممتعة لاتفارقهم ابتسامة صافية ، سألت نفسي. إذا كانت المسألة سهلة هكذا فلماذا نغرق نحن في شبر مية؟ هل لأن القاهرة وأخواتها شاخت؟ أم لأن مهندسينا نسوا ماتعلموه بكليات الهندسة فبنوا صرفا سقيما عقيما أليما لا يبتلع ماء المطر ولا حتي المياه المعدنية! بلا شك هذه أم الكوارث أن تقف مصر عاجزة عن تعديل مسارها وإنقاذ شعبها من مخلفات الأمطار التي تربك كل شيء في شوارعنا المكلومة برغم الملايين التي أنفقت من سنوات لتعديل مسار الصرف ولم يتغير أي شيء، لا أعتقد أن الأتراك استعانوا بخبرات عالمية في هذا المجال كما فعل الخليجيون من قبل وإنما بسواعد مهندسيهم صمموا ونفذوا مشروعاتهم الأساسية التي هي لبنات التحضر والتقدم والازدهار ،وأتحسر علي يوم وقف فيه رفعت إينونو رئيس تركيا في العام 1934 يصرح للصحافة عقب عودته من مصر فيقول : أتمني أن أعيش يوما أري فيه بلادي مثل القاهرة...!! لذا أعيد علي أسماع المسئولين هذا النداء ..إن كان مهندسونا أفرغوا مافي جعبتهم من فنون وخبرات فابحثوا عن خبرة أجنبية تقدم حلا عمليا لمشاكلنا في البنية التحتية وكفانا تغنيا بأمجاد الأجداد بناة الأهرامات فقد عملوا وأبدعوا لعصرهم ولن تشبعنا أغاني الأمجاد ولن تحل مشاكلنا، ولربما يشعر المهندسون المصريون بأسي وتحرقهم حمرة الخجل من نتائج أعمالهم التي حولت مصر إلي مدينة عجوز عقيم! .. هنا في استانبول أخبار مصر تشغل بال القاصي والداني من آسيا وأوروبا وأفريقيا الكل يسألني متي تستقر مصر لنزورها ففيها الأحباب والأصدقاء وفيها راحتنا وسعادتنا.. فهل نشعر نحن المذنبون بما فعلناه في حق مصر.. ألا يكفي ما قدمنا من تشرذم وانفلات؟