الذين عايشوا وقائع ثورة 52 يناير علي الطبيعة في ميدان التحرير وكافة ميادين مصر وشاركوا في صناعتها رأوا أنها كانت ثورة بيضاء ونقية الثوب فلم يكن هناك مجال لعنف أو تحرش أو حوادث اغتصاب أو إشعال حرائق والجرائم التي ارتكبت خلالها كانت من الجانب الآخر الذي كان يريد إجهاضها ووأدها في المهد، كان التحرير بحق أيقونة الثورة خلال ثمانية عشر يوما لأن من كان داخله آنذاك هم الثوار من الشباب ومن مختلف الأعمار ، لكن كيف هي الأحوال الآن في الميدان؟ من يغامر بعبوره ماشيا أو بسيارته يري أنماطاً غير التي كانت أيام الثورة ، معتصمون وباعة جائلون وغيرهم عند مطالعة وجوههم وما يمارسونه من أعمال تكتشف أنه لا صلة بينهم وبين الثوار والمتظاهرين ويكفي ماحدث من جرائم تحرش واغتصاب خلال الفترة الماضية للدلالة علي نوعياتهم ، وحتي الآن لم يملك أي فصيل سياسي أو ائتلاف ثوري الشجاعة أن يعلن أن الميدان لم يعد به ثوار أو متظاهرون ليعطوا الضوء الأخضر لسلطات الأمن أن تخليه من تلك العناصر وتطهيره مما يمارس فيه لكن يبدو أن للبعض مصلحة في إبقاء الحال علي ما هو عليه كوسيلة للضغط والابتزاز السياسي !! أتذكر بعض ماعايشته في الميدان خلال 81 يوما عندما كانت الفتيات والسيدات منقبات ومحجبات وغير محجبات يسرن كان الطريق يفسح لهن ،كان شباب لجان تأمين الميدان يعتذرون بشدة لاضطرارهم لتفتيش الداخلين ، كان شباب الأقباط يحيطون بالمسلمين أثناء الصلاة لحمايتهم ، ركن للاستماع لأغاني الشيخ إمام ، ركن آخر لقراءة القرآن وثالث لبعض أمهات الشهداء ، مسيرات الأزهريين ومسيرات للميدان من النقابات واتحادات مهنية وغيرها ، لم يجرح أحد إحساس الآخر بكلمة أو تصرف ، عيادات في أركان الميدان لعلاج الجرحي والمرضي ، نائمون بجوار الجدران وفي مداخل العمارات وبين جنازير الدبابات ، قوافل إعاشة للمعتصمين تأتي من كل مكان ، من ينسي لحظات الهجوم علي الميدان يوم موقعة الجمل ودموع الحزن عندما تمسك مبارك بالبقاء في الحكم ودموع الفرح في يوم التنحي والكل يعانق بعضه البعض كلها مشاهد تدل علي نقاء تلك الثورة ومن عاشوا وشهدوا أحداثها وقدم المئات في سبيل نجاحها أرواحهم لم نسمع أونشاهد ثائرا يتعدي علي منشأة عامة أو كنيسة أو مسجد أو قطع طريقا أوحتي سب الآخرين وكانت كل الأفعال الشائنة أو المجرمة قانونا من أفعال الطرف الآخر أي من النظام السابق وأعوانه لكن الصورة انقلبت بعد أيام الثورة الثمانية عشر فكما أطلقت تلك الثورة الحمائم خرجت الهوام من جحورها ، بدأت موجات الانفلات في كل شيء وكأن الثورة في فهم الكثيرين أن أفعل ما أريد وليذهب الآخرون للجحيم ، أصبح تجاوز القانون هو القاعدة وماتبقي استثناء ، تعديات علي الأراضي الزراعية ومخالفات البناء والمرور وفوضي الشارع والبلطجة والسطو المسلح والمليونيات تحولت إلي حالة إدمان تنتهي عادة بكوارث ، أما الإعلام فكان ومازال كارثة الكوارث فقد تحول مناصرو وفلول النظام القديم إلي ثوار ومناضلين رغم أن سجلهم يعرفه القاصي والداني وبالمثل السياسيون الذين لم يقتربوا من ميادين الثورة لكنهم ادعوا زورا وبهتانا أنهم من صناعها !! العملية السياسية كانت أشبه بمتاهة بسبب الاضطراب والتخبط وما وقع من أخطاء من جانب من تولوا الحكم في المرحلة الانتقالية (المجلس العسكري) ودخول القضاء علي خط السياسة وتصاعد الصراع بين القوي الإسلامية والليبرالية واليسارية وظهور قوي الثورة المضادة بقوة علي الساحة لإحداث أكبر قدر من الفوضي ، وشهدت البلاد خمسة استحقاقات سياسية (استفتاءان وثلاثة انتخابات برلمانية ورئاسية) صبت نتائجها في صالح التيار الإسلامي مما دفع لحالة استقطاب وسيولة غير مسبوقة خاصة بعد وصول رئيس ينتمي للتيار الإسلامي لسدة الحكم لتبدأ أسوأ مرحلة في الممارسة السياسية التي يحكمها نزعات الانتقام وتصفية الحسابات والانقلاب علي الشرعية المستندة علي الإرادة الشعبية تم التعبير عنها في صناديق الاقتراع ، كانت البداية مع معركة الدستور أولا في استفتاء مارس 1102 وكانت الغالبية مع إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية – للتذكرة تونس اختارت الدستور أولا ولم يتم وضعه حتي الآن - وجاء برلمان جديد لاحقته الطعون فأسقطت مجلس الشعب بحكم فصل دستوري وانتخابات رئاسية جاءت برئيس مدني منتخب لأول مرة ، الصراع ازداد تفاقما خاصة حول الجمعية التأسيسية للدستور وجاءت نتائج الاستفتاء بالموافقة بأغلبية تقارب الثلثين ، ولكن منذ ذاك الوقت شهدت البلاد حالة احتراب سياسي بين المعارضة والقوي الإسلامية استخدمت فيها كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة من خطاب سياسي تجاوز كل الخطوط وإعلامي انفلت من كل المعايير المهنية والأخلاقية وحالة شارع بدأ يمارس العنف والتخريب في التظاهر خلال الأسابيع الماضية خاصة بعد حكم القضاء في مذبحة بورسعيد وماجري بمحافظات القناة من أحداث دامية ! نحن نعيش في مرحلة أزمة أسهمت فيها كل الأطراف من سلطة ومعارضة وبقايا النظام القديم الذين يرتدون أقنعة سوداء وليس البلاك بلوك وحدهم ويتحركون من خلف الستار لإجهاض الثورة وإعادة عقارب الساعة للوراء بكل ما أوتوا من قوة ومابذلوا من أموال واستغلال شباب غاضب واستخدام مسجلي خطر وأولاد الشوارع ، ونخبة سياسية اقتصر دورها علي عقد المؤتمرات الصحفية والدعوة لمليونيات والدعوة لإسقاط النظام في استنساخ لثورة يناير وتنادي البعض لعودة الجيش للحكم كما وفرت مواقفها الباهتة غطاء سياسيا للعنف في التظاهرات الذي يقود مصر لحافة الخطر ويخدم أعداءها في الداخل والخارج ويعيدنا لنقطة الصفر لنظل في تلك المتاهة إلي ما لا نهاية ونقول للجميع أليس منكم رجل رشيد؟؟!!