المتسولون في المجتمع ليست ظاهرة جديدة.. وإنما منتشرة ومتجذرة منذ القدم.. لكن الجديد هو ظهور فئة من المتسولين هم كبار السن والذين يثيرون شفقة الناس لكبر سنهم وحركتهم المحدودة البطيئة بالإضافة لما يدعونه من أمراض صعبة وعاهات يظهرونها للناس سواء كانت حقيقية أم مصطنعة.. قد يجمعهم سوياً خيط مشترك ولكن أيضاً لكل واحد منهم حكايته سواء كانت صادقة أم كاذبة. »آخر ساعة« خاضت التجربة في المواصلات العامة وتحدثت مع بعض هؤلاء المتسولين وسردت حكاياتهم المختلفة ثم ناقشت المختصين حول هذه الظاهرة. مشاهد يومية قد تعتاد عليها أثناء ركوبك المواصلات العامة سواء من باعة جائلين أو متسولين يصعدون فيها يومياً وخاصة مترو الأنفاق.. يشتكون من الفقر والمرض والأعذار المختلفة التي يستجدون بها شفقة الركاب وصدقاتهم.. هذه الأشياء غالباً تكون غير حقيقية ولكن الجديد هو ظهور المسنين الذين انتشروا في الفترة الأخيرة مستغلين كبر سنهم وضعفهم لتبرير تسولهم هذا بعدم المقدرة علي العمل.. »عم أحمد« 61 سنة مريض بالسكر والضغط وليس لديه مصدر للرزق ولا معاش وأصيب بعاهة في قدمه من أثر مرض السكري.. وقد كان يعمل سائقاً من قبل ولكنه الآن لا يستطيع ممارسة هذه المهنة ويلجأ للتسول لأنه يحتاج لمصاريف علاج وأدوية مكلفة بصفة مستمرة غير ما يلاقيه من آلام بسبب العمليات التي أجراها في قدمه بسبب مرض السكر وما جره عليه من متاعب. الحاج محمود يدعي أنه متعلم وخريج جامعة لكنه كفيف البصر 58 سنة لا يستطيع العمل ووالدته كبيرة جداً في السن وقعيدة الفراش مصابة بأمراض مزمنة وكثيرة بسبب مرحلة الهرم وتحتاج لأدوية بصفة مستمرة وهو لا يمتلك مصدراً ثابتاً للرزق ويعتمد علي الصدقات من أصحاب القلوب الرحيمة. »عم محمد« يصعد المترو دائماً حاملاً قسطرة وكيسا ممتلئا بالبول يثير الاشمئزاز يناشد الناس بحق مرضه وفقره أن يعطوه ما يجودون به وأنه دائماً من نزلاء المستشفيات بسبب مرضه الدائم والذي يحتاج لرعاية طبية. »سوزان« 50 سنة تتسول من أجل أولادها الأربعة الذين لا يمتلكون من حطام الدنيا حتي قوت يومهم الذي لا يجدونه وليس لديهم غطاء يقيهم من برد الشتاء وينامون علي حصيرة قديمة بالية في عز البرد والشتاء.. إحدي السيدات تعرض عليها العمل بالبيوت وتنظيف الشقق للحصول علي مبالغ محترمة تستطيع سد عجزها والإنفاق علي أولادها الأربعة الذين تتحدث عنهم.. لكنها تأبي بحجة أنها مريضة بعدة أمراض ولا تستطيع العمل والجهد. »سيدة« امرأة أخري تتشابه ظروفها مع سابقتها ولكن »سيدة« أجرت عملية بثديها نتيجة إصابتها بالسرطان وتأخذ علاجا كيماويا وجسمها لا يتحمل العمل ولكنها تريد إيجاد القوت فقط لا أكثر. امرأة أخري تصعد المترو وتجر أمامها شاباً يجلس علي كرسي متحرك مصابا بإعاقة وهي التي تسعي عليه لشراء الأدوية له.. هناك سيدة أخري منظرها هي ومن تجره يثير الدهشة.. فهي تصطحب أمامها شاباً ضخم الجثة يرتدي دائماً جلبابا أبيض متسخا.. بطنه بارزة بصورة كبيرة وتتسول عليه قائلة: بأنه مصاب بفشل كلوي وكبدي ويعاني الأمرين ويحتاج لمصاريف باهظة ولا تستطيع تدبير أي شيء منها بخلاف الطعام الذي لا يجدانه.. ووسط كل هذا الكم الهائل يحتار الناس حول هذه المناظر.. هل هم يستحقون الصدقة أم أنهم محتالون ونصابون وكل هذه حيل لاستجداء عطف الناس فقط.. فالكثير يرون أنهم مساكين ويستحقون فيقوموا بإعطائهم بالفعل ولكن البعض يؤكدون أن كل هؤلاء مخادعون ونصابون وأن كل هذه حيل ابتكروها من أجل التسول حتي أن هناك سيدة من الركاب أقسمت بأنها رأت بعينيها بعض هؤلاء الذين يضعون القسطرة وعبوات البول وهذه الأشياء بعد أن يفرغوا من تسولهم يجلسون بعيداً بجانب حائط في حارة هادئة ويقومون بنزع هذه الأشياء بسهولة اعتادوا عليها فترد أخري قائلة: إن معظمهم حرامية ونشالين ونصابين.. فما إن فتحت حقيبتها لتعطيهم صدقة فراقبها هذا الشخص الذي أعطته حتي نزلت من المترو وانقض سارقاً حقيبتها وفر هارباً بما تحتويه الحقيبة وكانت لتوها حاصلة علي مرتبها في ذلك اليوم فكانت حسرة هذه السيدة وقتها لا توصف ومنذ ذلك الوقت لم تعد تعطي هؤلاء أي شيء.. ووسط كل هذه الأشياء المتشابكة قد يحتار البعض ولا يعرف هل يعطي لهؤلاء أم لا.. هل هم مستحقون أم أنهم محتالون. تقول الدكتورة سامية خضر أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس: للأسف أصبح المجتمع المصري غير مكترث بالعمل.. فامرأة في سن العشرين أو الثلاثين أو حتي الأربعين تمتلك قوة هائلة علي العمل وطاقة كبيرة ولكن مع ذلك لا تريد العمل ولا بذل المجهود ولكنها تفضل التسول وكأننا مجتمع يبحث عن الفائدة بدون عمل وبدون مجهود وليست هناك أسس للعمل ولا دافع له.. وكل شخص أصبح يريد الحصول علي الأشياء بالفهلوة والذراع فقط والنصب حتي يشعر أنه فرحان وكسبان.. أصبحنا مجتمعا يعتمد علي الآخر ولا يعتمد علي نفسه بالدرجة الأولي.. عكس اليابان مثلاً فرغم ما حدث في ناجازاكي وهيروشيما لم يبك الشعب الياباني ولم يصرخ ولكنهم أخذوا يعملون وينتجون ويبنون بلادهم من جديد.. فقد كنت أعيش هناك فترة وعرفت أنهم شعب لديهم التقدير لقيمة العمل والإنجاز.. ومع أن الكثيرين يمتلكون سيارات إلا أنهم يفضلون ركوب الدراجات.. فلو قال مدير العمل لشخص مرة استرح قليلاً أو اذهب لمنزلك مبكراً يتضايق العامل لأنه يشعر وقتها بعدم الإنجاز عكس المفاهيم لدينا تماماً وعكس ما يحدث عندنا. حتي السينما عندنا والأفلام تحفز علي القبح والانحراف مع أن الفن ليس نقل الواقع كما هو.. ولكن نقله بشكل له قيمة يحفز علي الإنتاج ولكن ما يحدث هو ترسيخ للقبح والقيم الرديئة مثل القتل والجنس والردح والسلوك السيئ.. كل ذلك يزرع القبح في المجتمع عكس تركيا وما تعرضه من مسلسلات تركية قد ينتقدها البعض.. فالمنظومة في مصر متهتكة وتحتاج لإعادة النظر.. وأما عن كيفية التعامل مع هؤلاء المتسولين فهو الامتناع عن إعطائهم لأنهم لا يريدون بذل أي جهد ولا كد. من جانبه يقول الدكتور طه أبوكريشة عضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر: من المؤكد أن هؤلاء ماداموا بهذه الصفات التي تظهر أنهم عاجزون عن الكسب وعن القيام بأي عمل يعود عليهم بما يكفي احتياجاتهم الحياتية فإنهم يكونون من أولئك الذين يقعون تحت عنوان »المحرومين« الذين جاء فيهم قوله تعالي عن المنفقين في سبيل الله: {وفي أموالهم حق للسائل والمحروم}.. كما أنه لا مجال للتردد أمام هذه الفئات التي تستدعي مشاعر الرحمة والإنسانية في قلوب القادرين الذين يجب عليهم ألا يقفوا موقفاً فيه ابتعاد عن تفريج كرب المكروبين الذين جاء في حقهم قول النبي [: (من فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة).. وكذلك قوله: (إن أفضل الأعمال عند الله بعد العبادات سرور تدخله علي قلب المسلم تكشف عنه كربة أو تقضي عنه ديناً أو تدفع عنه جوعا).. وهناك أمر آخر يتعلق بأولي الأمر وهو أنه يجب عليهم نحو هؤلاء عدم تركهم حتي يمتهنوا هذه المهنة وإنما يجب عليهم أن يقوموا ببحث أحوالهم التي يترتب عليها إيواؤهم في أماكن تحفظ عليهم حياتهم ويكون فيها إشراف كامل عليهم لأن السكوت عن ذلك يعد تفريطاً في أداء المسئولية التي سوف يسأل عنها المسئول أمام الله عز وجل كما قال النبي [: (إن الله سائل كل راع عما استرعاه.. حفظ أم ضيع حتي يسأل الرجل عن أهل بيته).