محمد نجىب أىام السلطة ومعه كلبه الذى رافقه إلى نهاىة حىاته عبدالناصر نفذ نصائح »مكيا فيللي« بالتخلص من كل الذين ساعدوه في الوصول إلي الحكم كانت سنوات الاعتقال في المرج أشد سنوات عمر اللواء محمد نجيب أول رئيس لمصر بعد ثورة 52 قسوة.. وضاعف من إحساسه بالقسوة أن البلد كلها كانت تتجه بسرعة خرافية إلي حكم الفرد وإلي تمركز السلطة في يد جمال عبدالناصر دون أن يجرؤ أحد أن يقول له: لا.. فبعد أن كان كمال الدين حسين يشغل تسعة مناصب خرج من السلطة بلا عمل واحد، وكان لا يزال تحت الخمسين.. وخرج جمال سالم.. ثم حسن إبراهيم.. فعبداللطيف البغدادي.. وزكريا محيي الدين.. واغتيل عبدالحكيم عامر أو انتحر.. الله أعلم.. وذاق الذين ساندوا الحكم الديكتاتوري من نفس الشراب الذي سقوه للآخرين.. إنهم لم يسكتوا علي الخطأ فقط وإنما ساندوه أيضا، ودافعوا عنه، وبرروه.. وفي كثير من الأحيان أسهموا فيه.. ومع ذلك عندما انتهي دورهم أطيح بهم.. وأصبحوا مثل اللواء نجيب، الذي تآمروا عليه.. وليس لهم العذر الذي حاولوا إشاعته، وهو قلة خبرتهم السياسية، وكثرة أعداء الثورة، وطبيعة النظام العسكري الذي خرجوا منه الذي يؤمن بتنفيذ الأمر مهما كان غير منطقي أو غير سليم. فإذا كانوا يعرفون ذلك، فلماذا لم يعودوا إلي الجيش ويتركوا السياسة لأصحابها.. فالسياسة تختلف عن العسكرية، فهي تفاعل حر وحي لآراء الجماهير ومعتقداتها.. وهي أن تمشي وراء الجماهير لا أن تجعلها تمشي وراءك. في هذه الحلقة، يواصل اللواء محمد نجيب شهادته علي سنوات ما بعد ثورة 52 ورجالها، ويكشف أسرارا.. ولندعه يحكي.. يقول: لو أن ضباط 52 كانوا قد قرأوا قليلا في التاريخ أو في السياسة، لعرفوا أن عبدالناصر نفذ نصائح »مكيا فيللي« في »الأمير« خاصة تلك التي تنصح الحاكم بالتخلص من كل الذين ساعدوه في الوصول إلي الحكم واستبدالهم بآخرين يدينون له بالطاعة والولاء.. فبعد أزمة مارس تخلص عبدالناصر تدريجيا من رفاقه القدامي وجاء بجدد لم يكن لهم هم سوي إرضائه.. لقاء مع جمال سالم وبعد ست سنوات داخل معتقل المرج، سمح لي أن أتحرك في بعض الزيارات العائلية أو زيارات المجاملات، علي أن يرافقني بعض ضباط المخابرات ويذهبون معي إلي كل مكان أذهب إليه. وكان أن ذهبت إلي جمال سالم لتعزيته في وفاة شقيقه صلاح سالم الذي فوجئ بحضوري، وتساءل مندهشا: هل انت الرئيس محمد نجيب؟ وهززت رأسي.. قال هل تعزي في صلاح وتعزيني بعد كل ما فعلناه بك؟ قلت له: الواجب ياجمال.. فبكي. ورحت لزيارة جمال سالم مرة أخري عندما سقط مريضا.. وأصبح قريبا من الموت وعلي بعد خطوات من لقاء ربه.. وأجهش جمال سالم في البكاء عندما رآني.. وأمام الحرس الخاص بي، قال لي: سامحني يانجيب فقد دفعنا الشيطان الرجيم ضدك.. وسرحت قليلا.. ليت المشكلة في أن أسامحه.. وإذا سامحته أنا فهل يسامحه الشعب ويسامحه التاريخ.. أبدا.. لن يسامحهم ضحاياهم.. ولن يسامحهم التاريخ.. اللهم لا شماتة.. ولكن.. للحقيقة التي عاشتها الأجيال المعاصرة أقرر أن الدوائر دارت عليهم، وخرجوا من دائرة السلطة إلي دائرة الوحدة.. ومن النفوذ إلي النسيان.. ومن الضوء إلي الظل.. وانتهي الأمر بهم إما إلي الاستقالة وإما إلي الانتحار.. اللهم لا شماتة. لكن علينا أن نستوعب الدرس وأن نحفظه ولا نفرط في التجربة التي عشناها ودفعنا فيها ثمنا باهظا. إنني أعتقد أحيانا أن حظي كان أفضل من حظ باقي أعضاء مجلس الثورة.. فذنوبهم كانت أكثر من ذنوبي.. وخطاياهم كانت أشد.. وما فعلته لم يجرؤوا أن يفعلوه. لقد قنعت بإقامتي في معتقل المرج.. وتآلفت مع كل ما فيها.. قرأت الكثير من الكتب في كل فروع المعرفة من الطب إلي التاريخ.. ومن علم الكف إلي علم الفراسة.. ومن علوم الأحياء إلي الجيولوجيا.. كل فروع المعرفة بلا استثناء.. وتعلمت لغات أجنبية كنت لا أعرفها، حتي اللغة العبرية درستها.. وانشغلت بتربية القطط والكلاب.. وأنا اعتبر القطط والكلاب أكثر وفاء من البشر.. حتي أنني نجحت معها في تغيير طبيعتها.. إنني مازلت أحتفظ بصورة نادرة لكلبة من كلابي، ترقد علي جنبها وترضع منها قطة فقدت أمها.. إن هذه الصورة دليل علي أن العداء التقليدي والطبيعي بين الحيوانات يمكن أن يذوب ويتلاشي بالحب والرعاية.. وهذه الصورة دليل علي أن الحيوانات أكثر ليونة ورقة في التخلص من شراستها، من البشر. أباطيل هيكل أذكر أن أحد السفراء الذين أعرفهم حكي لي أنه عندما كان يقدم أوراق اعتماده لرئيس جمهورية فنزويلا سأله الرجل عنك وقال له: نحن نعرف مصر الفرعونية ونعرف محمد نجيب وجمال عبدالناصر.. كرر الرجل نفس الكلام للسفير وهو يودعه عائدا لبلاده.. وقال: هذا قدرك ياسيدي.. أن يذكرك العالم ونحاول أن ننساك نحن، ولكن لا أحد يستطيع أن يقف أمام قطار التاريخ.. صدقني لا أحد.. وضحكت.. فأنا أعرف ذلك جيدا.. وأعرف أن الأباطيل مثل السحب سرعان ما تنقشع.. والدليل علي ذلك ما جري بيني وبين محمد حسنين هيكل.. ادعي هيكل عليّ بالباطل، في كتابه »ناصر والعالم« أنني تسملت من المخابرات الأمريكية ثلاثة ملايين دولار، هي التي بني بها برج القاهرة.. قال هيكل بالنص: »وذات يوم كان عبدالناصر وأعضاء مجلس قيادة الثورة يبحثون مسألة بناء برج لاسلكي للاتصالات العالمية التي تقوم بها وزارة الخارجية وإدارة المخابرات، وقيل لعبدالناصر أنه سبق أن تم شراء بعض المعدات، وكما احتج بأنه ليست هناك أموال مرصودة في الميزانية، لهذا الأمر قيل له إن المال جاء من اعتماد أمريكي خاص، ودهش عبدالناصر إذ كانت هذه أول مرة يسمع فيها بوجود أي اعتماد خاص، وقيل له إن وكالة المخابرات الأمريكية وضعت تحت تصرف اللواء محمد نجيب ثلاثة ملايين دولار.. وكان المبلغ قد تم تسليمه بواسطة عميل أمريكي في حقيبة ضخمة عبئت بقطع نقدية من فئة المائة دولار، وسلمت الحقيبة في الواقع إلي ضابط في المخابرات المصرية كان يعمل كضابط اتصال بين المخابرات المصرية ووكالة المخابرات الأمريكية وتمت عملية الدفع والاستلام في بيت العميل الأمريكي في ضاحية المعادي الأنيقة.. »واستشاط عبدالناصر غضبا عندما سمع ذلك وتوجه فورا إلي مجلس الوزراء وطلب تفسيرا من محمد نجيب الذي كان آنذاك رئيسا للوزراء«.. »وأصر نجيب علي أنه فهم أنه ليس للمخابرات الأمريكية علاقة بذلك المبلغ وأنه مرسل من الرئيس أيزنهاور الذي خصص اعتمادات مالية لبعض رؤساء الدول ليتمكنوا من تجاوز مخصصاتهم المقيدة بالميزانية من أجل الدفاع عن أنفسهم وعن بلادهم ضد الشيوعية«.. »وهنا طلب عبدالناصر إيداع المال في خزينة إدارة المخابرات وأمر بعدم صرف أي شيء منه إلا بإذن من مجلس قيادة الثورة«. وفي النهاية بني البرج وكان مخططا له في الأصل أن يكون برجا بسيطا يعلوه هوائي لاسلكي وشبكة أسلاك تنحدر إلي الأسفل عبر وسطه، لكن عبدالناصر قرر أن يبنيه كنصب يشهد علي حماقة وكالة المخابرات الأمريكية، فاستخدم الأموال الأمريكية لبناء البرج الفخم المزركش وبني المطعم الدوار الذي في قمته والذي يطل اليوم علي منظر القاهرة كلها.. وقد لقي البرج انتقادا شديدا عند تشييده لأنه لم يكن في وسع أحد أن يفهم سبب إهدار المال عليه.. وإذا كان قسم المواصلات في مبني البرج جديا وجوهريا فقد كانت الاعتمادات المتاحة معقولة ولم يكن هناك بأس من بناء المطعم ومن الهندسة الباذخة وبشكل ما فإن ذلك كان إهانة إلي وكالة المخابرات الأمريكية.. وقد غضب عبدالناصر من الأمريكيين غضبا شديدا بسبب هذه الحادثة التي اعتبرها محاولة للإفساد.