كانت آخر صدماتي قبل السفر المفاجأة عبارتين في مسودة الدستور وهما المساواة بين الرجل والمرأة في الحريات ولكن علي ألا يخالف شرع الله وضمان الحريات العامة والخاصة فيما لايخالف الأعراف والتقاليد.. وشعرت بباب جهنم يفتح علي مصراعيه وقلت يا الله إنها باب للفتنة والاقتتال مابين من يريدون أن يتحكموا فينا علي حسب تفسيراتهم وأهوائهم ورغباتهم الدفينة في أعمق منطقة من الجهل، والرغبات المريضة في فرض وصايتهم علي خلق الله. وسافرت فجأة وأنا أستعيذ بالله من الشيطان بما يراد لأهلنا وأولادي .. فهم المستقبل. وليست تلك الحياة التي أرضاها لهم وأنا في الجانب الآخر. وخطفتني المدينة بكل ما تحمل من جمال الفن والفكر والعمارة. لم يخطر علي بالي وأنا أتأمل كل حجر تحول بقدرة الله في خلقه إلي تماثيل تنطق وتقول أنا الإنسان الذي استلهم.. من ربه نشر الجمال الذي يرقق الإحساس ويسمو بالروح. ولم يرد علي خلدي كلمة (صنم) أو عبادة تشرك بالتوحيد. حتي الحجر يريد أن يكون شيئا أكثر من جماد ساكن..!! وقادتني قدماي إلي (حي مونامرتي) حي الرسامين وهو تقليد أحرص عليه.. فاللوحات تلمس روحي والألوان تصالحني علي الحياة وتجميد لحظة فرح لمراهقة تقابل الحب لأول مرة.. فتلمع عيناها بالحنين والمتعة.. فيلتقطها فنان عاشق للحياة فيستوقفها.. ويرجوها أن تمنحه تلك اللحظة الدافئة ليسجلها في لوحته.. حتي لو لم تستطع أن تدفع أجره. فقط لتمنحه ملهمته هذا الشرف.. تلك اللحظة التي ربما سوف تخلده.. في يوم ما. لم أر غواية.. في التواصل بينهما .. لم أر إلا الرغبة والحب في الحوار! وجدت فنا خالصا معجونا بجنون الإبداع.. وخجل وتعزز مراهقة حائرة بين الرغبة في تخليد اللحظة وعدم قدرتها علي الدفع.. والرغبة في اللحاق بزميلات الرحلة ليكتشفن كل أسرار مدينة مازالت تفاجئني رغم زياراتي الثلاثين وأكثر. وتذكرت وطني الذي دفع تحجر الفكر والأمية واليأس والفقر وشيوخ التطرف إلي مسح جرافيتي الثورة من علي الجدران علي أنه ضلال وكفي. بكيت بلدي التي أحبها وهي مطلعة عيني. شيء ما أفقدني البهجة في تلك الرحلة.. رغم أنه كان أكثر ما يسعدني هو التنزه علي نهر السين وأراقب العشاق يتنزهون علي ضفافه في الصباح الخريفي.. كنت أحسدهم علي قدرتهم علي إظهار مشاعرهم.. مشاعر اللحظة التي قد لا تكرر في العمر مرة أخري.. اللهفة والنظرة والقبلة التي تجري علي خد الملهوف.. التي لولاها.. لتحولنا جميعا إلي مجرمين وقتلة من جفاء الروح والحرمان من أطهر المشاعر. خاصمتني الابتسامة وأنا أتذكر من يدافعون عن زواج الأطفال.. والختان واعتبار المرأة وعاء للشهوة ومن ثم لتسجن في البيوت.. و.. و..! وقلت منك لله يا مبارك .. أنت السبب فيما وصلنا إليه الآن. لولا فسادك وظلمك ونشر الفقر والجهل والأمية لما وجدنا رجالا يقعون مرضي تلك الأفكار. هل يمكن أن تزور روحك مدينة الفنون دون أن تدفعك.. روحك لارتياد مسارحها الشهيرة.. (الليدو) قبلة السائحين.. يغير جلده كل فترة يلهب مشاعرك بالأغاني والموسيقي.. تنزل تلك الفرحة من السماء عليك.. تضحك من المفاجأة.. وتخجل من صرختك التي تخرج من القلب مغردة فرحة. يهاجمك الإبهار.. كطفلة صغيرة تتعرف علي الحياة لأول مرة. فتصعقه بجنون. وتتعجب أنك لم تر عريا.. لم تلاحظه .. بهرتك الأزياء والرقصات وقدرتهم علي الخيال وابتكار ألوان جديدة من البهجة والفن وتذكرت.. بلدي .. التي يريدون فيها محو جذوة الفن من قلوبنا ومن ذاكرتنا. فلا يتركون لنا إلا شهوة الطعام والجنس. فنصير حيوانات.. شهوانية ويغيب السحر من حياتنا.. يا الله.. من المسئول عن ذلك القبح وتلك الفجاجة؟! الذي حرمنا من التعليم الجاد القائم علي التفكير الحر.. والتحليل والبحث. وحوله في مدارسنا إلي حفظ المناهج بدون فهم ثم إفراغها في أوراق الامتحان ثم تعود العقول خاوية.. إلا من رغبات الجسد المتدنية. أسألك كامرأة .. هل تتخيل زيارتها بدون أن تربكك.. أزياؤها.. ببهجتها واختلافها وألوانها وفنونها؟ فهي باريس .. ملكة الموضة وإمبراطورية تلتقط فيها ما يناسب ذوقك الشخصي وتقاليد مجتمعك.. وتشهق.. من قدرتهم علي أخذ آخر يورو في جيبك فهي صناعة ورأس مال يدور واقتصاد يلبي احتياجات دولة.. تعرف كيف تخطط وتعمل حساب بكرة. وباحبك .. وحشتيني.. باحبك وانتِ مطلعة عيني باحبك موت. لن أهاجر .. لن أترك .. بلدي.. والثورة مستمرة!!