بكل أسف مجتمعاتنا العربية لم تتعود علي التعبير عن (الحب) كأرقي وأسمي عاطفة في الوجود، إنها تنظر إليه باستخفاف شديد، ولاتتحدث عن مفرداته إلا بكل خجل، رغم أهميته الشديدة في حياة كل إنسان منا، لأنه بدون حب تصبح حياتنا جافة ومملة وباهتة! أنا شخصيا لا أستطيع أن أعيش وأتنفس بدون حب، فعكس كلمة (حب) هي (الكراهية) والعياذ بالله، وبطبيعة تكويني لا أستطيع أيضا أن أكره، ولا أحقد، ولا أضمر الشر لمخلوق! ومن يعرف معني الحب ويتذوق حلاوته ينال قطعا من بعض قدسيته، ويعود إلي فطرة الإنسان الأولي القائمة علي محبة الناس وكل من حوله، وتمني الخير للجميع ومشاركتهم أفراحهم ومآسيهم علي السواء لأنه يحس بهم، وإلا أصبح مخاصما لهذا الوجود! لا تسألني كيف يحدث الحب.. إنه (مباغت).. وقد يحدث بشكل عفوي، عندما تلتقي العينان.. وتتعانق الأرواح عند رؤية الطرف الثاني لأول مرة، فالأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف.. أي سر هذا الذي قد يجمعك بمن تحب في زيارة أو مقابلة أو لقاء عابر، فتتعلق به حتي وإن لم يبادلك نفس الشعور بعد، وتكسر حدود الزمان والمكان لتعيش معه تجربة فريدة، وتطرب أذناك بسماع صوته فترتفع مشاعرك إلي درجات السمو والسعادة البالغة لتصل بك إلي قمة الرومانسية والتي لايبلغها إلا المحبون، وكلما تكررت التجربة إلي آفاق أرحب تمتزج الانفعالات بخليط من الطمأنينة والحيرة.. الاسترخاء والقلق.. الفرح والخوف من مصير تجربة جديدة قد ترفعه إلي سماء السعادة المطلقة، أو تهوي به إلي صدمة لايتوقعها، لكنها علي أي حال ميلاد جديد لحالة محيرة يصعب وصفها، لكنه متمسك بها لأنه عايش أحداثها مع الطرف الآخر فاستعذبها! لماذا هي (بالذات) دون غيرها.. لماذا خفق قلبه إليها دون سواها.. إنها القوة الخفية التي حركت مشاعره تجاهها فقط.. عوامل شتي ومختلفة قد جذبتها إليه: جمال الوجه.. عفويتها المطلقة.. طيبة القلب.. أصولها الطيبة، وقد تكون كل هذه الأسباب مجتمعة فيها فيراها أجمل نساء العالم بما يدركه في مواصفات من رآها فحرك مشاعره من الأعماق، فخرج إحساسه عن نطاق السيطرة بتلك القوة الخفية التي حركت وجدانه فأفرزت هذه التجربة شديدة الخصوصية! إن لحظة اللقاء العفوي الأول وما أحدثه من زلزال عظيم داخل النفس العاشقة قد يصبح المبرر الوحيد لمحاولة القضاء علي خجل من يحب: هل يطلبها الآن.. أم الوقت غير مناسب.. مشغولة في هذه اللحظات أم يكلمها في وقت آخر.. ماذا لو رن (الموبايل) طويلا ولم ترد عليه: هل هي لامبالاة.. أم إعادة النظر في بداية تجربة قد تكون محفوفة بالمخاطر.. أم الحكمة والبصيرة والتروي في اتخاذ قرار جديد هو الأول من نوعه في حياتها؟! ورغم هذه الرؤية الصادقة، وعلي ضوء خبرتي العاطفية الطويلة وقد بلغت الستين من عمري فأنا أري أن كل إنسان منا غير مؤهل للحب.. باقة فقط من البشر هي المؤهلة لمعايشة أرقي تجربة في الوجود.. فلأن الحب يمثل أقدس رابطة قد تجمع بين قلبين، فلابد لكل من يخوض تجربته أن يكون قادرا علي العطاء، ولا أقصد هنا العطاء المادي والمسئولية المادية فقط، بل الأهم من ذلك كله المسئولية المعنوية والنفسية، بالالتزام والإحساس المطلق بالطرف الآخر، لابد وأن يكون ناضجا ليحتويه بحنانه وعطفه واهتمامه وإحساسه وتقديره، لابد أن يعيش مشاكله ويتفاني في إيجاد أفضل الحلول لتجاوزها، وكلما كانت أحاسيسه صادقة مع من يحب كان العطاء سخيا، وأن يضع في اعتباره أن ذلك العطاء يجب أن يكون بلا مقابل ولاينتظر ذلك أبدا، فهي نقطة بالغة الأهمية لاستمرار الحب وخلوده لأجل غير مسمي وخاصة في ذلك العالم الغارق في المادية، وأصبح الحب والعشق والزواج مجرد (صفقات). أعرف طبيبا ناجحا تخصصه (أمراض باطنة) عندما اختار شريكة حياته اختارها (أستاذة للتحاليل) لتبادل المنافع والمرضي لعيادة كل منهما، وبعد سنوات محدودة من الزواج انكشف المستور وانتهي الأمر بالطلاق، وتبادلا في نهاية الرحلة أيضا الاتهامات وسوء النية والمقاصد! وأعرف شخصا متسلقا اختار إبنة مسئول كبير، وعندما ترك الكرسي والسلطة أخذ يعامل ابنته بأقسي مايمكن، وتناسي هذا (الأفاق) حديث رسول الله ([) بما معناه: رحم الله رجلا إذا أحب امرأته أكرمها، وإن لم يحبها لايهينها! الرعاية والتضحية والعطاء والالتزام بالطرف الآخر أصبحت الآن عملة نادرة في ظل عالم تسوده المصالح والأنانية وجمع المال بأي وسيلة، أين الحنان والمودة والرحمة والمشاعر الصادقة التي كانت أبرز سمات آبائنا وأمهاتنا رغم قلة الدخل والأجور الزهيدة التي كانت سائدة في مطلع حياتنا بداية الخمسينات، كان المال قليلا.. لكن الرضا والحب والقناعة بما قسمه الله لنا كانت تكفينا وتسعدنا وتدخل الفرحة إلي قلوبنا، أين الناس الطيبون الذين يحبون بعضهم بعضا؟! الأصالة كانت سائدة بوجود الحب الصادق المتجرد من الأهواء والمصالح، فكانت الرجولة الحقة من خلال رجل يحب امرأته ويرعاها بمودته وعطفه وعطائه فتتعلق به وتنجذب إليه فتري أن حياتها متعلقة بحياته، وبالتالي لاتحدث قصص الانفصال وحالات الطلاق التي نشاهدها الآن بهذا الكم الرهيب فقد اختفت الرومانسية من حياتنا ومازال الرجل الشرقي (للأسف الشديد) يري نصفه الآخر مجرد فراش!! وإذا كان الحب الصادق يسمو بالفضيلة والقدسية إلي أعلي مراتب ودرجات العشق بين المحبين لأنه يأتي من لطافة الطبع، ولايقع عند أصحاب القلوب الغليظة القاسية الذين يفتقدون الكلمات الرقيقة الناعمة، واللمسات الحانية، والهمسات الحالمة، لو تحققت هذه المعاني الجميلة لتولدت الرغبة الصادقة في الالتصاق والذوبان والاقتراب، أما لو اختفت فسيصبح الجنس هنا مجرد إشباع حاجة لأن الحب ظاهرة مقدسة تعلو فوق كل الأبدان!