عندما يزحف الضباب علي كل شئ من حولك.. عندما يسقط البشر الذين يملأون المشهد ضجيجا كأوراق الخريف الصفراء، اليابسة، فتدهسهم أقدام الحقيقة.. عندما تنتهي الحفل التنكرية الصاخبة فتتأمل مخلفاتها من ركام، حطام وأقنعة، عندما يتعري الجميع في قبح بين فلا تجد سوي هياكل نهمة وجماجم جشعة تبيع وتشتري مالايباع، يجب أن تعود إلي ذاتك، تلوذ بها، تشيد عالمك الخاص، الحميم، توصد أبواب الزيف، الخداع والكذب.. تتعمد الهجرة إلي داخلك لتغيب عن الوجوه المتغضنة، المتمرغة دوما في فراش المصالح والانتهازية المسافرة لامحال إلي العدم، عندما يتلاشي الوعي، الضمير والصدق لنعد إلي المحارة الأصيلة فهي لن تخذلك. يقول نجيب محفوظ: » لقد توهمتك فيما مضي شيئا ليس فيه من حقيقتك شئ، فسحقا للأوهام جميعا!« ويقول: »آه لو أن الرجوع في الزمان ممكن مثل الرجوع في المكان« ولكن حتي الأمكنة لها روح قد تفقدها فلا تكون ذات الأمكنة، ففقدان البهجة، اللهفة والجذوة الحياتية تابعهم النأي عن هذا الحاضر، الحصاد المروع لعقود من الفساد المتفشي، الكراهية المصنعة والترنح بين المتعة الكاذبة، الهشة والألم الراسخ العميق، بين العجز المكبل والأمل الخافت المتقطع، بين العميق، بين نظام آثم لم يكن ديكتاتوريا لأن الديكتاتورية هي المرادف للامتلاك، فالديكتاتور يسعي دوما لامتلاك شعبه والسيطرة عليه أما ماكابده الشعب المصري فهو النهب المسعور وفقط الحفاظ علي الكرسي، أما الشعب فلم يكن يعني أحد تركوه للفقر، المهانة، الأمية، ولكنه أدرك أن »الخوف لايمنع من الموت ولكنه يمنع من الحياة« هذا ماسطره محفوظ في »أولاد حارتنا«؟ إن خطاب د.مرسي يسعي لضخ الطمأنينة في أفئدة المصريين الذين يخشون توابعه الخطيرة للدولة الدينية والمشكلة ليست في الرئيس المنتخب ولكن في بوابة المزايدات التي تفتحها إرهاصات الدولة.. ذات الطابع الديني ، فالعوام سيلهثون لمزايدة من أجل التشدد الدموي الذي لاعلاقة له بالدين وسيجعلون من أنفسهم أوصياء علي الجميع وهاهي البدايات الوحشية والثمار الدامية قتل أثنين من المطربين في ريف مصر بحجة أن الغناء حرام!! لقد استقبل الرسول عليه الصلاة والسلام بالغناء »طلع البدر علينا« ولكن هاهو لزوم التكفير وكل من يشتهي اقتراف جريمة يضفي عليها الطابع العقائدي لتبرير الغريزة الشريدة، وأتعجب من النخبة الصامتة، الساجدة إزاء هذه الجريمة البشعة وأتساءل لو أن الذي قتل كان لاقدر الله محمد منير أو عمر دياب أي مغني مشهور هل كانت النخبة ذات الأغلبية المتلونة، المتحولة، ستعتنق هذا الصمت المخزي، أم هي مسألة شهرة وصخب لا حقوق إنسان وخطر داهم يهدد المجتمع بأسره فرياح التكفير، التدمير آتية، وللأسف إن بعضا من الدهماء والذين يتاجرون بالدين سيترجمون انتخاب د.مرسي بشكل خاطئ ومفزع ومن ثم يجب أن يكون العقاب القانوني رادعا وناجزا وسريعا.. إن كل ما سيحاول فعله الرئيس الجديد لن يجدي لو اندلعت تلك الفوضي الإجرامية باسم الدين.. مرة أخري يقول العظيم نجيب محفوظ: »إن الحرية حياة الروح، وإن الجنة نفسها لا تغني عن الإنسان شيئا إذا خسر حريته«.. إن الحرية، الإبداع والتنوير هم الأقانيم الثمينة التي تنهض بالأمم وأرجو من د.مرسي أن يستمع إلي النقد الملتزم قبل المدح وأن يوجه خطابا حاسما، واضحا، سريعا مصحوبا بالفعل بدون أي ثغرة توحي بالالتباس إزاء التكفير، الحرية الشخصية وإبداء الرأي وإلا ستتحول مصر إلي بركة من الدماء باسم الدين وهو لا يدعو إلا للمحبة والتسامح وقبول الآخر فليبدأ نهضته بترسيخ تلك القيم مثلما بادر بالحديث عن تلال القمامة الميراث الدنئ للحكم البائد فكيف لمصر البهية أن تغوص في الزبالة!؟ حتي يتغير المشهد الحاضر علي العزوف سألوذ بعالمي الخاص بخزائن ذكرياتي ، بكتبي الحبيبة، بجمال الكون، أتأمل شمس المغيب المجوهرة تذوب في السماء تنثر شظايا الياقوت القاني والذهب تموت تارة بين الأشجار المتعانقة وتارة في سبائك النهر، سأستمع إلي عبدالوهاب عاشق الروح عندما يأتي المساء بالرغم أني علي يقين أنه لم يعد هناك من يعشقون الروح، سألوذ حتي بأكاذيب الفن وملاحتها سأستمع إلي تغريد العصافير.. لن يكفرها أحد.. سأشم شذا الورد، سأحاول أن أنجو بنفسي من مولد وزفة التلوث حتي إشعار آخر، سأصبر حتي يختفي مبدأ تفضيل الولاء علي الكفاءة في كل مكان وأردد في حزن شفيف ماسطره ابن الرومي: »دهر علا قدر الوضيع به وهوي الرفيع يحطه شرفه كالبحر يرسب فيه لؤلؤه سفلا ويعلو فوقه جيفه«