عباس شراقي: فيضانات السودان غير المعتادة بسبب تعطل توربينات سد النهضة    البداية الرقمية للنقل الذكي في مصر.. تراخيص إنترنت الأشياء للمركبات تدخل حيز التنفيذ    وزير الإسكان: بدء تصنيف حالات الإيجار القديم وفق شرائح الدخل    لماذا كل هذه العداء السيساوي لغزة.. الأمن يحاصر مقر أسطول الصمود المصري واعتقال 3 نشطاء    مقتل شخص وإصابة 15 في هجوم روسي على مدينة دنيبرو الأوكرانية    تشكيل منتخب مصر أمام نيوزيلندا في كأس العالم للشباب    سلوت عن جلوس صلاح على مقاعد البدلاء أمام جالاتا سراي: رفاهية الخيارات المتعددة    خطة إطاحة تتبلور.. مانشستر يونايتد يدرس رحيل أموريم وعودة كاريك مؤقتا    مصرع 7 عناصر إجرامية وضبط كميات ضخمة من المخدرات والأسلحة في مداهمة بؤرة خطرة بالبحيرة    الأرصاد: الخريف بدأ بطقس متقلب.. واستعدادات لموسم السيول والأمطار    مفتي الجمهورية يبحث مع وفد منظمة شنغهاي آليات التعاون ضد التطرف والإسلاموفوبيا    مواقيت الصلاة فى أسيوط غدا الأربعاء 1102025    ماجد الكدوانى ومحمد على رزق أول حضور العرض الخاص لفيلم "وفيها ايه يعنى".. صور    أمين الفتوى: احترام كبار السن أصل من أصول العقيدة وواجب شرعي    ولي العهد يتسلم أوراق اعتماد سفراء عدد من الدول الشقيقة والصديقة المعينين لدى المملكة    محافظ القاهرة يناقش ملف تطوير القاهرة التراثية مع مستشار رئيس الجمهورية    من القلب للقلب.. برج القاهرة يتزين ب لوجو واسم مستشفى الناس احتفالًا ب«يوم القلب العالمي»    بعد رصد 4 حالات فى مدرسة دولية.. تعرف علي أسباب نقل عدوى HFMD وطرق الوقاية منها    جارناتشو يقود هجوم تشيلسى ضد بنفيكا فى ليلة مئوية البلوز    البورصة المصرية.. أسهم التعليم والخدمات تحقق أعلى المكاسب بينما العقارات تواجه تراجعات ملحوظة    هل يجوز للمرأة اتباع الجنازة حتى المقابر؟ أمين الفتوى يجيب.. فيديو    "أنا حاربت إسرائيل".. الموسم الثالث على شاشة "الوثائقية"    أحمد موسى: حماس أمام قرار وطنى حاسم بشأن خطة ترامب    محافظ قنا يسلم عقود تعيين 733 معلمًا مساعدًا ضمن مسابقة 30 ألف معلم    داعية: تربية البنات طريق إلى الجنة ووقاية من النار(فيديو)    نقيب المحامين يتلقى دعوة للمشاركة بالجلسة العامة لمجلس النواب لمناقشة مشروع قانون "الإجراءات الجنائية"    بلاغ ضد فنانة شهيرة لجمعها تبرعات للراحل إبراهيم شيكا خارج الإطار القانوني    "الرعاية الصحية" تطلق 6 جلسات علمية لمناقشة مستقبل الرعاية القلبية والتحول الرقمي    البنك الزراعي المصري يحتفل بالحصول على شهادة الأيزو ISO-9001    محمود فؤاد صدقي يترك إدارة مسرح نهاد صليحة ويتجه للفن بسبب ظرف صحي    مصر تستضيف معسكر الاتحاد الدولي لكرة السلة للشباب بالتعاون مع الNBA    بدر محمد: تجربة فيلم "ضي" علمتنى أن النجاح يحتاج إلى وقت وجهد    «العمل» تجري اختبارات جديدة للمرشحين لوظائف بالأردن بمصنع طوب    بعد 5 أيام من الواقعة.. انتشال جثمان جديد من أسفل أنقاض مصنع المحلة    المبعوث الصينى بالأمم المتحدة يدعو لتسريع الجهود الرامية لحل القضية الفلسطينية    اليوم.. البابا تواضروس يبدأ زيارته الرعوية لمحافظة أسيوط    حسام هيبة: مصر تفتح ذراعيها للمستثمرين من جميع أنحاء العالم    موعد إجازة 6 أكتوبر 2025 رسميًا.. قرار من مجلس الوزراء    الأمم المتحدة: لم نشارك في وضع خطة ترامب بشأن غزة    انتشال جثمان ضحية جديدة من أسفل أنقاض مصنع البشبيشي بالمحلة    وفاة غامضة لسفير جنوب أفريقيا في فرنسا.. هل انتحر أم اغتاله الموساد؟    برج القاهرة يتزين ب لوجو واسم مستشفى الناس احتفالًا ب«يوم القلب العالمي»    لطلاب الإعدادية والثانوية.. «التعليم» تعلن شروط وطريقة التقديم في مبادرة «أشبال مصر الرقمية» المجانية في البرمجة والذكاء الاصطناعي    تعليم مطروح تتفقد عدة مدارس لمتابعة انتظام الدراسة    التقديم مستمر حتى 27 أكتوبر.. وظائف قيادية شاغرة بمكتبة مصر العامة    كونتي: لن أقبل بشكوى ثانية من دي بروين    «مش عايش ومعندهوش تدخلات».. مدرب الزمالك السابق يفتح النار على فيريرا    «الداخلية»: تحرير 979 مخالفة لعدم ارتداء الخوذة ورفع 34 سيارة متروكة بالشوارع    احذر من توقيع العقود.. توقعات برج الثور في شهر أكتوبر 2025    عرض «حصاد» و «صائد الدبابات» بمركز الثقافة السينمائية في ذكرى نصر أكتوبر    بيدري يعلق على مدح سكولز له.. ومركزه بالكرة الذهبية    الملتقى الفقهي بالجامع الأزهر يحدد ضوابط التعامل مع وسائل التواصل ويحذر من انتحال الشخصية ومخاطر "الترند"    قافلة طبية وتنموية شاملة من جامعة قناة السويس إلى حي الجناين تحت مظلة "حياة كريمة"    انكماش نشاط قناة السويس بنحو 52% خلال العام المالي 2024-2025 متأثرا بالتوترات الجيوسياسيّة في المنطقة    ضبط 5 ملايين جنيه في قضايا اتجار بالنقد الأجنبي خلال 24 ساعة    التحقيق مع شخصين حاولا غسل 200 مليون جنيه حصيلة قرصنة القنوات الفضائية    السيسي يجدد التأكيد على ثوابت الموقف المصري تجاه الحرب في غزة    الأهلي يصرف مكافآت الفوز على الزمالك في القمة للاعبين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نيران علاء الأسوانى إبداع بطعم الجحيم عن المصريين بين السقوط الإنسانى والزيف الدينى
نشر في الشروق الجديد يوم 05 - 11 - 2009

الحقيقة هاجسه.. ضالته المنشودة.. يتوغل فى غياهب النفس البشرية بجسارة شاهقة فتصدح إبداعاته بألق صدق نادر.. يغرس قلمه النفيس فى أحشاء حاضرنا الموجع المترع بالآفات والفساد الرجيم.. فالاستبداد غريمه.. ينازله بالكلمة ليتجاوز الأمكنة والأزمنة..
فيخلد بؤس العجز الإنسانى فكان أن أغوى أدبه الغرب بشكل غير مسبوق، فلقد ولج إلى أغوار الشخصية المصرية الجديدة بكل عوراتها.. هو الأديب د. علاء الأسوانى الذى أنعش المشهد الإبداعى منذ نيف و7 سنوات من خلال روايته «عمارة يعقوبيان» والتى أعادت الروح للرواية الاجتماعية شبه المندثرة فكانت بمثابة رصد للحراك الاجتماعى فى مصر بعد ثورة 52 حيث هيمنت الطبقات الدنيا أخلاقيا وفكريا، وتربعت على قمة المجتمع جحافل (المديوكر) أصحاب الولاء وليس الكفاءة.
وفى (نيران صديقة) الصادرة عن دار الشروق يقتفى علاء الأسوانى أكثر المعذبين بالوجود، هؤلاء الذين سقطوا فى هوة اليتم الوجودى، العجز السياسى، الاجتماعى والنفسى حيث الأحلام المجهضة، المبتسرة التى تتحول إلى كوابيس مروعة كما حدث فى روايته القصيرة البديعة «أوراق عصام عبدالعاطى» فالكل أسير صومعته النائية، المعزولة عن الآخر هو عالم فصامى، فقد المشاعر والتواصل، فالمدينة الفصامية تنضح بالقسوة، بالذاتية المفرطة، بحالة الثأر الكامنة، المتربصة،
فعائلة عصام الشاب المتمرد على الواقع القبيح، المزدوج، المحاصر بالزيف الدينى يثأرون من بعضهم البعض بسادية مفرطة، هؤلاء جميعا وقعوا فى براثن ما يسمى بهزيمة الروح، غيابها بل مواتها لتعربد الغريزة الحبلى بالأذى، فالأب فنان تشكيلى منزوع البريق (مديوكر) ضئيل الموهبة لا يوحى لابنه عصام بوهج الأبوة كما يجب أن تكون، وها هى الأم المصابة بالسرطان،
فخلايا الجسد تنقلب على صاحبها وتعلن العصيان وتعربد فى الجسد المسلوب، فكما يبدو أفدح الأخطار تأتى دوما من الأقرب ومن الداخل وهى غارقة فى عالمها السقيم، العليل، لا تكترث بأحد، مسكونة بشراهة وذاتية وحشية تجاه الحياة التى تراوغها وتنفلت من بين أصابعها، وتبرز الجدة تحصد تيه الشيخوخة فهى مكبلة بعجز الزمن عندما يشيخ فيتحول عنها الجميع، والأم تتمنى موت ابن الخادمة هدى لكى تتفرغ لها،
وهكذا فالجميع يعيشون فقط على غريزة البقاء أو الشهوة الكئيبة مثل هدى الخادمة وعصام حيث اقتفاء أثر لذة شبقة تطفئ سعير رغبة منزوعة الروح أيضا تفتقد أى عاطفة لا يعوقهما هذا العالم الذى يطوقهما ويعج بالمرض، الإخفاق والبؤس، فالروح المصرية أصابها العطب، ويقول علاء الأسوانى: «أكدت لها أن مصر بلد ميت وأن الحضارات كائن كأى كائن يمر بمرحلة الطفولة والصبا والشباب ثم يشيخ ويموت وقد ماتت حضارتنا من مئات السنين فلا أمل يُرجى فى بعثها، قلت لها إن المصريين لهم نفسية الخدم والعبيد ولا يفهمون إلا لغة العصا».
وهكذا يمضى القاص يقترب ويدنو من الحقيقة ويراها كما هى بل يسعى هو إلى تهشيم كل ما يحجبها، أو يسترها دون أى تبرج أو (رتوش) لتصبح مسجاة على السطح شفافة، رقراقة ومن ثم يصبح من اليسير إيجاد الترياق المنشود.
هو لا يكبح مخيلته الثاقبة التى تتقن التلصص، فينهل من المسكوت عليه خلف الأبواب الموصدة هذا العالم الخفى السرى، السفلى، الذى يقطر قبحا ويحرك ما يطفو فى الظاهر وعلى السطح، بل يفك شفرته المبهمة الغامضة، فعلاء الأسوانى لا يلوذ بتراث النعام بل هو مولع بالمواجهات الصادمة التى قد تثمر صحوة يانعة يرغبها ويتوق إليها الجميع، مصاب هو بالبيرومانيا (PYROMANIA) وهو الولع بأشغال الحرائق المفضية إلى حيوية التغيير الفضيلة الغائبة عن مجتمعنا المصاب بالجمود والإخصاء الفكرى والركوض إلى الخلف.
فها هو عصام الموظف فى مصلحة الكيمياء، المتوحد، المعذب بوعيه، بأحلامه الوردية، بشهواته الجامحة، يقترب ويرى عالما دميما، غارقا فى الانحراف، الرياء، غارق فى غربة الاستبداد والفساد البين يجتر السنوات العجاف والأيام النافقة، يشاهد الرحيق المرير للأحداث، الأشخاص والأمكنة فيرصد دين المصريين الجديد الوافد من الشوارد الشائهة للرياح الوهابية حيث العقيدة المفرغة من جوهرها النبيل، الرحيم والصادق ليغوص المجتمع فى آتون أجواء قبلية منفرة وحالة من التعصب القبلى والقومى أو ما يعرف ب«الشوفينية» فيرجم هذا التطرف البائس، الجاثم على قدر المصريين.
يقول د. على الأسوانى على لسان عصام عبدالعاطى: «لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا» العبارة الشهيرة لمصطفى كامل اخترت هذه العبارة لأبدأ بها أوراقى لأنها فى رأيى أسخف ما سمعت فى حياتى أو هى تمثل إن كان صاحبها صادقا نوعا من التعصب القبلى الغبى الذى ما إن أفكر فيه حتى يتملكنى الغيظ»: «هل يتميز المصريون مثلا بالجدية وحب العمل كالألمان أو اليابانيين؟! هل يعشقون المغامرة والتغيير كالأمريكان؟! هل يقدرون التاريخ والفنون كالفرنسيين والإيطاليين؟! ليسوا على أى شىء من ذلك.. بماذا يتميز المصريون إذن؟
أين فضائلهم؟ إننى أتحدى أى شخص أن يذكر لى فضيلة مصرية واحدة؟! الجبن والنفاق، الخبث واللؤم، الكسل والحقد، تلك صفاتنا المصرية ولأننا ندرك حقيقة أنفسنا فنحن نداريها بالصياح والأكاذيب.. شعارات رنانة جوفاء». «ننظم أكاذيبنا عن أنفسنا فى أغنيات وأناشيد، هل سمعتم عن أى شعب فى العالم يفعل ذلك؟ هل يردد الإنجليز مثلا «آه يا إنجلترا يا بلدنا أرضك مرمر وترابك مسك وعنبر»!! هذا الابتذال من خصائصنا الأصيلة»!. «إن التاريخ المصرى ليس فى الواقع سوى سلسلة متصلة من الهزائم منينا بها أمام كل الأجناس بدءا من الرومان إلى اليهود».
أديبنا علاء الأسوانى مولع بتهشيم التابوهات وتعرية عورات المجتمع المصرى الجديد بالإضافة إلى العمق الفلسفى الذى يتجلى وتتحلى به «أوراق عصام عبدالعاطى»، حيث السقوط الوجودى المفضى إلى السقوط الاجتماعى الذى أفرز الزيف الدينى ليتحول مجتمعنا إلى مجتمع وثنى، جاهلى، منزوع القيم الأصيلة، يتمرغ فى طقوس واهية، مضللة، وفكر إظلامى مزدوج يقاومه علاء الأسوانى من خلال فكره المجوهر فهو يكمل بالمقال ما سطره بالأدب حيث يسطع أسلوبه المنساب، الدافق المفعم بالسخرية السوداء! وأعود لعصام المعذب بالوعى، المتوحد،
العائش تارة فى الحلم وتارة فى الحقيقة المؤلمة، يلتحق بالوظيفة فيقع فى قلب عالم يمور بالدناءة، احتراف المزايدات الدينية الجوفاء التى تغلف الفساد، الآثام والانحراف الكئيب، فالكل يزايد، يضلل، يزيف، يقترب العهر تحت وطأة مؤامرة الصمت، يشهد عصام المثقف، المتوحد، فساد رئيسه الدكتور سعيد الذى يضاجع الفراشات البائسات فى مكتبه مستغلا وظيفته وسلطته فيقضى منهن وطرا، أما من تقاومه فيحاول سحقها، وسحلها بمساندة جميع من فى الوحدة، حيث يصبح الصمت المتفق عليه أسوأ أنواع الصمت، كما كتب ذات يوم د. يوسف إدريس فالكل يتواطأ عندما تحين لحظة الحسم والانقضاض على الضحية،
البائسة ومن ثم تهدر وتنحر الكرامة على مذبح الانحراف الوظيفى، الانتهازية، القهر، الاستبداد والنفاق والجميع يلوذ بالستار الدينى لاقتراف أبشع الفواحش فنجد هذا الدكتور سعيد الذى يضاجع البائسات من النساء يغوص أيضا فى المزايدات الدينية: «فى شهر رمضان يتحول الدكتور سعيد إلى مؤمن ورع. المسبحة الطويلة الخضراء لا تفارق يده وطاقية شبكية بيضاء يضعها على صلعته».
ويكثر من التسبيح ويؤم الموظفين الوقت بوقته. ويقرأ القرآن من مصحف كبير يفتحه أمامه على المكتب! وهكذا يثور عصام ويرفض تلك الازدواجية، وهذا التناقض الفاسد، والزيف، باسم الدين ويفطر فى رمضان متحديا هؤلاء الذين عاثوا فى الأرض فسادا. ويقول: «أنا قرأت عن الإسلام أكثر منكم» «يا جهلة يا رعاع».
ويتكرر ذات المعنى عندما يلتقى عصام بالألمانية يوتا التى يذوب معها فى نشوة مُسكرة فهى الثمرة المجوهرة لحضارة الغرب الذى وقع صريعا فى غوايته، فلقد فتنته تلك الحضارة الخالية من التناقضات الدميمة حيث الحرية، الرقى، الجمال، والشفافية، فالروح ملتحمة بالجسد، لا حواجز تفصل بينهما، ذروة التناغم وتصوف الحواس حيث تطفو الروح وتروض الغريزة فتتجمل بفعل النقاء.
ويأتى شعبان البقال هذا الذى يمثل فلول العوام الذين يتحكمون بجهل ومزايدة فى حيوات الآخرين، شعبان البقال القابع أسفل منزل يوتا يمثل محاكم التفتيش التى تفتش فى النفوس، الأفئدة، العقول، الكتب، الضمائر، فهو يقوم برقابة بوليسية على حياة يوتا وعلاقاتها، ويقول الأديب المبدع: «من هو شعبان؟ بقال متدين، يغش الزبائن ويغالطهم ويصلى الوقت بوقته، دنىء وغبى ومتطفل، حاقد كأى مصرى، سأخاطبه باللغة التى يفهمها، لا تشترى العبد إلا والعصا معه»،
فهكذا يرصد القاص تدهور الشخصية المصرية الجديدة والتى عصف بجوهرها الاحتلال الوطنى فنال من رونقها بنزاهتها، صدقها، كرامتها، فكان السقوط المدوى الذى أتلف الأخضر واليابس، «أوراق عصام عبدالعاطى» رثاء أليم يفطر الأفئدة الثكلى، لما آلت إليه الشخصية المصرية الجديدة التى تحولت تحت وطأة القهر، الفقر، الاستبداد، والتيارات الإظلامية، إلى مسخ يثير الحزن العميق، فبفعل قلم علاء الأسوانى النفيس واتقانه لتشريح الشخصية المصرية الجديدة تبزغ أمراض مجتمعنا المعاصر.
وأخطر أنواع النفاق هو الهابط من الأعلى إلى الأدنى ومن ثم يفتح البوابة الجهنمية لهيمنة عقلية العوام أو القطيع وتلك التيمة كثيرا ما راودت وناوشت علاء الأسوانى فنجد فى «عمارة يعقوبيان» أن سكان السطوح من لصوص وعاهرات وشباب سقط فى براثن الإرهاب سيطروا على سكان العمارة، وهذا هو المرادف الباهظ لانقلاب ميزان قيم المجتمع، ويبزغ ذات المحور فى «نيران صديقة» من خلال «أوراق عصام عبدالعاطى» حيث تهيمن على الجميع الخادمة هدى وفراش وحدة الأبحاث وأيضا شعبان البقال، فلقد دحضت ونحرت الطبقة الوسطى المستنيرة، والمثقف أصبح معزولا وغير مؤثر فى المشهد العام فشهدنا زمن عجز المثقفين، فإما المثقف الموظف وإما المثقف المستسلم لتيارات الإظلام العاتية، ومن ثم يخون وعيه وضميره.
فى عالم الأسوانى الإبداعى، الأحداث تدور دوما فى أماكن مغلقة، حجرات موصدة على خبيئتها، حيث تختمر لحظات السقوط، لا وجود سوى للهواء العطن، الفاسد، مجتمع ناضح باللا بطولة كل أسير عالمه الرخيص، الزهيد، ونفسه الدميمة، الشائهة، لا وجود لحلم جماعى يبث الآمال المحلقة والأحلام الصافية الوردية، فالجميع سقطوا فى هاوية الدناءة و(الإيجو سنتريزم) أى الذاتية المفرطة، فالانتماء فى هذا العالم القبيح قيمة بائدة فلا مجال للانتماء حتى فى العائلة الواحدة، فالعلاقات الحميمة نال منها العطب والقرب لم يعد مرادفا للمحبة بل للعداء، للثأر، للغل، للقهر التسلسلى فالأقوى يفترس الأضعف والأعلى يعصف بالأدنى كل على حسب قدراته.
عصام عبدالعاطى عاقل فى خضم عالم فاسد، عصام عاقل وصادق فى عالم احترف الزيف، القسوة والانحراف، هو يرنو إلى «أوتوبيا» مستحيلة، هو نصف حالم، نصف مستيقظ فى دنيا تحكمها الغرائز البدائية، عصام عاقل يشفى غليل القارئ المكبوت، المتفرج منذ عقود على الفساد المعربد، وليتوحد معه القارئ حتى يتمرد على الواقع المرير ولينسلخ من الأغلبية الصامتة، الصامدة على المهانة، القبح والاستبداد، عصام عبدالعاطى عاقل اقترب ورأى وتجرأ على منظومة القطيع. (أوراق عصام عبدالعاطى) تحاكى استغاثة ملتاعة فهى بمثابة الجحيم على الأرض، وعلاء الأسوانى لم يحدد خلال السرد تاريخا ما أو زمنا ما بل يترك مخيلة القارئ حرة، وإن كانت معالم الأزمنة والأمكنة واضحة وغير قصية.
وتتضمن «نيران صديقة» مجموعة بديعة من القصص القصيرة منها ما يعزف على أوتار المهانة، الحاجة والبؤس الذى وقع فى براثنه المصرى الجديد بفعل القهر الوظيفى وغربة الفقر والرحيق الأليم لمرارة الاستبداد ثم الكرامة المذبوحة دوما كما نجد فى قصة (إنا أغشيناهم) حيث يرصد علاء الأسوانى بنعومة شاهقة وسخرية مميتة فى آن واحد، الغلب الأزلى والمعاناة المخزية لموظف كل آماله وأحلامه فى سفرة الوجود تتلخص فى حصوله على قمصان ثلاثة يحفظ بها ماء وجهه وكرامته المهدرة، فيلوذ بالآية القرآنية الكريمة فى جمرك بورسعيد كى يحظى بالقمصان ويفلت من الجمارك، فهو لا يلوذ بالقرآن الكريم بسبب كرب عظيم أو خطر داهم ولكن فقط، فقط من أجل قميص يضمد به فجوة الفقر المدقع!
وفى تحول مدهش أو (ميتامور فوز) ينتقل القاص إلى أجواء مختلفة ومغايرة تماما من خلال قصة (مدام زتا منديس «صورة أخيرة») حيث النوستالجيا الدافقة هائمة، تغمر الحكى وتبزغ أجواء وسط البلد برحيقها الكوزموبوليتانى الليبرالى عندما كانت القاهرة عاصمة الدنيا وها هو الطفل والصبى الذى كان المسكون بالحنين والانبهار لشذا الأجواء الغربية، شاهد على قصة حب والده والسيدة الجميلة الأجنبية، ها هو الطفل المسبى بملاحة الأيام الخوالى مثل كل من يعتنقون الرومانسية ويكتنزون حلاوة الأمس المدبر، فما أعمق الفجوة بين أيام الآحاد سنة 1961 عندما شهد الطفل لقاءات الأب مع السيدة المليحة.. إيروتيكية القيلولة..
أوان العشق وبين أيام الآحاد المعاصرة حيث الواقع الناضح بالعجز، بالنفى الزمنى، القبح الشاهق، فالطفل كبر ونضج ولكن المدينة شاخت والسيدة المليحة هرمت يراها فى جروبى الذى هو أيضا لم يعد كما كان فى الأيام الخوالى فتعبث خيبة الأمل والصدمة بالذاكرة الحبلى بالإيحاءات الإيروتيكية الصادحة بالمتعة وأريج الهوى الذى كان ليعلن الزمن عن آلته الرجيمة فيرصد الصبى الذى تدهور فى كل شىء،
آه من النقلة الزمنية العنيفة وآه لما آلت إليه الأزمنة والأمكنة وأيضا الأشخاص، تمضى القصة على حالة من الشجن غير المحتمل، فعمارات وسط البلد بأعمدتها الرخامية وتلك اللفحة الرطبة، المعطرة بأريج الزمن المنصرم لم يعد لها الوهج ذاته والرونق المفضى إلى الثمالة والبهجة ذاته، آه من غربة الزمن والعجز الوجودى المقبل على العدم.
وأخيرا أسترجع كلمات الأديب هاروكى مور أكامى: «الرواية ليست شيئا من هذا العالم، تتطلب الرواية نوعا من التعميد السحرى لربط هذا العالم بالعالم الآخر».
وأقول إن د.علاء الأسوانى الإبداعى يقطر سحرا وصدقا وهو بمثابة عالم آخر مواز لعالمنا هو صانعه ومبدعه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.