من حُسن حظ الملك فؤاد أنه كان أول حاكم لدولة مصر المستقلة في التاريخ الحديث، وهو الاستقلال الذي أرسته ثورة 9191م وماتبعها من صدور تصريح 82 فبراير عام 2291م، الأمر الذي لم يُتح لأي حاكم قبله منذ الغزو العثماني للبلاد عام 7151م، وسقوط دولة المماليك. صحيح أنه قد جرت محاولات من آبائه لإرساء بعض قواعد هذا الاستقلال ، خاصة في عهد جده محمد علي وأبيه إسماعيل، إلا أنه في كل الأحوال ظلت مصر ولاية عثمانية حتي تم إعلان الحماية البريطانية علي البلاد عام 4191م، وصحيح أن الاستقلال الذي أرساه تصريح 82 فبراير جاء مقيدا بعدد من التحفظات، إلا أنه من الناحية الداخلية والدولية كان استقلالا، ولأول مرة تظهر علي الخريطة »مملكة مصر« بدلا من باشوية مصر قبل 4191م، أو »محمية مصر« قبل 2291. كان من أبرز مظاهر هذا الاستقلال في الخارج، قيام علاقات سياسية مباشرة مع الدول الأجنبية، مما استلزم بناء الجهاز الدبلوماسي المصري.. أما في الداخل، فقد كان صدور الدستور، وقيام البرلمان، ونظام حزبي علي النسق الغربي، وقد اختلفت في ذلك عن الأحزاب التي عرفتها البلاد قبل 4191م، ومفاوضات مع الجانب البريطاني للتخلص من القيود التي كبلت بها حكومة لندن الاستقلال المصري في تصريح 2291م. علم وثقافة وأناقة ونعود إلي شخص الملك فؤاد فقد اعتاد أن يستيقظ في الخامسة صباحا، وبعد الإفطار يقوم ببعض التمرينات الرياضية أمام مرآة كبيرة لكي يتحقق من صحة هذه الحركات الرياضية.. ومن الجدير بالذكر أن الملك فؤاد علي الرغم من قصر قامته وامتلائه إلا أنه كان وسيما وهو وريث شرعي للأناقة الإيطالية ، فكان يجيد إخفاء بدانته.. وتكرر جلوسه أمام أشهر المصورين في مصر، حيث جسد اعتزازه بأناقته ووسامته في العديد من البورتريهات الفوتوغرافية.. وكان الوقت المخصص للتشريفات والمقابلات ينحصر بين الساعة العاشرة والنصف وبين الثانية بعد الظهر.. وكان حريصا علي قراءة كل مايتعلق بالموضوع الذي سيطرح أمامه.. وإذا كان الزائر ضيفا أجنبيا فإنه يطلب من رجال الحاشية أن يأتوا إليه بالكتب التي تتحدث عن بلد زائره وكان يقرأها بنفسه دون اللجوء إلي رجال البلاط لتلخيصها.. وكان يمتلك ذاكرة قوية كثيرا ما أدهشت محدثيه، بالإضافة إلي سعة اطلاعه التي أشاد بها »المسيو موتا« وهو من رؤساء سويسرا السابقين قائلا: »إني لأفتح لجلالة الملك فؤاد باب البحث في موضوع إلا وجدته ملما بأطرافه«.. وأثناء زيارته لتشيكوسلوفاكيا استعرض أمامه رئيس البلاد »مازازيك« وحدات الجيش احتفاء بمقدمه، وحين شاهد فؤاد وحدات المدفعية أفاض في شرح أنواعها وقوتها فاندهش مازازيك قائلا: »لقد أعطاني جلالته درسا عمليا في المدفعية ومن يسمعه يتحدث يخيل إليه أن جلالته غادر مدرسة المدفعية منذ أسبوع واحد فقط. وكان الملك فؤاد يشاهد الأفلام السينمائية ثلاث مرات أسبوعيا في القصر الملكي.. كما كان مولعا بالقراءة ويمتلك مكتبة كبري في قصر عابدين كانت تتلقي قوائم بأهم الكتب التي تصدر في أوروبا وأمريكا بانتظام فيرسل في طلبها.. وكان الملك فؤاد عضوا شرفيا في العديد من الجمعيات العلمية ومنح أكثر من دكتوراه فخرية.. يقول الملك فؤاد: »إنني حريص علي نشر العلم بين جميع الطبقات وأتمني أن أجلب إلي مصر كل أخصائي في فنه وأدبه ليدخلوا فيها روحا جديدا ولطالما أردت بعض المشتغلين بالعلم في الغرب أن يأتوا إلي مصر، وكنت أزور بعضهم في بيوتهم لأحملهم علي هذا الغرض.. لقد قبلت بعد الفكر رئاسة مشروع الجامعة المصرية الذي يرعاه صفوة المجتمع لرفع بلادنا إلي مصاف الأمم الراقية«. الدعوة إلي الجمهورية منذ اندلاع الثورة العرابية لم يتوقف المصريون عن المناداه بحقهم في حكم بلادهم، وقد ظلت إرهاصات فكرة الدعوة إلي الجمهورية تراودهم، حتي خرجت هذه الفكرة إلي حيز التطبيق بالدعوة لإقامة حزب يدعو إلي الجمهورية علانية.. ففي ديسمبر 7091 طرح »محمد غانم« أول داعية لقيام حزب جمهوري في مصر.. فكرة إقامة جمهورية بدلا من الخديوية حتي تكون سيادة الأمة مصدرا لكل سيادة، وناشد المصريين بالعمل علي الدعوة إلي بث فكرة الجمهورية.. ولم تلبث الأمور أن تغيرت بإعلان الحماية البريطانية علي مصر، والتي لم يكن لأي جماعة مصرية دور في اختيار الحاكم الذي تلقب بالسلطان. سعد زغلول والجمهورية وفي أثناء ثورة 9191 ومابعدها ترددت شائعات تقول إن سعد زغلول يريد قلب نظام الحكم في مصر إلي جمهورية يكون هو رئيسها، وأن الملك فؤاد كان يعتقد أن سعد زغلول يريد إعلان الجمهورية، كما كان كبار الملاك المصريين يعتقدون أن سعدا يريد استبدال الجمهورية في مصر بالملكية وتجدر الإشارة أنه عندما قامت ثورة 9191م أعلنت بعض المناطق استقلالها عن السلطة في القاهرة،وتألفت فيها حكومات علي مبدأ الجمهورية، ففي المنيا تألفت جمهورية برئاسة الطبيب »محمود عبدالرازق« وقطعت أسلاك البرق والسكك الحديدية مع القاهرة.. وفي زفتي تألفت لجنة برئاسة الأستاذ »يوسف الجندي« أعلنت الاستقلال عن السلطة في القاهرة ، وأنزلت العلم الذي يرفع علي مركز الشرطة ورفعت بدلا منه علما غير العلم الذي يرفع في القاهرة كما أصدرت هذه اللجنة جريدة باسم »الجمهورية« وألفت لجانا فرعية للمحافظة علي الأمن وتحصيل العوائد والإنفاق منها علي مرافق المدينة.. والواضح من مذكرات سعد زغلول أن سعد كان يرغب في تغيير النظام القائم في مصر بنظام دستوري، تكون فيه الحكومة مصرية صرفة مؤلفة من برلمان ووزارة مسئولة وحاكم، وأنه كان يكره تشدد الإنجليز في الاحتفاظ بالسلطان وعدم خلعه. وعلي أي حال فقد اضطرت انجلترا أمام إصرار المصريين إلي إلغاء الحماية وإعلان تصريح 82 فبراير 2291م والتي أعلنت فيه أن مصر دولة مستقلة ذات سيادة في حدود التحفظات الأربعة، وظنت بذلك أنها سادت خطوة واسعة في سبيل إرضاء المصريين، وربما كان الوقت مناسبا ليستشار المصريون في نظام الحكم الذي يروقهم، إما الملكي أو الجمهوري، ولكن الحكومة الإنجليزية كان يهمها قبل كل شئ ألا يحدث تغيير جوهري في نظام الحكم، لأن النظام الملكي هو أحب النظم إليها، ولأنها لاتقبل لمصر نظاما شعبيا حقيقيا، أو نظاما جمهوريا، أو نيابيا حقيقيا يكفل للشعب حقوقه في حكم نفسه، وتوجيه مصير بلاده، ومن هنا أقر النظام الملكي الوراثي في مصر الذي من خلاله لا يستطيع الشعب اختيار حاكمه. دستور 3291 ومع ذلك فقد جعل دستور 3291 الأمة هي المصدر الأساسي لجميع السطات وتناول الدستور والبرلمان الذي أصبح يتكون من مجلسين: أحدهما للشيوخ، والآخر للنواب، وكان أول عمل أجري بعد صدور الدستور هو إجراء الانتخابات العامة التي فاز فيها الوفد بأغلبية ساحقة. ولما كان دستور 3291 يحد من سلطات الملك ويكفل للمصريين حقوقهم، حيث نص في المادة 32 بأن جميع السلطات مصدرها الأمة، كما نص في مادتيه 16 و 56 علي مسئولية الوزارة أمام مجلس النواب وبأن الملك يتولي سلطته بواسطة وزرائه (المادة 84) فقد صدر أمر ملكي ببطلان دستور 3291، واستبداله بدستور 0391، وحل مجلسي النواب والشيوخ، مما أثار موجة من الاستياء والاحتجاج، فانفجرت المظاهرات في أماكن متعددة، مما دفع حكومة صدقي إلي استخدام العنف، وخلال ذلك أثبت الشعب المصري حيويته مما زعزع ثقة الشعب في وزارة صدقي وأدي في النهاية إلي إسقاطها، وإلغاء الدستور الذي أتت به، وإعادة دستور 3291، وفي الوقت الذي احتكم فيه الوفد إلي الدستور عمل الملك فؤاد علي إضفاء المسحة الدينية علي حكمه غير أن هذا الصراع تحول إلي معركة كبيرة بعد وفاة الملك فؤاد وإعلان الوصاية، ثم بلوغ السن القانونية في يوليو 7391 والتي مكنته من ممارسة حقوقه كملك. معركة البرنسات تزوج فؤاد من الأميرة »شيوه كار« (شويكار) عام 3981م وهي كريمة الأمير إبراهيم أحمد ابن الأمير أحمد رفعت »الذي غرق في حادث كفر الزيات« ابن إبراهيم باشا.. كانت شويكار علي قدر متواضع من الجمال ولكنها ميسورة الحال... كان الشجار دائما بينهما لذلك لم تدم الزيجة إلا ثلاث سنوات رزق منها خلالها بالأميرة فوقية التي تزوجت محمود فخري وزير مصر المفوض في باريس، والأمير إسماعيل الذي توفاه الله صغيرا.. وظل فؤاد حرا كالطائر الطليق لأكثر من ثلاثة عشر عاما، اختلط خلالها بعامة الشعب.. وعرفت قدماه الطريق إلي المقاهي والأندية، ونادي محمد علي بصفة خاصة.. ولكن في مساء اليوم السابع من شهر مايو عام 8981م، وبينما كان البرنس أحمد فؤاد في الكلوب الخديوي قرب البنك العقاري، أقتحم صهره البرنس أحمد سيف الدين نجل البرنس إبراهيم باشا الكلوب واعتدي عليه بالقول، ثم أخرج غدارة من جيبه وأطلق عليه ثلاث رصاصات، واحدة في فخذه، والثانية في كم قميصه، أما الثالثة وهي أخطرهم فأصابت أسفل البطن فمرت تحت الكبد وانتهت قرب القلب، وقامت الدنيا ولم تقعد أمام هذا الحادث النادر في تاريخ الأسرة العلوية.. إلي جانب رائحة الدماء الساخنة، كانت هناك رائحة العواطف الملتهبة بالبغض والحب.. البغض كان سبب الجريمة، فقد حدثت بالأساس نتيجة تدهور العلاقات بين البرنس فؤاد وزوجته شيوه كار.. فمنذ اللحظة الأولي للقبض علي الجاني ظل يردد: انتقمت لشقيقتي.. انتقمت لشقيقتي.. لكن رد فعل الأميرة جاء مختلفا، فأنكرت أنها كتبت لأخيها تشكو من البرنس زوجها، وأنها لا تستحسن علمه ولا تقره عليه.. أكثر من ذلك فإنه لما بلغها أن البرنس فؤاد ينوي طلاقها سألته بإلحاح العدول عن ذلك، لكن السهم كان قد نفذ وطلق البرنس فؤاد زوجته بعد أن أقره أخواه علي ذلك: البرنس حسين الذي تولي العرش بعد ذلك باسم السلطان حسين كامل والبرنس إبراهيم.. وكان موقف الأميرين يدعو للإعجاب، فقد أزالت هذه الحادثة ماكان بينهما من جفاء بسبب الاختلاف علي تفسير وصية والدهم الخديو سماعيل.. وقد علق الأول علي الحادثة بالقول: »لقد رأينا بين أعضاء أسرتنا المقامر والسكير، ولم يكن ينقصنا سوي القاتل«.