أعتقد أن ثورة9191 كانت النتيجة السياسية لفكر التنوير الذي بدأ منذ القرن التاسع عشر. وقد تفاعل الوجه السياسي مع الوجه الاجتماعي المقترن بتحرير المرأة والوجه الديني المقترن بفتح أبواب الخطاب الديني علي الاتجاهات العقلانية المصاحبة للاجتهاد, وذلك في علاقة وثيقة مع اكتمال مؤسسات التعليم المدنية التي توجها افتتاح الجامعة سنة4091 لتكون وعدا بزمن جديد من فكر الدولة المدنية, ولا أفصل ذلك عن أشكال المثاقفة المختلفة التي جمعت بين ثقافة الآخر المتقدم والموروث العقلاني, وإعادة إنتاج كليهما في تركيب متميز, ليس تكرارا حرفيا, أو تقليدا اتباعيا لأفكار التراث وحدها أو الأفكار الوافدة في ذاتها. ولقد كان هذا التركيب الجديد نتيجة صحوة سياسية قرينة نزعات تحريرية في مجالات عديدة, ووعي تقدمي مغاير قادر علي وضع كل شيء موضع المساءلة. وبقدر ما كانت الصحوة السياسية مرتبطة بشعارات من مثل مصر للمصريين والاستقلال التام أو الموت الزؤام وأناشيد من مثل بلادي بلادي لك حبي وفؤادي. في سياق تأصل فيه معني المواطنة, واكتملت دلالات الوطنية التي جمعت بين أطراف الأمة كلها, بعيدا عن الرابطة الدينية أو العرقية, فقد أصبح الوطن فضاء الحياة المشتركة للمواطنين الأحرار الذين لا تمييز بينهم علي أساس من دين أو جنس أو عرق أو حتي ثروة. ومن المؤكد أن ثورة9191 بقدر ما أكدت معاني المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات, داخل رابطة الوطنية التي أصبحت بمثابة عقد اجتماعي وسياسي, لا ينقصه الا كتابة دستور يؤكد حقوق المواطنة وواجباتها التي لابد من وضعها في الاعتبار, وفرض الالتزام بها علي الجميع, ومن المؤكد أن هناك دساتير سابقة علي ثورة9191, يرجع أقدمها إلي أواسط القرن التاسع عشر في عصر إسماعيل, ولكن ثورة9191 دفعت إلي صياغة دستور جديد, يحقق كل أحلام الأمة في الحرية بكل لوازمها, والعدل بكل أبعاده, والمساواة بكل شروطها, والحقوق والواجبات في كل مجالاتهما, فضلا عن الفصل بين السلطات وسيادة القانون, وجعل الأمة من خلال ممثليها المنتخبين ديموقراطيا, هي مصدر السلطات بواسطة برلمانها. وقد كان من الطبيعي أن يستجيب الملك فؤاد لمطالب الأمة التي أعلنتها قياداتها الوطنية, وأن يشكل لجنة من ثلاثين عضوا لصياغة الدستور, ومن المفارقات الطريفة أن حزب الوفد بقيادة سعد زغلول كان غير راض عن هذه اللجنة, ولذلك أطلق عليها سعد زغلول اسم لجنة الأشقياء, لكن هذه اللجنة التي امتزج في ذهن أعضائها فكر التنوير مع الفكر الليبرالي فرغت من صياغة الدستور الذي سيكون سعد أول من يستفيد منه. وقد نظرت اللجنة في اقتراح تخصيص عدد بعينه من المقاعد في البرلمان للأقباط, ولكن ممثلي الأقباط في هذه اللجنة رفضوا هذا الاقتراح لأنهم رأوا فيه تمييزا ضد الأقباط, وإهدارا لمعني المواطنة الذي لا يمايز بين المواطنين علي أي أساس, ومادام كل المواطنين سواء أمام الدستور, ومن ثم القانون, فلا فارق بين قبطي أو مسلم في حقوق المواطنة وواجباتها, ولم تعترض اللجنة علي اضافة المادة941 في الباب السادس( أحكام عامة) والتي تنص علي أن الاسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية, وهي مادة لم يعترض عليها الأعضاء الأقباط في اللجنة, وتقبلوها بسماحة صدر لأنها تقرير واقع فعلي, وقد قدمت لجنة الدستور صيغته النهائية إلي الملك فؤاد الذي راجعها مع مستشاريه, وأضاف اليه بعض ما يؤكد سلطته الاستبدادية, وأعلن الدستور في الثالث من رمضان سنة1431 ه الموافق التاسع عشر من أبريل سنة3291 ميلادية. وتكتمل المفارقة بعودة سعد زغلول من منفاه الثاني منتصرا, ويضطر الملك فؤاد الي إيكال تشكيل الحكومة لسعد, بعد أن اكتسح الوفد خصومه في الانتخابات, وحصل علي أغلبية ساحقة, فتولي الحكم تحت مظلة دستور3291 الذي لا أزال أراه أعظم الدساتير المصرية, وأكثرها تحقيقا لمباديء المواطنة والمساواة والعدالة, وأكثرها تأكيدا لاستقلال القانون والقضاء وحماية لكل أنواع الحريات بلا استثناء. وقبل وفاة الملك فؤاد, حدثت أزمة حول كيفية تولي ابنه فاروق الحكم, فقد اقترح الأمير محمد عبد المنعم أن يقسم الملك الجديد يمين الولاء في الأزهر, ليتخذ عهده صفة دينية, لكن النحاس رئيس الوزراء وتلميذ سعد زغلول رفض ذلك بشدة, مصرا علي أن يقسم الملك أمام برلمان الأمة حسب دستور3291, وكان ذلك في سنة6391, وبالفعل ذهب الملك إلي البرلمان, وأقسم أمام النواب, مؤكدا بذلك المادة42 التي تنص علي أن السلطة التشريعية يتولاها الملك بالاشتراك مع مجلس الشيوخ والنواب, وقبلها المادة32 التي تنص علي أن جميع السلطات مصدرها الأمة وهي وغيرها من المواد تؤكد الطابع المدني للدولة الذي يجسده القسم بمراعاة مصالح الوطن واحترام الدستور القانوني كما تنص المادة05 التي تقول أحلف بالله العظيم أن أحترم الدستور وقوانين الأمة المصرية, وأحافظ علي استقلال الوطن وسلامة أراضيه. وقد أقسم الملك أمام كل أعضاء مجلس النواب والشيوخ, وليتنا في مسيرتنا إلي بناء الديمقراطية الحقيقية التي لا تزال حلما, أن تراجع دستور32 وتقتبس من أنواره ومواده ما يصوغ دستورا لمصر المستقبل, شريطة حذف التعديلات التي تطلق يد الحاكم المستبد, والتي تعمد الملك فؤاد إقحامها في دستور3291, وما أسهل ذلك علي من هو صادق النية مؤمنا إيمانا حقيقيا بضرورة بناء المستقبل الواعد علي منظومة سياسية ديمقراطية حديثة قائمة علي المواطنة والفصل بين السلطات, محققة التوازن بين الحرية أهم مبدأ في فكر التنوير والعدل الاجتماعي الذي لا يتناقض مع هذا الفكر, بل يتقاطع معه في نقاط كثيرة. والواقع أنه كما ترتب علي ثورة9191 أستكمال مؤسسات التنوير التعليمية والاجتماعية والتشريعية, فإن الثورة أدت إلي استكمال مؤسسات التنوير الاقتصادية, وذلك بواسطة تنويري عظيم اسمه طلعت حرب(6781 1491), هذا البعد الاقتصادي أضاف معني استقلال الوطن بعد استقلاله اقتصاديا, وقد أنشأ طلعت حرب بنك مصر بوصفه بنكا مصريا يعتمد علي رءوس أموال مصرية خالصة, وبدأ نجاح البنك الصاعد في تأثيره بما أدي إلي إنشاء العديد من الشركات التي كانت أساس النهضة الاقتصادية والصناعية في مصر, في حقبة ما بعد ثورة9191 إلي اليوم. المزيد من مقالات جابر عصفور