مصر لها مذاق آخر في حالتين.. في الفجر لأن الشر غالبا نائم.. وفي سكون ليلة مقمرة يكرهها الشر.. وبالأمس كافأني ربنا بهدية مجانية مفرحة كنت – وأظننا كلنا - في شدة الاحتياج إليها.. كنت عائدة من زيارة صديقنا د. شارل بشري محقونة بجرعة منشطة من سلام صلوات الرحبانية وعبق فيروز ..علي كوبري 6 أكتوبر لمحتهما كأنهما حلما، كأنهما إشراقة ذكريات حلوة.. فتاة تحتضن شابا يحملهما موتوسيكل يغرد.. نسائم الليل تفتح الطريق أمامهما وتنشرأوراق زهور الفل والياسمين، لتحجب السيارات والمباني واسوار الكوبري.. ولا يطل الا القمر .. وحدهما.. لا صوت ولا وجود لبشر، ولا حدود للعالم.. تحتضنه وتهمس في أذنيه.. يبتسمان فيغمر حبهما الكون، وتسبح الملائكة لأنها التقطت قلوبا تحب.. وتهلل الحياة.. يتمايل الكوبري علي نغمات فالس تعزفها نسمات انطلقت بعد طول اختناق.. يزفهما هواء الليل النقي، ويبدر الموتوسيكل صواريخ سحابات حبهما علي وجه القاهرة القاتم.. وعلي الوجوه النائمة كمدا أوخوفا ، وعلي الوجوه والعقول المتربصة بالحياة .. أتابعها وهي تهبط وأتساءل هل تنجح سحب الحب هذه في تبديد عادم الغضب والفوضي والشر الذي هجم كالجراد علي القاهرة منذ سرقة الثورة.. أتابع الفتاة والشاب وموتوسيكل الحب، وهو يتبختر بهما.. أبتسم وأطمئن وأستعيد لمحة من مذاق القاهرة، معشوقتنا المريضة.. ثم أنتبه إلي حركة السيارة وأتيقن أن محمود السائق يطارد الموتوسيكل فعلا!!. أشجعه علي البوح .. غالبا شعر بالحرج مني لأن الفتاة محجبة .. فانبري ساخرا غاضبا رافضا ، دي بنت مش متربية .. حتي لو كان ده خطيبها!!.. وابوها لامؤاخذة مش راجل في بيته لأنه سمح لها تتأخر مع خطيبها .. تعالي شوفي المناظر اللي عالكورنيش كله ، وف عز النهار .. المنظر ده ولا حاجة من اللي بيحصل .. إحنا محتاجين ريس يلم البلد اللي فلتت دي ..لا أجادله .. أسأله انتخبت مين يامحمود ، فيجيب بصدق شفيق طبعا لأننا عاوزين ننهض بالبلد ، كفاية كده تعبنا وخسرنا وكشفنا الكدابين اللي فرقوا الكراتين بفلوس حرام .. وأضبط عيونه تطارد العشاق علي الموتوسيكل بغضب أشد . أناوشه لأصل بيتي سالمة .. فيتراجع في لحظة .. ويراوغ بالأسلوب الانتخابي الذي يمارسه علينا فصيل سياسي ديني قائلا ، الله أعلم يمكن مراته !..ربنا هو العالم بكل شئ .. يصمت هو ، وأجهل أنا ماذا يضمر لهما في نفسه .. وماذا سيحكي عن العاشقين ، وبماذا حكم. افترقنا عن موتوسيكل العشاق.. وعبرت أمامي مشاهد لموتوسيكلات لعبت أدوارا متناقضة منذ الثورة.. موتوسيكلات تخترق حشود المعتصمين لنقل المصابين ، وموتوسيكلات تخطف وتسرق وترهب.. وأخري تراقب وتبلغ وتقبض.. مشهد عبثي مثل حالنا ومظهرنا من بعد الثورة.. كلما تصورناه واضحا يزداد غموضا. لكن موتوسيكل الحب والمحبة أعاد لي تفاؤلي.. مصر بخير طالما أن أولادنا قادرون علي اغتصاب حقهم في الحب، ولو علي موتوسيكل بعد أن يغفو الشر ولو لحظات.. موجات محبة العاشقين هي الوحيدة القادرة علي تبديد السحب الثقيلة الجاثمة علي عقولنا وقلوبنا وأرواحنا في مصر شهورا طالت.. وعلي إذابة نقاب العقل وإضاءة أنواره.. لو أضاء العقل مع القلب لانتهي العنف وتآلفت القلوب كما كانت. هل كلامي أحلام وشعارات وأغاني.. وهل يشفي الكلام .. وهل تبعث الأحلام أي أمل أم أنها مخدرات للتغيب ومقاومة العجز.. أحاور نفسي وأصل ليقين.. نعم الكلام يشفي ويطهر وينير ويقود.. ونعم الأحلام تبني.. بشرط واحد.. أن نضمر لبعض المحبة بدلا من التصيد والشك والتخوين.. نحارب بالحب.. وننتزع حقنا في الحب بحب .. ونمنح المساكين حبا بلا مقابل.. هؤلاء الضعفاء الذين اختبأوا خلف أقنعة أو عصابات أو نظريات أو جماعات، هم هاربون من ضعفهم.. هم في رأيي يحتاجون حبا يطلق قواهم الكامنة، ويفتح بصيرتهم.. لو خرجوا من الجحور وساروا في نور الشمس سيعشقون الحياة .. ويحافظون عليها ، ويعمرونها ويزرعونها وينزعون عنها الطفيليات قبل أن تكمن وتتوالد وتلتهم الأخضر واليابس .. الحب لا يحتاج مجلسا لتشريع قوانينه ولا رئيسا مهيبا لفرض وتفعيل القوانين .. الحب هو قانون الفطرة .. لو تركناه يمرح علي الموتوسيكلات.. لن نحتاج تهديدا ولا ترويعا بالدين ولا معتقلات ولا مؤامرات ولا تحالفات ولا مليارات نصرفها علي الرشاوي الانتخابية، ولا جيوشا تبدد عمرها في الرقابة والحراسة والردع.. ياريتكم كنتم معي علي الكوبري ليلة الأمس.. أغمضوا عيونكم لحظة.. وتصوروا مشهد كوبري 6 أكتوبر وموتوسيكلات العشاق تمرق عليه .. تتسابق.. تطير.. تحلق.. وصوت فيروز يشدو لهم ، ويرتل ، ويسبح الخالق واهب القلوب المحبة لمن يستحقها .. فكيف تستقبلون كل يوم جديد في الحياة .