سوق الموضة العالمي.. خارج المدينة أربعون عاما مضت علي أول زيارة لي هي عمر العشق والهوي لهذه المدينة الساحرة.. التي تجعلك تشتاق لشوارعها وأزقتها ومبانيها الأثرية.. حتي (مجاريها) حولتها إلي مزارات سياحية تتجول فيها بالقوارب.. تحكي لك عن أسرار العالم السفلي للشوارع الكبيرة والصغيرة.. شخصياتها جسدها أديبها العظيم (فيكتور هوجو) في أشهر رواياته (البؤساء) وحكت كتب ثورتها حكايات أبطالها.. تحت كل شارع فوق الأرض شارع آخر مسكون (بجماجم) (ضحايا) الحرب العالمية الأولي والثانية ومن قبلهم (الثوار) أوائل من هبوا وانتفضوا في وجه (ملك) وملكة كانا بعيدين تماما عن الشعب.. ثورة الجياع التي غيرت وجه العالم كله.. لكنها لم تدمر الآثار والتاريخ ولا القصور الملكية.. فرغم الفقر كان هناك الوعي الذي أتمني أن ينتقل إلينا ونحافظ به علي بلدنا من كل تدمير. المدينة الجميلة شكلا ومضمونا وموضوعا هل تتغير.. هل تفقد خصائصها الجميلة بعد أن باتت تعلو رنة بداية من الانتخابات الرئاسية إلي رجل الشارع العادي بأنه لم يعد هناك مجال للمهاجرين.. خاصة العرب المسلمين فقد ضاقت بهم فرنسا وتعتبرهم الصداع الأزلي في رأسها.. وحتي تكون الصورة واضحة فالعنصرية باتت متبادلة من الطرفين من المهاجرين والفرنسيين علي حد سواء.. والغريب أن البلد الذي كان يفتح ذراعيه للجميع ليعيش الجميع سواسية علي أرضه.. فوجئ بأن المهاجرين إليه ينقلون له خلافاتهم الطائفية والدينية وهو بلد علماني لايناقش فيه الدين ولايؤخد في الاعتبار عند التعامل اليومي.. والغريب أن البعض منا يرحل عن أوطانه.. وبلدانه بحثا عن الأمان ومن أجل حياة أفضل له ولأولاده لكنه عندما يصل إلي البلد الذي يعتبره أمنا وأمانا بالنسبة له.. يخرج لسانه للجميع ويبدأ في زراعة الفتن.. وهذا للأسف حال المهاجرين الجدد الذين يملأون شوارع العاصمة سواء أكانوا في أوروبا الشرقية التي تطاردهم الشرطة في كل مكان لأن معظمهم (لصوص شنطة) أو (شحاذون) أو من الأفارقة الذين هربوا من فقر مدقع في بلادهم أو صينيون باتوا يحتلون أحياء كاملة في العاصمة وأخيرا عرب ومصريون خرجوا تحت عباءة الاضطهاد الديني بحثا عن جنسية جديدة.. خوفا من سيطرة الإسلاميين.. والنتيجة الجيل الأول من المهاجرين المصريين يعيش في وئام لا فرق بين مسلم ومسيحي أما للأسف الشديد فإن الجيل الجديد من المهاجرين الذين وصل عددهم إلي مائة ألف تقريبا ينتظرون جميعا السماح لهم بالإقامة كخطوة أولي في سبيل الحصول علي الجنسية فإنهم بدون مواربة يعيشون خلافات طائفية حادة الله وحده قادر علي حلها. مدينة العشق والهوي .. الحرية والجمال لديها القدرة علي إغواء (الزائر) أو (السائح) لكي يخرج آخر (سنتيم ) في جيبه .. فتقاليعها لاتنتهي.. ولعل آخرها ماكان يتمشي مع الفيلم الجديد (أسبوع مع مارلين) إخراج سيمون كيرتس الذي يعرض عن (مارلين مونرو) فهذه النجمة رغم وفاتها منذ زمن طويل مازالت تحتل القلوب بجمالها الآخاذ.. هذه الإيقونة الساحرة الجميلة أخذ أحد فنادق العاصمة صورا مجسمة لها ووضعها علي حوائط غرف النوم.. بحيث يشعر النزيل إنه ينام في أحضان (مارلين) وبالمناسبة فإن (مارلين) هي التي تتصدر أفيش مهرجان (كان) هذا العام.. وفي نفس الوقت نجد أن واحدا من أكبر فنادق العالم وليس باريس فقط وأسعار الإقامة فيه ولا في الخيال تحل مشكلة ملايين (الجياع) في العالم وهو فندق (سكريب) الذي يحتفل هذا العام بمرور مائة وخمسين عاما علي إنشائه والذي أقيم به أول عرض سينمائي في فرنسا في إحدي قاعاته الشهيرة.. أصبح مزارا لعدد من المحظوظين لمشاهدة هذه القاعة وآلة العرض القديمة. الموضة.. والعطور.. والأسواق ملامح تشتهر بها فرنسا خاصة عاصمتها باريس.. وأحدث الأسواق بها هو (سوق) الموضة عمره يقترب من العشر سنوات لذا يعد حديثا بالمقارنة بالأسواق التقليدية القديمة التي اشتهرت بها فرنسا.. مثل سوق الزهور أو الخضار وحتي سوق البراغيث الذي تجد فيه كل (الانتيكات) التي تخطر ولا تخطر علي بالك.. و(سوق الموضة) هو أسلوب للتسوق انتشر في تسع دول أوروبية يقدم أحدث الماركات العالمية لكن بتخفيضات تصل إلي 06٪ وأكثر أثناء الأوكازيونات حيث المحال الكبري والتي تحمل ماركات عالمية.. لا تقدم مثل هذه التنزيلات إلا علي موضة الموسم الماضي فقط وبشروط.. في هذا السوق الذي يبعد عن وسط العاصمة مسيرة 53 دقيقة في منطقة (شامبانيا) يطلق عليه (قرية لافالي) ويستطيع السائح أن يصل إليه بالحافلة أو القطار ناهيك طبعا عن التاكسي وهو قريب من منطقة (يورودزني) وهو يعتبر مكانا جميلا لقضاء يوم ممتع حتي لو كانت ميزانيتك لاتسمح بالشراء.. وهو شيء غير وارد علي الإطلاق نظرا للتخفيضات التي تحرص المحلات علي تقديمها وتغري الزائر بالشراء. أما في الحي اللاتيني حيث تقع مكتبات (جيلبيرجون) أشهر مكتبات باريس.. وبالتحديد في 31 ش سان ميشيل سوف تلتقي بوجه مصري في سمار لون النيل تجلجل ضحكاته عالية ويأتي إليه الطلاب والسائحون الذين يرتادون هذا الحي.. هو المصري حسن قمصان وهو واحد من الجيل القديم الذي أتي إلي فرنسا في بداية الثمانينات.. ولديه كنوز هائلة من الكتب وصور أصلية لأفيشات السينما المصرية والعالمية.. وحكاية نجاحه في العاصمة الفرنسية تستحق التحية وأن تروي لكن في عدد آخر إن شاء الله. وبفضل صديق كريم وأخ عزيز (أسامة شاهين) المصري الأصيل الذي له شهامة وجدعنة ابن البلد يؤثر مصالح الغير وخدمتهم علي مصالحه الشخصية يقدم يد العون لكل من يأتي للعاصمة الفرنسية سواء كان من عامة الناس البسطاء أو من مشاهير النجوم حيث الجميع أصدقاؤه.. كان لي شرف المعرفة ومعايشة تجربة رائعة لم أحاول أن اقترب منها من قبل رغم زياراتي المتكررة والعديدة لعاصمة النور .. لقد أدخلني أسامة إلي عالم سوق الخضار الشهير في باريس.. والتقيت بالزعيم الحاج عادل إمام الذي يعد كبير هذا السوق ويتزعمه.. وهو رجل فاضل جاء إلي فرنسا أيضا في بداية الزمن الجميل للهجرة في أوائل الثمانينات .. حيث كان الحلم جميلا والواقع شاقا ومريرا .. لكن التعاون والحب يجمع بين الجميع.. فكان يعمل ويعول من لايعمل من المصريين وما كان أكثرهم في ذلك الوقت. رحلة طويلة بدأت وهو في السنة الرابعة بكلية التجارة، حيث راوده حلم السفر لأوروبا وبالتحديد لفرنسا بلد الفنون والجنون .. البداية لم تكن سهلة.. التاريخ في بداية الثمانينات.. وكان كل قادم يحاول إثبات وتحقيق ذاته كما يقول الحاج (عادل).. كانت الحدائق والأماكن العامة هي المكان الوحيد للمبيت وفي أحد الأيام تم العثور علي الجنة (بيت قديم مهجور) قريب من منطقة بلفيل سكنه المصريون يوم كانت تسود بينهم روح محبة وتعاون لدرجة أن كان البعض يتطوع للذهاب للحدائق وينادي علي الشباب المصري ويدعونهم للإقامة في البيت المهجور الذي أصبح معمورا بالطلبة المصريين ويصف الحاج عادل (اللي كان بيشتغل.. كان بيشيل اللي مابيشتغلش وما كان أكثرهم).. المهم دخل المصريون أصعب الأعمال.. أعمال سوق الخضار الذي كان يسيطر عليه اليهود.. وسرعان ما تفوقوا علي المعلمين والكبار وأخدوا مكانهم وأصبحت أسواق الخضار يسيطر عليها المصريون بنسبة من 08٪ إلي 58٪ في باريس وضواحيها.. والعمل فيه مرهق للغاية حيث يبدأ في الخامسة صباحا وينتهي في الثالثة عصرا.. والمصريون يسيطرون علي أسواق الأحياء المتوسطة أو الشعبية أما أسواق الاحياء الراقية فقد قرر الفرنسيون الاحتفاظ بها.. حيث يعد السوق واحدا من أبرز ملامح الحياة ومن خلاله تنشأ العديد من العلاقات الاجتماعية. والحاج عادل كما يناديه الجميع، حيث أكرمه الله وأنشأ جمعية للحج والعمرة.. استطاع أن يصل بأبنائه إلي أرقي درجات التعليم فابنه د.سامح إمام حاصل علي دكتوراه في الرياضة البحتة علم الاحتمالات.. وهو كوالده يرعي العديد من أبناء الجالية المصرية ويساعدهم في تخطي كل العقبات الدراسية من واقع تجربته الذاتية.. أما بناته الأربع فإحداهن حاصلة علي دكتوراه في المحاسبة.. والثانية إعلام.. والثالثة حقوق أما الصغري فمازالت في السنة النهائية بالمدرسة الثانوية. الحاج عادل يعترف بأن الصورة بين المهاجرين لم تعد حلوة مثل الأول وأن الصورة للمهاجرين تغيرت كثيرا بعد حرب الخليج.. وأن حظ هذا الجيل القادم أفضل بكثير من الجيل القديم حيث حجم المعاناة أقل كما إن الجيل القديم لم يبخل عليه بشيء.. باختصار مهما كانت المتاعب فطريقهم أسهل بكثير. سوق الخضار الباريسي عالم ثان تحكمه قوانين وأخلاقيات ويمتد عادة لأكثر من ثلاثة كيلومترات.. وهو عادة جزء من سوق أكبر بياع فيه كل شيء.. وهنا تجد مالا تجده في أسواقنا بمصر. العمل يبدأ في الخامسة صباحا حيث يتم التجهيز بفرش الطاولات التي يتراوح طول كل واحدة من 8 إلي 21 مترا.. لكل طاولة مكان ثابت ورقم.. وعدد العمال علي كل طاولة يتراوح مابين مناول وبائع من ثلاثة إلي أربعة.. ومتوسط أجر العامل تقريبا 07 يورو يوميا.. وقد اشتري المصريون أماكنهم في السوق من المعلمين الكبار السابقين.. أما اليوم فالرخصة لاتباع ولا تشتري. وقديما كان التصريح مجانا أما اليوم فيحتاج إلي مبالغ باهظة.. أما الحاج ناصر إمام الشقيق الأصغر للحاج عادل فقد حضر إلي فرنسا بعده بسنوات كثيرة وكلاهما حريص علي أن يربط أولاده بمصر الوطن الأم.. ولأولاد عادل إمام صور ووقفات كثيرة في التحرير فهم وإن كانوا يعيشون في فرنسا إلا إنهم شاركوا في ثورة غيرت وجه التاريخ ونتمني أن تسير في مسارها الصحيح. إن الجالية المصرية في فرنسا وبالتحديد في باريس هي من الأقليات العربية التي لاتسبب الصداع الرئيسي في رأس الحكومة الفرنسية.. فحتي أشهر المهاجرين (رشيدة داتي) التي وصلت لمنصب وزيرة العدل الفرنسية وارتبطت بشائعات كثيرة عن علاقاتها بساركوزي.. تصرفاتها الشخصية أربكت الحكومة الفرنسية وسببت لها العديد من المشاكل حتي بعد أن قدمت استقالتها.. لكن مازالت فضائحها كثيرة واتهامات كثيرة توجه إليها. لكن تظل حكايات المصريين في الغربة هي أقل الحكايات إثارة.. والمشاكل محدودة للغاية وعلاقاتهم الإنسانية بعيدة عن كل عنف ورعونة باقي المهاجرين العرب خاصة من دول المغرب العربي.