لا يمكن قراءة شريط الفيديو الجديد الذي ظهر من خلاله زعيم تنظيم »الدولة الإسلامية» داعش، الخليفة المزعوم المختفي، أبو بكر البغدادي، إلا كإشارة تحول مستقبلي لنشاط أشرس كيان إرهابي في العالم في الوقت الحالي. التنظيم انتقل من مرحلة تأسيس الخلافة، عقب انهيار ممالكه في كل من سوريا والعراق وكذا في ليبيا، إلي ساحة العمل التقليدي الذي طالما أجاده السواد الأعظم من كيانات الإرهاب، وهي حروب الاستنزاف التي تقودها مجموعات صغيرة من المقاتلين المسلحين، أو الانتحاريين المدججين بالقنابل والأحزمة الناسفة بمختلف تنوعاتهم. ونادراً ما يظهر إبراهيم عوض إبراهيم البدري، المعروف باسمه المستعار أبو بكر البغدادي، أمام الكاميرا. وحتي الآن، ظهر زعيم الدولة الإسلامية مرة واحدة علنًا. جري ذلك في يوليو 2014، عندما أعلن نفسه خليفة من فوق منبر الجامع النوري الكبير في الموصل. والآن، وبعد ما يقرب من خمس سنوات، يطل الرجل عبر شريط فيديو ثانٍ. المقطع بثه داعش بلا شك، وذلك لأن المنظمة الإرهابية قد نشرته عبر قناتها الإعلامية الرسمية »الفرقان». وبشأن مدي تأكيد أن من تحدث في الشريط المصور هو البغدادي فعليًا، وليس شبيها له، فإن دوائر الشك في هذا الشأن لا تزال ضعيفة وهشة إلي حد كبير.. الرجل المتحدث في الفيديو الجديد يشبه البغدادي تمامًا، علي الرغم من أنه يبدو ممتلئًا وأكبر سنًا. ولا يفضل الإرهابيون المحترفون أن تظهر الكثير من تفاصيلهم الجسدية في الأشرطة المصورة، حتي تزداد مهمة إسقاطهم أمنيًا صعوبة وتعقيدًا.. يخفي معظمهم علي سبيل المثال آذانهم كما فعل البغدادي نفسه في فيديو النوري قبل نحو 5 سنوات.. وهو ما لم يتكرر في الفيديو الجديد، حيث ظهرت شحمة أذنه اليمني غير مرة.. بدت في الفيديو الجديد رغبة البغدادي واضحة جلية في التأكيد علي أنه علي قيد الحياة، ولا يزال علي رأس التنظيم، وأنه لا يزال صامدًا في مواجهة مطاردات التحالف الدولي بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية، وأنه لم يهتز ولا يزال مسيطرًا، وأن أي أنباء تتحدث عن انقلاب داخلي عليه أو تمرد علي بيعته، ولو كانت صحيحة، فإنها لم تؤثر علي مقاليد حكمه في شيء.. هكذا هو الظاهر من رسائل الظهور المفاجئ والخطير للبغدادي. الحقيقة الراسخة علي هذا النحو، أن أجهزة الاستخبارات الغربية لا تزال تتبع مسار زعيم الإرهاب الأول في العالم، بيد أن محصلة جهودها لا تزال صفرًا كبيرًا.. لقد رصدت الولاياتالمتحدةالأمريكية 25 مليون دولار مقابل رأس البغدادي، غير أن العرض المقدم لا يزال غير مجدٍ أو مغرٍ لأحد.. ورغم أن الخلافة قد انتهت عمليًا في شهر مارس الماضي بسقوط آخر موطئ قدم للتنظيم في بلدة الباغوز الصحراوية السورية، إلا أنه لم يتم العثور علي البغدادي. فيما يهدف الفيديو، وفق ذلك الظرف التاريخي، إلي التأكيد علي استعادته سلطته، ففي الآونة الأخيرة، أفادت تقارير أمنية غربية، أن محاولة انقلاب فاشلة قد استهدفت البغدادي داخل داعش. في الفيديو يدشن البغدادي تحولًا عقائديًا واستراتيجيًا جديدًا بشأن فقه عمل التنظيم علي الأرض. مقللًا من أهمية انهيار خلافته، فيقول: »لقد أمر الله بالجهاد، وليس النصر».. ثم ما يلبس أن يؤكد علي فكرة الصمود والولاء والالتزام بالبيعة، عبر تلك التقارير التي تفحصها بشكل سينمائي بينما كانت تحمل عناوين براقة علي طريقة »ولاية تركيا»، و»ولاية ليبيا»، و»ولاية غرب إفريقيا»، وغيرها. لعل ظهور أحد أتباعه بعقال خليجي، إنما يرمز كذلك إلي امتداد تأثير خلافته والولاء إليه إلي جزيرة العرب. هو حيا كذلك منفذي العمليات الدموية في سريلانكا والسعودية، ناهيك عن وعيده للأمريكان والفرنسيين وغيرهم في شتي بقاع الأرض. هو يغري ويحفز ويحشد ويستنفر مؤيدي داعش الدوليين، فضلًا عن مقاتليه المختبئين بين العشائر والقبائل المحلية في سوريا والعراق ووادي الفرات الفسيح المترامي علي الحدود بين البلدين، لأجل استئناف عمليات الدم عابرة الحدود. كما أنه يحاول استعادة مصداقيته لدي السكان المحليين في ممالك خلافته المنهارة بسوريا والعراق، بعدما اكتشف الناس هناك وحشية حكمه وسلطانه الجائر علي مدار 5 سنوات تقريبًا.. هنا يظهر أهمية ردائه البسيط، علي طريقة ما كان يظهر به زعيم القاعدة السابق، أسامة بن لادن، بعد هجمات 11 سبتمبر 2001. البغدادي ودع فخامة ملبسه الوثير في ظهوره الأول عام 2014، ليوحي علي ما يبدو في جلسته الأرضية في 2019، أنه قد صار في نفس هم أتباعه، مطاردًا متقشفًا، وأنه يعيش أزمتهم ذاتها ومصيرهم المحتوم، وسينتفض معهم مجددًا، ومن ثم ارتدي أيضًا سترة مموهة وأسند كلاشينكوف رشاشا إلي جواره. لأسباب تتعلق بالأمن والسلامة، تفيد المعلومات بأن البغدادي لا ينام لمدة ليلتين في نفس المكان. ومع ذلك عنون الفيديو الجديد ب»في ضيافة أمير المؤمنين»، إذ لا يزال يصر علي أنه يسيطر علي كل شيء، وقادر علي أي شيء، بما في ذلك استقبال الضيوف رغم الحصار.. يريد أن يقول ببساطة: لا أزال القائد فابقوا أتباعي.. لكن أتراه سينجح في مقامرته الأخيرة؟!.. سنري..