الحزن يخيم علي عاصمة النور باريس..بعد رحيل الفنانة القديرة »أنياس فاردا» رائدة الموجة الجديدة في السينما الفرنسية والعالم.. »أنياس» التي تبلغ من العمر 90 عاما لكنها كانت تتمتع بقوة وحيوية فتاة في العشرين وقعت صريعة للمرض اللعين سرطان الثدي منذ شهر فقط.. لكنها كعادتها قاومت ولم تستسلم.. وكانت تسخر من المرض قائلة إنها مثل بطلة فيلمها »كليو» الذي قدمته منذ ما يزيد عن الثلاثين عاما وحكت فيه قصة مطربة علمت بمرضها وأخبرها الطبيب أنه أمامها عدة شهور فقررت أن تجوب الشوارع تغني بأعلي صوتها وتعيش الحياة الباقية لها مستمتعة بها. »أنياس فاردا» ليست مجرد مخرجة ورسامة ومصورة شهيرة في فرنسا والعالم أجمع بل هي امرأة قوية مناضلة لم تتوار يوما عن مناصرة قضايا المرأة وكانت من أوائل من وقّعن علي الاحتجاج علي قانون 343 الذي يبيح الإجهاض في فرنسا.. وكانت الكثير من الفرنسيات يسافرن إلي بلدان أخري في أوروبا تبيح الإجهاض. ولدت »أنياس فاردا» سنة 1928 في مدينة »أكسيل» البلجيكية من أب يوناني وأم فرنسية.. وأمضت طفولتها مع أشقائها وشقيقاتها الأربعة لكن ظروف الحرب سنة 1940 ونتيجة لتدمير المدينة قررت الأسرة الهرب والرحيل لمدينة »ست» الفرنسية القريبة من »مارسيليا» و»مونبلييه».. والتي اشتهرت بصناعة السفن لتمضي سنوات المراهقة بها.. ولتظل هذه المدينة تحتل مكانة عالية في قلبها، وبهذه المناسبة قررت مدينة »ست» تخليدا لها ولذكراها إقامة يوم سينمائي تعرض فيه جميع أفلامها.. وهو أيضا ماسيفعله السينماتيك الفرنسي اليوم الثلاثاء بعد مراسم الدفن التي ستجري في الصباح، وفي المساء سيقيم »السينماتيك» حفلا لتأبينها..
و»فاردا» اسمها الحقيقي »أرليت» وهي بقدر عظمتها الفنية فإنها سيدة تجمع مابين البساطة والوفاء لكل من تعرفهم.. كان لي حظ اللقاء بها في مهرجان »كان 2013» وقتها كانت رئيسة لجنة تحكيم الكاميرا الذهبية.. وعندما كانت تنتهي من المشاهدات كانت تفاجئ الجميع وهي تتنزه علي شاطئ »الكروازيت» بمفردها.. وكان الناس يميزونها بتسريحة شعرها الشهيرة.. وعلي الممشي كان لقاؤنا وأعترف أنها أسرتني بشخصيتها وبساطتها.. يومها قالت لي مارددته بعد ذلك في حفل الأوسكار الشرفي لمجمل أعمالها سنة 2017 وكنت قد سألتها بعد هذه السنوات الطويلة من العشق السينمائي ماذا حققت وهل هناك ماتتمنين تحقيقه؟ ضحكت يومها قائلة لي: لم أتكسب من السينما بمعني لم أجن أموالا طائلة ولم أكوِّن ثروة مادية.. لكنني حققت ماهو أفضل من المال.. تواجدي الفني المحترم وأفلاما أفتخر بها التي ستظل علامة في تاريخ السينما.. ولعل أفضل دليل علي هذا الكلام هو ماقاله »مارتن سكورسيزي» المخرج الأمريكي الكبير عندما وصله خبر وفاتها فقال: هذه الفنانة العظيمة أفلامها أثرت فيّ بشدة وكان لها الفضل في تكويني الفني. والحقيقة أن أنياس هي واحدة من القلائل التي استطاعت أن تجمع ببساطة بين الفيلم الوثائقي وتمزجه مع الفيلم الروائي وظلت لآخر وقت في حياتها وهي تبحث عن عمل جديد ويكفي أنها أول مخرجة تحصل علي »السعفة الذهبية الشرفية» سنة 2015.. وكان قد حصل عليها من قبل كل من »وودي آلان» ، »كلينت إيستوود» والإيطالي »برناردو برتولوتشي».
عشق »فاردا» للصورة والذي يعود لبداية مشوارها الفني حيث عملت مصورة في المسرح الوطني الشعبي.. جعلها طوال حياتها تلهث وراءها وتحرص علي جمع أكبر عدد من الصور في كل مكان تذهب إليه.. ففي ديسمبر سنة 1962 ذهبت لكوبا بدعوة من زميلها كرسبي ماركو لمعهد كوبا للفن وصناعة السينما.. والتقطت »أنياس» آلافا من الصور.. وكانت كوبا تعيش في هذه الفترة مع رقصة التشاتشا وبالطبع الثورة. وقد أقام بعد ذلك مركز ثقافة جورج بومبيدو معرضا لهذه الصور سنة 2016 فكان توثيقا للحياة في كوبا في بداية الستينيات مع الفنون المختلفة. والغريب أن هذه الفنانة العظيمة التي لم تكن تكف عن الحركة.. ماتت كما كانت تتمني وسط أصدقائها وأولادها وأحفادها ويغمرها حبهم فقد كانت عاشقة لأسرتها وللحياة والناس.
بعد سنوات المراهقة التي قضتها في مدينة »ست» رحلت لباريس لتدرس الفنون الجميلة وبعد ذلك تاريخ الفن في مدرسة اللوفر العليا. في تلك الفترة التقت مع أنطوان بور سولييه» لتنجب منه ابنتها »روزالي فاردا» التي تعد واحدة من أشهر مصممات الأزياء في السينما، وفي سنة 1954 قررت أن تعود لمدينة »ست» وبأموال قليلة جدا قررت عمل أول أفلامها الروائية الطويلة (la pointe courte) وهو عن الحي الذي تربت فيه.. وعن علاقة البشر في هذا الحي الذي يعج بالصيادين وعمال صناعة السفن.. والجدير بالذكر أن أبطال هذا الفيلم كانا »فيليب مواريه» الوجه الجديد.. و»سيلفيا مونفور».. أما المونتاج فكان »لآلان رينيه» أحد الوجوه البارزة في السينما الفرنسية فيما بعد.
في مدينة »تور» وأثناء مهرجانها التقت بالحب الحقيقي في حياتها بالمخرج »چاك ديمي» ليتم زواجهما وتنجنب منه ابنها الممثل »ماتيو» وهي اليوم جدة لأربعة من الأحفاد. وعندما توفي »چاك ديمي» قدمت »فاردا» تخليدا لذكراه ثلاثة أفلام عنه .. اثنين تسجيليين »چاكو من نانت».. وعالم »چاك ديمي» أما الروائي فقد كانت بدأته في فترة مرضه وهو الآنسات يبلغن الخامسة والعشرين وكانت حريصة علي أن تبني في الاستديو الچراچ الذي بدأ فيه »ديمي» حياته لكي يعيش ويستعيد تلك الفترة من حياته ليرحل في خريف أكتوبر سنة 1970.. بعد أن اكتمل الفيلم.
أما »أنياس» فقد قدمت واحدا من أجمل أفلام السيرة الذاتية عن نفسها وهو »شواطئ أنياس».. وفيه حكت الكثير عن حياتها علي شاطئ البحر، أما فيلمها »وجوه ومدن» فقد كان تجربة رائعة عن الجداريات.. وفيه صورت العديد من وجوه الناس وقدمتها علي الجداريات.. إن كل فناني العالم يبكون اليوم فنانة رائدة صاحبة مشوار طويل في العمل السينمائي المحترم.. تنقلت فيه مسيرتها ما بين فرنسا وأمريكا.. لكنها أبدا لم تنقطع علاقاتها بالناس البسيطة.. كما كان لها طلبة كثيرون تعلموا منها.. واليوم الثلاثاء يواري جسدها التراب في مقبرة »مونبارناس» الشهيرة، فإن دموع كل محبيها ومحبي السينما تبكيها.. تبكي فيها الفنانة الرائدة والإنسانة الجميلة.