بينما كانت رئيسة الوزراء البريطانية تريزا ماي تتهيأ لإلقاء كلمتها في قمة مجموعة العشرين التي عُقدت مطلع الأسبوع الجاري في الأرجنتين، تلقت نبأ استقالة الوزير السادس من الحكومة البريطانية، احتجاجا علي اتفاق خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "بريكست"، الذي توصلت إليه رئيسة الحكومة تيريزا ماي مع دول الاتحاد البالغ عددهم 27، ما يكشف مجددا عن هشاشة وضع ماي التي ستواجه تصويتا علي النص داخل مجلس العموم خلال بضعة أيام، وهو ما يعيد الحديث مرة أخري عن سيناريوهات كارثية في حال رفض مجلس العموم ما توصلت إليه ماي مع قادة أوروبا، فإما الخروج بلا اتفاق، أو لا خروج بالمرة، أو الذهاب لصناديق الاستفتاء مرة أخرة، وفي كل الأحوال فالأغلب أن حكومة ماي لن تبقي علي رأس إدارة البلاد، وهو ما يعني فوضي عارمة وشللا تاما وإنفاق مزيد من الأموال. سام جيمايما، وزير العلوم وشئون الجامعات المستقيل، أوضح في مقالة نشرتها صحيفة »دايلي تلجراف»، السبت الماضي: »أنا غير قادر علي دعم مشروع بريكست لرئيسة الحكومة». وأضاف الوزير المستقيل الذي دافع عن إبقاء المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي خلال استفتاء يونيو 2016: »لقد تخلينا عن صوتنا وعن اقتراعنا وعن حقنا بالفيتو». وجيما من حزب المحافظين، كما أنه نائب في مجلس العموم. وكانت ماي توصلت إلي اتفاق علي طريقة خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي إثر 18 شهرا من المفاوضات الشاقة بين الطرفين. ويشرح الوزير المستقيل أن قرار تيريزا ماي بالتخلي عن حق المملكة المتحدة بالاتصال بنظام »جاليليو» الأوروبي لتحديد المواقع عبر الأقمار الاصطناعية، هو الذي دفعه إلي الاستقالة. وأعلنت لندن عزمها إقامة نظام مماثل خاص بها لتحديد مسار السفن عبر الأقمار الاصطناعية. كما قال جيما في تصريح ل»بي بي سي راديو4»، صباح السبت: »ما حصل مع جاليليو ما هو إلا مقدمة بسيطة للمفاوضات القاسية التي تنتظرنا بعد بريكست المقرر في التاسع والعشرين من مارس 2019، والتي ستضعف مصالحنا الوطنية وتفقرنا وتخرب أمننا». محل تنديد الاتفاق المؤلف من 600 صفحة الذي تم التوصل إليه خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي بشأن شروط الانفصال بين الجانبين، كان محلَّ انتقاد وتنديد من كل الأطراف. لكن رغم أنه يمثل وثيقة مخيبة للآمال، فإنه قد يكون الصفقة الوحيدة الممكنة قبل انتهاء المهلة القانونية لخروج بريطانيا »بريكسيت» من أوروبا في ربيع 2019، بحسب جيفري كمب، مدير البرامج الاستراتيجية في مركز »ناشيونال إنترست» بواشنطن. ويري جيفري كمب أن أعضاء الاتحاد الأوروبي يكرهون الاتفاق، لأنهم لم يرغبوا أبداً في رحيل بريطانيا. وأغلبية من البرلمان البريطاني تكرهه، لأن الاختصاصات ليست هي ما كانوا ينتظرونها، وتكاليفه المالية أعلي مما كانوا يتوقعون. ومن المرتقب أن يصوّت البرلمان علي قبول الاتفاق من عدمه في الحادي عشر من ديسمبر الجاري. لكن في الوقت الراهن، لا يبدو أن رئيسة الوزراء تيريزا ماي لديها الأصوات الكافية للفوز بالموافقة عليه. ذلك أن عدداً من الوزراء البارزين في حكومتها أعلنوا أنهم سيصوّتون ضد الاتفاق. وكذلك فعل زعماءُ حزب العمال المعارض، إضافة إلي أعضاء »الحزب الوحدي الديمقراطي» الصغير من إيرلندا الشمالية الذي تحتاج ماي إلي دعمه من أجل الحفاظ علي الأغلبية في البرلمان. ومع ذلك، ورغم هذه الاحتمالات، فإن جهود حزب المحافظين الحاكم الرامية إلي تنحية ماي واستبدالها بشخص آخر في منصب رئاسة الوزراء، لم تحقق أي شيء حتي الآن، لأسباب من بينها حقيقة ألا أحد يرغب في أن يرث اتفاقاً يشدّد الاتحاد الأوروبي علي أنه نهائي ولا يمكن إدخال أي تعديلات عليه. ولهذا السبب هناك احتمال ضئيل في أن تستطيع ماي تعبئة الرأي العام والحصول علي فوزٍ في البرلمان عبر القول إن الاتفاق، حتي وإن كان أبعد ما يكون عما كان يريده معظم أنصار البريكسيت، فإنه الصفقة الوحيدة المتاحة، والبديل هو ما يسمي »بريكسيت قاسية» تغادر بموجبها بريطانيا الاتحاد الأوروبي دون أي اتفاق بين الجانبين، مع ما ينطوي عليه ذلك من فوضي محتملة فيما يتعلق بما سيحدث للاقتصاد البريطاني، ومصير المواطنين البريطانيين الذين يعيشون في الاتحاد الأوروبي، ومستقبل الحدود بين آيرلندا الشمالية وجمهورية أيرلندا، وعشرات الأزمات الممكنة الأخري، مثل الوصول إلي الأدوية، والاتفاقيات التجارية، والسياحة، وقوانين الهجرة. وبشكل أوضح فإن الأفق المسدود الذي يلوح في أفق العلاقة بين لندن وبروكسل، حيث مقر الاتحاد الأوروبي، يعزز فرضية الدخول في سيناريو كارثي ممثلاً في خروج بلا اتفاق، فيأتي يوم التاسع والعشرين من مارس 2019 اليوم المحدد للطلاق، ويتم فجأة إلغاء القواعد الجمركية الحالية، حيث تصر حكومة ماي علي الخروج من السوق الأوروبية الموحدة والاتحاد الجمركي لتتمكن من التفاوض علي اتفاقات تجارية خاصة بها ووضع حد لحرية تنقل المهاجرين والمحاكمات التي تجري في المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، متمنية إبرام اتفاق يخفض قدر الإمكان الرسوم الجمركية والمعاملات الإدارية، ولكن الخروج بلا اتفاق يعرض إمدادات البلاد من الطعام والدواء للخطر، وكذلك لن تتمكن الكثير من الطائرات من الإقلاع، وليس أدل علي ذلك من تصريح وزير الصحة »مات هوك» بأنه لا يضمن أن أي نقص في الدواء إثر خروج بلا اتفاق لا يتم ترجمته إلي حالات وفيات. مهلة للإعلان وفي حال خسرت ماي التصويت في ديسمبر، فإن لدي حكومتها مهلة 21 يوماً للإعلان عن خطواتها المقبلة. ونظراً لأن من شأن التصويت ب»لا» أن يتسبب في ارتباك كبير في الأسواق المالية العالمية، فإن تطوراً جديداً قد يحدث بسرعة. وفي هذا الإطار، يمكن أن تستقيل ماي وتترك مهمة إصلاح الفوضي لشخص يخلفها من داخل حزبها. أو يمكن أن يطاح بها من قبل حزبها نفسه، والذي سيضطر حينها لاختيار زعيم جديد. كما يمكن أن يقوم حزبُ العمال المعارض بالدعوة إلي تصويت علي حجب الثقة عنها في البرلمان. وإذا ما صوّتت الأغلبية لذلك، فإن الزعيم العمالي المحسوب علي أقصي اليسار جيريمي كوربن يمكن أن يصبح رئيساً للوزراء. غير أنه حتي الآن، لم تصدر عن كوربن أي إشارة واضحة حول ما ينوي فعله بالاتفاق عدا قوله إنه سيحصل علي صفقة أفضل. لكن في حال فشل التصويت علي سحب الثقة، ووافق البرلمان بأغلبية الثلثين، فإن البلاد يمكن أن تشهد إجراء انتخابات جديدة. وتحت هذه الظروف، قد يكون الاتحاد الأوروبي مستعداً لتأخير مهلة الخروج النهائي لبريطانيا. غير أن الانتخابات الجديدة يمكن أن تشمل دعوات لإجراء استفتاء جديد بهدف مراجعة مشكلة »الانسحاب» أو »البقاء» الجوهرية. ذلك أن عدداً من المسؤولين البريطانيين البارزين والمسؤولين السابقين، مثل رئيس الوزراء السابق توني بلير، يدافعون بشدة عن فكرة إجراء استفتاء جديد، لاعتقادهم بأن أنصار »الانسحاب» ضللوا الشعب البريطاني بشأن سهولة البريكسيت ومزاياه. وبينما تواجه بريطانيا اختباراً صعباً جداً بشأن مستقبلها، فإن أعضاء الاتحاد الأوروبي السبعة والعشرين الآخرين لديهم مشاكلهم الخاصة بهم، والتي ينبغي عليهم التعاطي معها، مثل زعيمي ألمانيا وفرنسا اللذين أُضعفا مؤخراً، تحت وطأة التخلي القسري للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عن زعامة حزبها الديموقراطي المسيحي، وكذلك أحداث العنف في باريس احتجاجا علي ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة، وتدني شعبية إيمانويل ماكرون بالتبعية، إضافة إلي الحكومات ذات النزعة الاستبدادية المتزايدة في بولندا والمجر وإيطاليا. وبالتالي، ففي لحظة ما، قد ينفد صبر الاتحاد الأوروبي مع بريطانيا وقد لا يكون هناك مفر من »بريكسيت قاسية» رغم العواقب الوخيمة التي سترتب عن ذلك. وباختصار، فإن ديسمبر الجاري قد يشهد أسوأ أزمة تعرفها أوروبا والمملكة المتحدة منذ الأيام الأولي للحرب الباردة في أربعينيات القرن الماضي.