منذ أكثر من عام حدثت ثورة في مصر أحدثت هزة عميقة في المجتمع بكل أطيافه وتنوعاته ، صحيح أنها جاءت متأخرة سنوات طويلة ولكن قدر الله وماشاء فعل ، كانت ثورة في الاتجاه الصحيح لتغيير أوضاع ماكان ينبغي السكوت عنها.. لكن صبر المصريين نفد، وكانت طليعتها شباباً ضاعت منهم معالم وآفاق مستقبل.. رأوه مظلما ولايحقق حتي الحد الأدني من طموحاتهم وأحلامهم، واحتضن الشعب ثورة شبابه بأبوة الخائف علي أبنائه ، ثم هدأ غبار الثورة في موجاتها الأولي، لكن تحقق الأحلام علي أرض الواقع طالت مدته وبدأ القلق والتململ والخوف علي المستقبل يحل مكان التغيير المنشود في الأمد المنظور، وخلال عام جرت في النهر مياه كثيرة وحدثت تغيرات في بنية ونسيج المجتمع أعتقد أنها تحتاج للكثير من الأبحاث والدراسات التي تقوم بها المراكز العلمية المتخصصة، ترصد ماجري للمصريين في أعقاب هذه الثورة، وهل نحن علي الطريق الصحيح أم أننا في مسار خاطيء ؟! عشنا زمنا من القهر والطغيان ضاعت فيه الحقوق وصمتنا طويلا وتركنا لحكامنا الحبل علي الغارب في أن يتحولوا لفراعنة مستبدين ورضي المصريون في مجملهم بتلك الحياة منزوعة الحرية والحق في العيش الكريم.. وهذه حقيقة يعلمها القاصي والداني في ربوع المحروسة ، صحيح أن هناك الكثيرين ممن دفعوا ثمن وقفتهم ضد النظام لكن قوة القهر وقبضته كانت الأعنف والأكثر سيطرة ، خرجت مصر وأفلتت من تلك القبضة أخيرا لكنها ماتزال تعاني من أثرها وماسببته من آلام وأوجاع ، أخيرا شعر المصريون أنهم أحرار وأنهم أصحاب هذه الأرض وليسوا غرباء فيها من حقهم التظاهر أو الاعتصام والإضراب والغضب بكل صوره ورفع الصوت عاليا في مواجهة السلطة.. أية سلطة. ولأننا في أول سنة حرية وديمقراطية ضل الكثيرون منا الطريق وتعثرت خطواتنا وكأننا نمارس المشي لأول مرة، وذلك يعد أمرا طبيعيا، فمرحلة مابعد قيام الثورات هي الأصعب في تاريخ الشعوب لأنها خروج من نفق الاستبداد والقهر المظلم إلي نور وآفاق الحرية. هذه الفترة الصعبة تحتاج أن توضع تحت منظار البحث العلمي العميق لرصد تأثير الثورة علي الشخصية المصرية والتغييرات التي حدثت، وهل المصريون أفضل حالا بعدها، وكيف يمكن معالجة الجوانب السلبية التي طرأت علي سلوكياتهم، وهل هي مرحلة مؤقتة ترتبط بظرف الثورة فأحداث إمبابة وماسبيرو وشارع محمد محمود ثم مجلس الوزراء واستاد بورسعيد ومحيط وزارة الداخلية والعنف المصاحب لها لايمكن أن نضعه ضمن سمات الشخصية المصرية المتسمة بالتسامح لارتباطها بالظروف السياسية التي تمر بها البلاد ومرحلة الانتقال لكنها جرس إنذار ، فالملاحظ أن العلاقات بين المصريين علي أي مستوي بدأت تهتز ويصيبها قدر كبير من عدم التسامح والحدة والتوتر والشكوك ، البعض ممن ينتسبون للثورة من شبابها تجاوزوا الخطوط الحمراء في نظرتهم للأجيال التي سبقتهم دون تفرقة بين من ظلم ومن عاني منه ، الانفلات سياسيا وإعلاميا وأمنيا واجتماعيا من الظواهر التي طفت علي السطح في مرحلة مابعد الثورة ، لكن القيم السماوية التي يرتبط بها المصريون ستمكنهم من تجاوز هذه المرحلة الصعبة وعبورها بسلام دون خسائر كبيرة.. ولاشك أن الوسائل التكنولوجية والإعلامية الحديثة من إنترنت وفضائيات لعبت أدوارا سلبية في حالة التوتر التي عشناها طوال الفترة الماضية حيث تحولت لساحة حرب بين القوي والتيارات السياسية والفكرية شعر معها المصريون خاصة البسطاء منهم بضياع البوصلة والإحساس بأن الثورة جاءت بالحرية والفوضي معا!! ربما لم تحقق المرحلة الانتقالية أحلام وطموحات الشعب وخاصة الشباب، لكن الثورات تحتاج لوقت طويل للتغيير تبدأ بإزالة وتطهير ماخلفه النظام القديم ووضع قواعد لمجتمع مختلف تعلو فيه قيمة المواطن ويكون شريكا فاعلا ومؤثرا في تقرير مصيره وتحديد من يحكم بلده ويمثله علي كل المستويات ، كما أن من المهم التصدي لكل القوي التي تعترض طريق البناء في الداخل والخارج لأن مصر ليست بلدا صغيرا في دورها ومكانتها، لذا فإن عودتها سيكون لها تأثيراتها في محيطها الإقليمي والدولي وبقدر الخشية لدي الكثير من الدوائر من عودة هذا الدور وتلك المكانة يشتد العداء والتآمر!! لقد غابت الابتسامة عن وجوه المصريين وزاد عبوسهم وتجهمهم من فرط مايشاهدونه ويتابعونه علي مدار الساعة ومن ضخامة المشاكل التي يواجهونها، لكن المستقبل القريب وليس البعيد يمكن أن يحمل الكثير من الخير لو صلحت النوايا وصفت القلوب ووضع الجميع مصلحة بلدهم فوق كل وأي اعتبار آخر، لأن الثورة هي ذروة غضب الشعب من أجل التغيير للأفضل وليس الأسوأ ونهاية طبيعية وحتمية لتراكم وتضاعف الظلم والطغيان والفساد الذي لم يعد بوسع أحد أن يحتمله لكن البناء أصعب من الهدم ويحتاج لوقت أطول ولجهد أكبر وأكثر مشقة. ماتحتاجه مصر هذه الأيام أن تعود دورة الإنتاج لسابق عهدها بل أكثر، وأن تتوقف حملات التخوين والتراشق بالاتهامات والإقصاء بين التيارات السياسية والفكرية وأن يعود الاستقرار ليس علي الطريقة السابقة وإنما علي أسس من العدالة والقانون والحرية والعيش الكريم لكل مواطن علي قدم المساواة ، أن يوضع دستور جديد وينتخب رئيس وتنطلق المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية لتمارس دورها الفاعل في تأمين وتلبية احتياجات المواطنين وتحقيق طموحاتهم وأن تنتهي حالة الفوضي والشعور بعدم الأمان في بلدهم والقضاء علي كل المشاكل التي تؤرق حياة الناس ولن يحدث ذلك إلا بتكاتف الجميع وحرصهم علي أن تكون مصر بلدا يتسع لكل أبنائه. كلمة أخيرة الشيئان اللذان ليس لهما حدود هما الكون وغباء الإنسان ، مع أني لست متأكدا بخصوص الكون ! (ألبرت أينشتاين)