فجأة وبعد فترة من الغياب، عاد ستيفان دي ميستورا، المبعوث الدولي إلي سوريا، إلي الظهور الإعلامي مرة أخري، ليتحدث عن معركة مرتقبة في محافظة إدلب، وبطريقة تُعيد للأذهان سيناريو معارك دارت رحاها في حلب الشرقية منذ عامين وفي الغوطة الشرقية منذ أشهر، ولكن مع فارق جوهري هذه المرة وهو أنه "لا إدلب بعد إدلب"، حيث كانت تلك المحافظة الواقعة شمال غرب سوريا هي الملجأ والملاذ للمسلحين المتمردين علي نظام حكم الرئيس بشار الأسد، والذين رفضوا الاستسلام وإلقاء السلاح بعد هزيمتهم في حلب والغوطة. ولم يكن ذلك فقط ما يمكن التقاطه من حديث دي ميستورا، إذ أوضح الرجل أن قوام هيئة تحرير الشام (جبهة النُصرة سابقاً التابعة لتنظيم القاعدة)، وهي الفصيل المسلح الأبرز في إدلب، يبلغ 10 آلاف مقاتل، مؤكداً ولأول مرة أنهم "إرهابيون يستحقون الهزيمة"، وهو ما قد يُفهم منه ضمناً بأنه مباركة دولية بتصفيتهم، واستثنائهم من أي عرض للخروج الآمن إلي مناطق أخري تحت سيطرة الجيش العربي السوري. غير أن ما يلفت النظر في تصريحات دي ميستورا أيضاً، إشارته إلي قدرة الجيش السوري والمعارضة المسلحة، علي السواء، علي إنتاج غاز الكلور، وهنا تبرز تحذيرات روسيا للمحور الغربي، الولاياتالمتحدة وفرنسا وبريطانيا، من استغلال لحظة وقوع هجوم كيماوي مجهول المصدر، والتذرع كعادتهم بتصريحات كهذه لتوجيه ضربات عسكرية لسوريا، علي غرار ما حدث العام الماضي، وفي أبريل من العام الجاري، لا سيما أن هناك تلميحات من الصحف الغربية بأن الضربة هذه المرة قد تطال العمق السوري، وأهدافاً حيوية ربما علي رأسها القصر الرئاسي. وهنا تجدر الإشارة إلي تصريح مطاط للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن "كارثة إنسانية أخري تلوح في الأفق بسوريا". دي ميستورا بكي تأثُّرا عندَما رُفضت مبادرته في حلب الشرقية.. بكي لأنه توقع هزيمة الفصائل المسلحة، مثلما توقع أيضا وقوع خسائر كبيرة في صفوف المدنيين، وهذا ما حدث فعلاً.. مبادرة دي ميستورا هذه المرة تبدو مختلفة جذريا عن نظيرتها الأولي، لخلوها من أي "طوق نجاة" للمقاتلين في صفوف جبهة النصرة والمتحالفين معها، والتي تسيطر علي 60٪ من مدينة إدلب، فلا حافلات خضراء في انتظارهم، ولا ملاذَ آمناً يمكنهم الذهاب إليه، ولا حملات إعلامية تنتصر لهم، سواء في تركيا أو في بعض الدول الخليجية، علي غرار ما حدث في حلب، الأمر الذي يعني أن الخيار الوحيد المتاح أمامهم هو القتال حتي الموت، وحتي الاستسلام غير مطروح هذه المرة. ويبدو أن ما يحدث الآن هو سيناريو يتنبأ به كثيرون، حيث يتم تجميع المقاتلين السلفيين في إدلب للقضاء عليهم دفعةً واحدة، وبمباركة روسية أمريكية أُوروبية ضمنية. وتٌقسم المحافظة إدارياً إلي خمس مناطق، وهي مركز المحافظة (مدينة إدلب)، ومعرة النعمان، وجسر الشغور، وأريحا وحارم، ويقع مركز المحافظة علي ارتفاع 446 متراً عن سطح البحر. وتشتهر المحافظة بأشجار الزيتون وهي المنطقة الأولي في إنتاج الزيتون بسوريا. تحالفات جديدة اندمجت عدة مجموعات مسلحة معارضة في محافظات إدلب وحماة وحلب في شمال سوريا، في تحالف جديد برعاية تركية، تحت اسم "جبهة التحرير الوطنية" بهدف تشكيل "نواة جيش ثوري" في المستقبل. وتتقاسم 3 مجموعات معارضة المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة شمال البلاد، حيث هناك منطقتان تسيطر عليهما وتديرهما جماعة موالية لتركية ومدعومة من قبلها، أما الثالثة فتتقاسم السيطرة فصائل معارضة ومتشددون وجهاديون. تشمل مناطق درع الفرات القري والبلدات الواقعة شمال وغرب محافظة حلب، التي تمتد ما بين مدينة جرابلس شرقا وإعزاز غربا والباب جنوباً. وكانت فصائل المعارضة السورية المدعومة من تركيا قد سيطرت علي تلك المناطق التي كانت بيد تنظيم داعش في أواخر عام 2016 وبدايات عام 2017. والفصائل الرئيسية التي شاركت وقتها في تلك العملية هي فرقة "السلطان مراد" وفرقة "الحمزة" و"لواء المعتصم". وأعلنت جميع الفصائل في شمال محافظة حلب وشرقها في ديسمبر 2017 عن تشكيل "الجيش الوطني" ويضم 20 ألف مقاتل مكون من أكثر من 30 فصيلاً. ويتبع "الجيش الوطني" هذا وزارة الدفاع التابعة لحكومة المعارضة ومقرها تركيا. أكثر تعقيدا الوضع في مناطق سيطرة المعارضة أكثر تعقيداً في محافظة إدلب والأجزاء الغربية من محافظة حلب ومناطق شمال حماة، فمعظم مناطق محافظة إدلب الآن تقع تحت سيطرة التحالف الجهادي هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) إلي جانب جماعات أخري موالية لتركيا. في أوائل عام 2018، اندمج فصيلان منافسان لهيئة تحرير الشام، وهما أحرار الشام ونور الدين زنكي ومجموعات أخري صغيرة وشكلت "جبهة تحرير سوريا" وخاضت الجبهة معارك لمدة شهرين ضد هيئة تحرير الشام في المناطق الواقعة بين إدلب وحلب. وفي أواخر مايو 2018 اندمجت 11 مجموعة عسكرية وشكلت ما يُعرف حاليا ب"الجبهة الوطنية للتحرير" بدعم مباشر من تركيا حسب موقع "عنب بلدي" السوري المعارض. ومن بين الفصائل الرئيسية التي انضمت إلي الجبهة فيلق الشام و جيش إدلب الحر وجيش النصر. وبعد المحادثات الأخيرة في سوتشي بين تركياوروسيا وإيران بشأن الوضع العسكري في سوريا، انضم إلي الجبهة أيضا في الأول من أغسطس الماضي، خمسة فصائل رئيسية أخري في إدلب وحلب، بينها "جبهة تحرير سوريا" وبعض منافسي هيئة تحرير الشام مثل صقور الشام و جيش الأحرار. أولوية استعادة السيطرة علي محافظة إدلب تمثل أولوية للدولة السورية، حيث إنها تعني وبنسبة كبيرة القضاء قضاءَ مبرماً علي المتمردين، وانتهاء الحرب التي مزقت البلاد علي مدار أكثر من 7 سنوات. ويسيطر علي إدلب جماعات مسلحة مدعومة من تركيا، لذا فقد شهدت الأيام الماضية تكثيفاً للاتصالات بين أنقرةوموسكو، حيث إن روسيا هي الداعم الأول لسوريا تحت قيادة الرئيس الأسد، وأغلب الظن أن تلك الاتصالات، ورغم متانة العلاقة بين الأتراك والروس، لن تمنع وقوع معارك طاحنة. القوات الحكومية السورية، تركز جهودها الآن علي طرد المسلحين من إدلب، بعد طردهم من ضواحي دمشق في الربيع، ومن الجنوب السوري مطلع الصيف، وكانت مؤشرات استعادة إدلب قد ظهرت من خلال عملية محدودة تم من خلالها السيطرة علي محور استراتيجي يربط المحافظة بالعاصمة دمشق. وعلي الجانب الآخر، يبرز تحالف المتمردين بقيادة هيئة تحرير الشام، ويضم بين صفوفه آلافاً من المقاتلين الأجانب، وبينهم مئات من جنسيات أوروبية مختلفة، وكانت تركيا قد فشلت في إقناع أبو محمد الجولاني بإعلان حل تنظيمه العسكري التابع لتنظيم القاعدة. بشكل يفتقر للعقل وأبسط قواعد المنطق، ترفض هيئة تحرير الشام أي مفاوضات مع دمشق، بل إن التنظيم شن حملة اعتقالات طالت قيادات في صفوفه بتهمة الميل لمفاوضة نظام الأسد، فضلاً عن توقيف آخرين بتهمة أنهم خلايا نائمة لتنظيم داعش، وفي دليل واضح علي التشنج والتخبط، احتجز تنظيم الجولاني طاقم إحدي القنوات التركية لأكثر من 30 ساعة الأسبوع الماضي، وهو ما يمكن تفسيره علي أنه إشارة بعدم قبول استمرار التواجد التركي عسكريا. منذ مطلع أغسطس الماضي، تلقي طائرات الجيش السوري بمنشورات علي إدلب، تطالب السكان بالانحياز لخيار المصالحة، علي غرار ما حدث في مناطق أخري متمردة، وهو ما تزامن مع إرسال تعزيزات عسكرية إلي مشارف المدينة، وإلي جانب القوات النظامية السورية، هناك ميليشيات إيرانية وخبراء عسكريون روس يشرفون علي سير العمليات، ومقاتلون آخرون كانوا يسعون إلي إسقاط الأسد قبل أن يتصالحوا معه وينضموا إلي قواته. وقالت وكالة الإغاثة التركية IHH التي تشرف علي تقديم المعونات في المحافظة أن 100 ألف شخص نزحوا مؤخراً بسبب ترقب المعارك بين قوات الحكومة والمعارضة، وتوقعت أن يصل إجمالي عددهم داخل المحافظة باتجاه الحدود التركية إلي 400 ألف شخص شخص بسبب هذه المعارك. وتتجه القوات الحكومية نحو مطار "أبو ضهور" العسكري. وكانت محافظة إدلب من أولي المحافظات التي شهدت مظاهرات ضد الحكومة وخرجت عن سيطرتها عام 2015 وسقطت في قبضة "النصرة" سابقا و"أحرار الشام" المتشددتين. أما القري الدرزية والتي تنتشر في جبل السماق فهجرها معظم سكانها وتم إجبار من بقي منهم علي تغيير دينه بعد المجزرة التي تعرضوا لها في بلدة "قلب اللوزة" والتي راح ضحيتها 23 شخصا. أما روسيا، فقد عززت تواجدها العسكري بالبحر الأبيض، من خلال 30 طائرة مقاتلة متواجدة بشكل دائم في قاعدة حميميم، وفي مطلع الأسبوع الماضي، اتجهت فرقاطتان، من أسطول الأدميرال جريجوروفيتش وأسطول الأدميرال إيسن، المتواجدين بالبحر الأسود، إلي الجانب الشرقي من البحر الأبيض، وكلتاهما مزودة بصواريخ "كاليبر" كرسالة ردع للقوي الغربية، حيث إن تلك النوعية من الصواريخ تفوق تكنولوجيا نظيرتها في الغرب، ولا يملك حلف شمال الأطلسي "ناتو" ما يمكنه من اعتراض تلك الصواريخ. ومع وقوف الحشود العسكرية علي أهبة الاستعداد، يبقي مصير إدلب رهناً بمباحثات دبلوماسية روسية تركية، حيث إن أي هجوم من الجيش السوري بدون غطاء جوي روسي غير وارد، كما أنه ليس لتركيا مصلحة في نشوب القتال كي لا يتدفق علي حدودها عشرات الآلاف من اللاجئين، ورغم ذلك فإن أردوغان حسم أمره بإصدار مرسوم رئاسي صنف بموجبه هيئة تحرير الشام كمنظمة إرهابية، كي لا يضع العقبات في طريق موسكو العازمة علي تصفية تلك الجماعة وما تبقي من داعش باعتبارهما تنظيمات إرهابية. وإذا كان لا مفر من عمل عسكري، فإن تحليلات الخبراء تذهب في اتجاه إلي أن استعادة المدينة لا يمكن أن يحدث بعملية عسكرية واحدة، وإنما بعمليات محدودة النطاق الواحدة تلو الأخري، فيما يبقي مصير 3 ملايين مدني غامضاً في هذا الصراع الأممي الذي يجري علي نطاق جيوسياسي إقليمي دولي واسع.