في ليلة عيد ميلاد يسوع المسيح رسول المحبة والسلام .. تحول الميدان إلي مدينة القدس.. شموع الصلاة علي أرواح شهداء كنيسة القديسين الشموع التي أضاءت ميدان التحرير طوال ليلة السبت وحتي فجر أول أيام السنة الجديدة .. هي شموع جسر الحرية .. شموع أحرقت الماضي القريب والبعيد وأعلنت فجرا جديدا لكل مصري.. فجرا وعهدا أعلن فيه الشعب قرار حريته لحكامنا المرعوبين من شدة ذنوبهم . المختبئين في جحورهم يخططون لمعارك الفتنة والتخوين ليداروا بشاعة جرائم جشعهم لكل ماهو فان من سلطة ومال وجاه .. بالأمس صدحت الجماهير المصرية في ميدان الشهادة والاستشهاد والحرية، تتضرع إلي الخالق أن يبارك بلادي .. وأن يملأ القلوب الخاشعة بالمحبة.. وأنا كلي إيمان أن الله استجاب، ودليلي هو هذه الحشود التي خرجت من الجوامع والكنائس تغني وترتل تضئ الأرض بالشموع .. بالأمس تحولت الأرض إلي شبه السماء المرصعة بالنجوم.. والتحمت أصوات وقلوب الجماهير بأصوات الملائكة في السماء تسبح ليلا ونهارا بلا فتور.. تشكر الله علي عطاياه وعلي تجاربه التي تعيد تشكيلنا وتغير قلوبنا لتصفح وتسامح، ولتتشدد لانتزاع الحق ليس بالانتقام ولكن بقوة السلام .. سلام الله الذي يفوق كل عقل.. حشود ليلة الميلاد وشموعهم نزلت بردا وسلاما علي قلوب أمهات الشهداء.. وأضاءت قلوب من فقدوا نور عيونهم برصاص قناصة مأمورين من حكام مساكين لهم عيون ولا يبصرون، ولهم آذان سدها الجشع عن أنين البشر.. سيعيشون من الآن سجناء رعبهم من خشوع أصوات هذه الجموع، بغناء مخيف هادر رغم روعة عذوبته. أتصور أن سجناء طرة وشركاءهم وذيولهم، قد عاشوا بالأمس ليلة رعب فريدة.. كل شمعة أضاءت الميدان كانت تحرق جلودهم السميكة .. وكل أغنية وترتيلة صدحت ورددتها الأرض والأشجار والمباني وحجارة الطريق، وأسفلت الشوارع الحاضنة لجامع عمر مكرم وكنيسة قصر الدوبارة .. كل حرف وكل معني في هذه الكلمات كان نارا تحولت إلي أتون رعب سقطوا فيه بالأمس ولم ينقذهم رجال تأمينهم المسلحون والمدججون والمتربصون والقناصة والبلطجية . في ليلة عيد ميلاد يسوع المسيح رسول المحبة والسلام .. تحول الميدان إلي مدينة القدس.. شموع الصلاة علي أرواح شهداء كنيسة القديسين، وشهداء الكرامة والحق في الحياة، هذه الشموع أضاءت طريق السلام لكل المصريين .. لهيبها الخافت النافذ للعقل والقلب والروح، حرق الأفكار الفاسدة، وهجها أنار العقول المظلمة لتري بالعين والقلب والفكر أن الله واحد.. وأن الله سامع الصلاة.. رأي وسمع واستجاب وجاء.. حضر ووحد القلوب علي نفس الأرض التي ارتوت بدماء الشهداء، وسجلت حكايات البشر النبلاء .. الله حضر وحول أصوات الرصاص وسحق الدبابات العمياء لأجساد طاهرة إلي تراتيل وأغان معزية ومفرحة ومبشرة بمصر جديدة. بالأمس كان الاحتفال بميلاد وإعلان عهد جديد من الحرية والكرامة والعدل، ولن يتنازل عنه أي مصري.. بالأمس أعلن الشعب لكل خدم وعبيد السلطة والمال، ولكل الأغبياء والمتغابين.. أن الشعب أراد حياة الحرية والكرامة والعدل والسلام ولن يتنازل عنها.. ولن يخاف لأن الله سمع الصلاة الله سمح بالضحايا الشهداء ليشد قلوبنا، ويجعلنا ننتصر علي الخوف من الموت فداء لحياة كريمة.. ويقوي عزيمتنا علي تنفيذ وصاياه التي غفلنا عنها.. وهي أن نحيا بفرح، وأن نعمر الأرض.. لقد فهمنا الدرس القاسي.. وأدركنا أنها مهمة صعبة لكن ليست مستحيلة.. وتنفيذها يبدأ بالمحبة، المحبة هي صانعة السلام، واجتمع الأضداد في التحرير بقلوب تآلفت في محبة، وأعلنوا عهدا جديدا يردون به الإرهاب إلي قلوب من أرهبونا وسحقوا أجساد أولادنا بالدبابات، واقتنصوا نور عيونهم وانتهكوا أعراض بناتنا.. رصاصاتكم أضاءت عيون وعقول كل المصريين .. وشحذت إرادتهم، وأحمت غضبهم عليكم، ووحدت إرادتهم .. لن نحيا إلا بحرية وكرامة وعدل.. سنغني ونرتل ونصدح، سنرهبكم باتحادنا، سنبني ونعمر ونزهر وجه مصر من جديد .. لأننا تغيرنا.. فسادكم وجشعكم وظلمكم وظلام قلوبكم وعقولكم أضاء لنا طريق الحرية والكرامة.. لم نعد قطيعا بليدا يصحو ليأكل طعاما مغموسا في الذل.. ولا بقايا موائد الأسياد اللصوص، نتجرعها حنضلا عسر الهضم .. ثم نغلق عقولنا ونقمع ألسنتنا وننام كمدا، لنصحو أصدقاء لليأس، ونمضي في الحياة مسحوقي الكرامة، كارهين أحلامنا لأن أبسطها مستحيل .. لن نخفي ضعفنا وعجزنا وهواننا في بيوت الله - الجوامع والكنائس - نبثها عجزنا الجماعي سرا وعلنا.. نستنجد بالله، ونتخفف من حمولة الغضب والعجز واليأس وننصرف راضين شاكرين.. ولكن سلبيين خانعين.. لن نكتفي بالدعاء لله بأن يخسف القوم الظالمين ويسحقهم.. سنسحقهم بالمحبة لأننا أدوات الله علي الأرض.. نحن شعبه وجنوده وخليقته وقد أهدانا الحياة لنزرعها خيرا ونرويها محبة، لتثمر فرحا وبهجة، فيضاعف بركته ويمنحنا سلامه. أول مجموعة وقفت بالشموع وملابس الحداد بعد الثورة، كانت في منتصف مايو الماضي في شارع العروبة أمام مكتبة مصر الجديدة .. بدأت بأصحاب المهندس الشاب رامي فخري - 27 سنة - الذي قتل برصاص الشرطة العسكرية فجرا وهو عائد لعمله في بريمة بترول بطريق الإسماعيلية .. رفعوا لافتة تسأل العسكر " قتلتوا رامي ليه " .. تضامن معهم المارة ولكن حتي هذه اللحظة لم يرد عليهم العسكر !!. وتضاعفت أعداد القتلي .. ولكن الشموع لم تنطفئ، بل تحولت إلي موجة وموجات تتزايد وتتصاعد حتي غطت ميدان التحرير وانسابت إلي كل ميدان في مصر، وأضاءت كل القلوب في هذه الليلة التي سجلها التاريخ، وتابعها العالم كله، وباركتها السماء .. وأعلنت ميلاد فجر مصر الجديدة.