بعد ثلاثين سنة مريرة من حكم عسير، وجه طاقة الشعب، بالإفقار والإمراض والتعجيز والإحباط، إلي كسب قوت يومه بشق الأنفس، والانتحار الفعلي في لحظات اليأس، كان منطقيا أن يفقد الشعب المجهد لياقته النفسية والإنسانية، وأن تتولد لديه الذاتية والفردية والانتهازية، وإنكار حقوق الآخرين، والتكاسل والتخاذل عن مساندة الغير لأسباب تتعلق بغياب حقوقه الأساسية ودور الدولة في وجوب تحسين معيشته البائسة. هذا الاختلال المريع في وظيفة الدولة هو ما أفضي إلي قيام الثورة الطاهرة يوم 52 يناير الماضي، والتي تلتها مليونيات تذكيرية ترفع شعاراتها مرة أخري كي لاينساها المجلس العسكري ومجلس الوزراء الرشيد!. ونحن نتفاءل نسبيا بقرارات تفعيل قانون الغدر ووقف حالة الطوارئ، لكننا نتساءل عن تحقيق المطالب الفئوية التي تعتبر تفاصيل مهمة تخص المواطنين الذين قاموا بالثورة، وهي جوهر الأمر كله وسبب الانتفاض والتغيير.. فقبل بضعة أسابيع سمعت عن أغرب قرار لوزير الصحة إزاء اعتصامات الأطباء، وهو قيامه باستيراد أطباء من الخارج لشغل فراغ الأطباء المضربين حرصا منه علي صحة مرضي المستشفيات العامة بالطبع!! فإذا كان الخبر صحيحا، فكم يتكلف إحضار أطباء من الخارج؟ وألا يعد ذلك إسرافا وتبذيرا لميزانية فقيرة أصلا؟ وهل يتكلف تحقيق مطالب الأطباء المعتصمين ما لا تستطيعه الوزارة، التي تعرف ضعف أجورهم الهزيلة واستحالة عيشهم بكرامة علي هذا النحو المهين؟! وإذا كان وزير الصحة يستورد أطباء عالميين لرفع مستوي العلاج فهو أمر محمود جاء في غير وقته.. أرجو أن يكون الخبر خاطئا! وأما القرار الآخر المدهش الذي أذيع علي إحدي الفضائيات العربية فهو اتفاق وزارة الصحة الوشيك مع وزارة الداخلية علي وضع كاميرات تصوير فوق سيارات الإسعاف لتصطاد العربات العنيدة التي يرفض سائقوها فتح الطريق فورا لمرور الإسعاف.. والمعروف أن الاختناق المروري المفزع في مصر، لن يمنح سيارة الإسعاف أي فرصة للسير لأن الإشارات المتكدسة تظل مغلقة لمدة طويلة عصيبة، بينما تكون سيارة الإسعاف محشورة في كومة عربات عاجزة عن الحركة أصلا، فما ذنب أصحاب تلك العربات المشلولة رغم أنفها حتي تتآمر وزارة الصحة مع الداخلية عليهم؟! إن فكرة عقاب العربات لأجل الإسعاف فكرة خائبة، فالمطافئ أيضا تواجه نفس الكارثة التي خرجت عن قدرة الشعب كله وأصبحت من المستحيلات، في ظل التكاثر السرطاني لعدد السيارات، في بلد يتسم نصف أهله بعشق المظاهر والفخفخة الكذابة، والتسابق المحموم علي اقتناء الأشياء الشكلية لمحاولة القفز من الطبقة الاجتماعية المتدنية إلي طبقة أعلي! نعود لمؤامرة الصحة والداخلية، فنذكر وزير الصحة بأن العالم المحترم الذي يقدر صحة الإنسان، يغذي قطاع الإسعاف بوسائل تواصل واتصال حديثة، فهناك الإسعاف الطائر الذي تستخدم فيه طائرات هليوكبتر مجهزة، فحتي لو كانت الطرق خالية، فإن بعض الحالات المرضية تستوجب النقل السريع للمستشفي.. وهذا الأمر ليس من قبيل الرفاهية إطلاقا بدليل أن بعض المستشفيات العسكرية في مصر تستخدم الإسعاف الطائر الخاص بالجيش، وهو مايعني أن هذه الخدمة بالغة الأهمية مهما تكلفت.. فالتبرعات التي تنهال بالكوم علي المستشفيات الجديدة للعلاجات المستعصية كالقلب والسرطان والكبد، تستطيع أن توفر هذه الخدمة.. وتستطيع أيضا وزارة الصحة أن تتعامل معها كخدمة تابعة لها، كونها بالطبع مشرفة علي هذه المنشآت وعلي الأطباء والعاملين فيها. ❊❊❊ فساد الجامعة!! أعرف أساتذة مرموقين »هجوا« وهربوا من العفن المريع في الجامعات المصرية التي كانت عريقة، قبل أن ينخر سوس الفساد الجريء فيها.. كتيبة من المعيدين الأوفياء لرئيس قسم، يعملون في ورشة أنشأها الرجل المنحرف لإعداد وبيع رسائل الدكتوراه بمبالغ خيالية، للقادرين علي الدفع بالعملة الصعبة!! ومعظمهم من دولة عربية بترولية!! ثم يترأس منصة الأساتذة المختارين لمناقشة الرسالة التي أعدها بنفسه! ويمنح الطالب المتآمر معه امتيازا مع مرتبة الشرف! فهل في هذا الفعل أي شرف أو كرامة أو دين؟! وأما المعيدون الذين رباهم علي دناءته وانعدام ضميره الإنساني والمهني، فيواصلون ضخ الفساد في الطلاب الجدد!! لتستمر الدورة الآسنة تأكل الضمائر وتقتل العلم وتعتم العقول وتضع الجامعات المصرية في أحط المراتب العالمية! والآن.. في ثنايا المشهد الجامعي المرتبك، تحاول الجراثيم التي عاشت أزهي عصورها تحت رعاية الحزب الوطني ورئيسه المتمارض، أن تلتهم الفورة الثورية للطلبة الأطهار، وكتيبة الأساتذة الشرفاء الذين يرفضون مواصلة المسيرة التعليمية والثقافية في وجود هؤلاء الملوثين، الذين لازالوا يرفضون استيعاب مشهد رئيسهم المسجي في القفص، وينتظرون أن يتبدد كابوس الثورة الذي خلع أقنعتهم وأظهر فداحة قبحهم وأقسم أن يمحوهم بلا رجعة، حتي تتطهر مصر! تلك هي ثورة التعليم الحتمية! ❊ علي أعتاب الانتخابات .. مايزال حق المصريين المغتربين في المشاركة بها ممنوعاً ومحظوراً بلا أسباب منطقية.. فباستطاعتهم المشاركة عبر صناديق تخصص لهم في القنصليات والسفارات، ويتم اختيار عناصر قانونية منهم للفرز إذا تعثر إرسال النتائج إلي مصر، والطريقة كلها عقيمة ومجهدة والأجدي منها أن يستخدم لأجلهم التصويت بالكمبيوتر وهو جائز معمول به في دول عديدة وأكثر نزاهة ودقة من لعبة الورقة والقلم والصندوق والفرز المشبوه، المهم أنني تابعت إعلاناً محزنا عن مجموعة من المغتربين العرب بالخارج، كل منهم يؤكد قيامه بالمشاركة في انتخابات بلاده لأهمية ذلك الأمر في بناء مستقبلها، وعندما يجيء دور المواطن المصري المغترب، يذكر اسمه وأنه يعيش بالخارج، ثم ينقطع صوته عن الشاشة، ويظل يتكلم دون أن نسمعه، بينما تنزل أسفل صورته جملة تقول إن المصري المغترب ممنوع من المشاركة في انتخابات بلاده!! رغم دعوته الدائمة من الحكومة والإعلام لاستثمار أمواله في وطنه الأم والتبرع لنهضته وتقدمه!!