كثيرون لا يعلمون أن شهرة مصر في زراعة الزهور وخاصة الورد البلدي وزهور »الكرزنتم» تخطت كافة الحدود، ففي قرية صغيرة بالقناطر الخيرية (25 كم من القاهرة) تقع »عزبة الأهالي» وسميت بهذا الاسم نظرا لكون أهل القرية ينتمون لعائلة واحدة ولا يتزوجون من خارجها ما ساعدهم علي تدعيم أواصر الصلة بينهم وليس هذا فقط فتوارثوا زراعة الورد وأدخلوا عليها أنواعاً جديدة ليصل عدد الفدادين المنزرعة بالزهور إلي 50 فداناً.. لكن نتيجة الظروف الاقتصادية وتراجع معدلات السياحة تشهد القرية حالة كساد. منذ أن حط محمد علي برحاله في مصر وفكر في إنشاء قناطر تحفظ مياه الفيضان المهدرة في البحر وأحاطها بمساحات شاسعة من الحدائق والمتنزهات وأدخل زراعة الورد البلدي والقرنفل ولكن بنسب محدودة حتي أوائل الثمانينيات عندما فكر أهالي العزبة في زراعة محصول يدر عليهم دخلاً كبيراً ويلائم تربتهم الطينية العفية فبدأوا بزراعة زهور الكرزنتم التي استوردوا بذورها من هولندا وانتشرت بشكل كبير واستطاعوا بخبرتهم الكبيرة تهجين عدة أنواع منها ليحصلوا علي زهور متنوعة ألوانها كالأصفر والوردي والأبيض؛ وغيرها من الألوان المبهجة، كما زرعوا الورد البلدي ذا الرائحة القوية، والذي تستطيع جذوره وسيقانه البقاء بالأرض لأكثر من خمسين عاما ونجحوا في تصدير إنتاجهم إلي الدول العربية كليبيا والسعودية التي كانت تتهافت علي إنتاجهم وتستورده بآلاف الدولارات إضافة إلي دول شرق أوربا التي تعتبر تلك القرية الصغيرة ملاذهم في حال تعرض المزارع الأوربية لموجات من البرد القارس ودمار زهورها. لكن تبدل الحال فبعد كساد السياحة الداخلية وتوقف نشاط معظم القري السياحية والفنادق التي كانت تهتم بشراء الزهور إضافة إلي ارتفاع سعر الدولار في الشهور الأخيرة أدي إلي كساد تجارة الزهور وتبوير عشرات الأفدنة ارتفعت أجرة العامل باليوم الواحد لتتعدي المائة جنيه وإيجار حضانات الزهور التي لابد من تواجدها بكل مشتل حماية للورد وتفريخ أصناف جديدة قد تخطت الحدود لتصبح زراعة الورد بالعزبة في خبر كان وباتت علي وشك الاختفاء وتفقد شهرتها العالمية. عشرات الأفدنة المتناثرة يمينا وشمالا بالعزبة مزروعة بأنواع عدة من الزهور كسرو الليمون وهي أشهر أشجار الزينة بالعالم وتمتاز بلونها الأخضر الزاهي وتعد مدينة كاليفورنيا موطنها الأصلي وتم جلبها للعزبة من قبل أحد الألمان الذي جاء لزيارة العزبة ووقع في غرامها منذ اللحظة الأولي ونشر زراعة تلك الشجرة خاصة أنها تلقي رواجا كبيرا بموسم عيد الميلاد ورأس السنة وليست تلك الشجرة فحسب فهناك زهور »الداليا» والتي تستخدم في تزيين قاعات الزفاف وإعداد بوكيهات الورد وتتنوع ألوانها ما بين الزهري والأرجواني والأحمر وهو مكسيكي المنشأ إضافة إلي نباتات الصبار بأنواعها العديدة كصبار »أذن الفيل»، الذي يتخذ اللون الأحمر، وصبار الكلانشو وهي عائلة كبيرة تختلف في ألوانها ما بين الأحمر والأبيض وفي ملمسها ما بين الأملس والقطيفة, ومن الناحية الأخري تداعب أنفك رائحة زكية تحمل عبقا مميزا فتنشر عبيرا يزيد الورد البلدي بهاءً وبالرغم من تنوع الورود من حيث ألوانها وزهائها تظل الوردة البلدي صاحبة الطلة القوية ومحتفظة بعرشها فرائحتها القوية تدوم لعدة أيام علي عكس الأنواع الأخري التي تفتقد لتلك الرائحة والكثير من السياح يتهافتون عليها ويطلبونها خصيصا بالاسم كما أنها تشهد رواجا في المواسم المختلفة كالفلانتين وعيد الأم ورأس السنة وشم النسيم والذي يعد بمثابة العيد السنوي وموسم حصادها فيقبلون علي الورود الحمراء والتي لا تعني سوي العشق والهيام وتليها البيضاء أي الوفاء والإخلاص ليثبت المصريون للجميع أنهم شعب محب للجمال ولا يتواني عن شراء الورود. أما زهرة »الكريز أو الكرزنتم» كما يطلق عليها المزارعون تعد الزهرة الأكثر شهرة بالعزبة وتتم زراعتها في مساحات شاسعة ولا تحتاج لنموها وجنيها سوي ثلاثة شهور بالشتاء وشهرين بالصيف وتم جلب بذورها من هولندا وتتعدد ألوانها لتصل إلي أكثر من خمسة ألوان ويطلق عليها لقب »ملكة الخريف» فتزهر في فصل الخريف ويتهافت عليها أصحاب محلات الورود خاصة لتنوع أسعارها فتبدأ أسعارها من 5 إلي 20 جنيهاً، لتكون في متناول الغني والفقير، ولعل زيارة بعض الخبراء الهولنديين للقرية في 2010 لمتابعة نشاط نمو تلك الزهرة فقرروا تحويل العزبة إلي بورصة زهور، كمثيلتها في هولندا. يقول المهندس أحمد هاشم صاحب أحد المشاتل: تتنوع الأزهار والأشجار المزروعة بالعزبة فأشهرها الجهنمية وهي شجرة كرواتية المنشأ وجاءت إلينا عن طريق أحد السياح الألمان الذي كان في زيارة لقريتنا بعد أن وصلت شهرتنا للمحافل الدولية وهناك شجر الجارونيا والأوفوليا وبنت القنصل والسلفا الحمراء والزرقاء، كنباتات للزينة ويعد موسم رأس السنة وعيد الميلاد موسم ازدهارها إضافة للنباتات العطرية كالقرنفل والليليام فتعدان علاجا فعالا للعديد من الأمراض خاصة الجروح وآلام الأسنان ولكن تبدل الحال فبعد ارتفاع سعر الدولار وتعويم الجنيه كنا نصدر للدول العربية كليبيا والسعودية وعمان إضافة لعدة دول أوربية أصبح الحال متوقفاً تماماً ناهيك عن شبح الحرب المطارد للعديد من بلادنا العربية وليس هذا فحسب فارتفاع سعر الدولار جعل من الصعب علينا استيراد أنواع جديدة من البذور خاصة أننا نجلبها من هولندا وألمانيا. ويضيف أحمد: وبعد أن كسدت حركة السياحة الداخلية وقلت نسبة الإشغالات بالفنادق والقري السياحية خسرنا مصدرا كبيرا من مصادر دخلنا حتي أننا لم نعد نجد أجرة العمالة المدربة والتي ارتفعت إلي 120 جنيهاً يومياً إضافة لارتفاع أسعار الكهرباء والمياه فحضانات الكرزنتم لابد من ضبطها علي درجة حرارة منخفضة منعا لذبول السيقان والجذور وموت الزهرة كما أن هناك ثلاجات كبري تخزن بها لحين توريدها للتجار وتحتاج نسب مياه كبيرة تنساب إليها من خلال خراطيم تحت الأرض مما يزيد من تكلفة زراعتها وهناك مادة كيميائية يتم رشها علي السيقان لتحفيزها لإنتاج الزهرة نعاني لإيجادها كثيراً وبأسعار غالية جداً، لذا نطالب وزارة الزراعة بتوفير تلك المواد في منافذها وبأسعار معقولة. ويلتقط طرف الحديث »عبده رزق» صاحب أحد المشاتل قائلاً: انتشرت زراعة الورد بالعزبة منذ بناء القناطر الخيرية فقام محمد علي بإدخال زهور القرنفل والريحان والورد البلدي لكن انتشرت الزراعة في بلدتنا في الثمانينيات بقيراطين فقط وبعد نجاح التجربة سرعان ما انتشرت كالنار في الهشيم وزرعها الكثير من الأهالي بديلة لمحاصيل أخري كالقمح والقطن نظراً لمكاسبها الجمة ويبدأ موسم زراعة الورد البلدي بشهر فبراير ودرجة الحرارة المثلي لزراعته هي ست عشرة درجة ليلاً، وعشرون إلي ثمانٍ وعشرين درجة نهارا، وارتفاعها يؤدي إلي احتراق الأوراق والذبول وانخفاضها يضعف النمو أما من حيث الرطوبة الجوية فيجب ألا تقل عن سبعين إلي ثمانين بالمائة وزيادتها تؤدي للإصابة بالأمراض الفطرية، ونقصها يؤدي للذبول والجفاف حيث إن تلك الزهرة الأكثر عرضة للأمراض مما يستلزم علينا شراء المبيدات المستوردة والأسمدة التي لا نجدها سوي في السوق السوداء بأسعار غالية. ويرجع سبب غياب رائحة الورود المميزة إلي جشع التجار فيقول: قديماً كنا نزرع زهوراً ذات رائحة، لكن المحلات والموردين أحجموا عن شرائها لأنها لا تحتفظ بجمالها أكثر من ثلاثة أيام في المحل بعدها لا تصلح للبيع؛ لذا أصبحنا نزرع الزهور بلا رائحة التي يقبل عليها الموردون ويمكنهم عرضها بالمحلات لعشرين يوما كما أننا نحاول تعويض التكلفة التي نتكبدها كما أننا لم نعد نشترك في معارض الربيع بالقاهرة بسبب ارتفاع الإيجار فيصل الإيجار إلي ألفي جنيه للمتر الواحد وارتفاع تكاليف النقل فلم يعد السائق يجد أن تكلفة النقل مجدية فارتفاع سعر البنزين منعه من ذلك. ويختتم حديثه قائلا: بالرغم من كافة المعوقات التي نواجهها إلا أننا لا نحصل علي دعم من وزارة الزراعة متحججين بكون أن المشاتل وزراعة الورود ليست زراعة أساسية فإذا ما خسر صاحب المشتل أو تعرضت زراعته لكارثه فإنه لا يجد دعماً أو سنداً.