ما سر فضح الإخوان لأنفسهم بإعلان إنتهاجهم العنف والتصعيد التام ضد الدولة في هذا التوقيت بالذات؟. اللعبة القديمة للإخوان في ممارسة العنف، كانت بالدفع بأجنحة سرية ك»التنظيم الخاص» لتسوية خصومات الجماعة مع السياسيين والحكومة والقضاء بالدم.. يتبرأ حسن البنا من اغتيال الوزراء والقضاة في أربعينيات القرن العشرين، ويقول عن الفاعلين ليسوا إخوانًا ولا مسلمين، بيد أن الجناة نالوا التعليمات من قيادات عليا في التنظيم..، بعضهم كعبد الرحمن السندي جزم صراحة بأنه كان ينفذ أوامر رأس التنظيم في التخلص من خصومه السياسيين. في مرحلة تالية، ومع اشتعال العنف والإرهاب المحلي والعالمي بأفكار سيد قطب، تعدلت اللعبة لتتبرأ من تأويلات كتابات الأب الروحي الثاني للجماعة، بيد أن أفكاره المعتمة لا تستدعي أي تشتت أو عدم فهم، إذ إنها صريحة في تكفير المجتمع بعد الإقرار بجاهليته.. أما اللعبة الآن، علي الأقل من جانب جناحات تري في التصعيد العنيف ضد الدولة وسيلة ناجعة لهزيمة النظام الحاكم، فقد تبدلت تمامًا، حيث صار العنف من جانب اللجان النوعية الإخوانية، المنسوب تأسيسها إلي قيادي التنظيم المقتول في مواجهة مع الأمن قبل شهور قليلة، محمد كمال، مبررًا كنتيجة ليأس جماعي مما يشيرون إليها باعتبارها سلطة الانقلاب. ومن ثمَّ صارت المعادلة حسب الرغبة التنظيمية، هي عدم الإعلان صراحة حتي من جانب الكماليين الجدد عن تبني عمليات اللجان النوعية، والتعاطي معها تجاه الدولة والمجتمع؛ باعتبارها فعلًا غير مسيطر عليه من قبل القادة، كان ولا يزال بعض شباب التنظيم يمارسونه دون أي تعليمات مباشرة من قبل الجماعة. »ذلك بعينه الحق الذي يراد به الباطل»، يقول أحمد بان، الخبير في حركات الإسلام السياسي.. فصحيح في الإخوان اليوم جناح يقوده المحافظ والصقر القديم محمود عزت نحو التصالح والمهادنة مع الدولة بحثًا عن مخرج ينقذ قيادات السجون ويحافظ علي التنظيم من التفتت. وصحيح أيضًا أن جناح الكماليين يشرع العنف سياسيًا وفقهيًا لكنه يأبي الاعتراف به علنًا؛ كي لا يخسر التعاطف الموجه من قبل الخارج مع الجماعة وضد سلطة ما بعد 3 يوليو 2013 وفي الوقت نفسه يترك مساحة تنفيس للقواعد المنخرطة تحت لوائه بعيدًا عن قيود السمع والطاعة الصارمة، بحيث تصبح السيطرة علي غضبها صعبًا ظاهريًا، ويكون نشاط بعض عناصرها- ضمن كيانات العنف الجديد مثل حسم ولواء الثورة ولجان المقاومة الشعبية وما شابه- مبررًا. غير أن ذلك لا يعني أنه فقد السطوة التنظيمية علي تلك العناصر، فبكلمة من الكماليين الذين يعملون الآن تحت إمرة محمد عبد الرحمن المرسي، يمكن لجم كل هؤلاء. يقول بان »الجماعة تريدهم غاضبين موتورين يفجرون ويضربون ويروعون، وكله ضغوط علي الدولة وكروت لمساومتها، ولا مانع لو كانوا سببًا في محاولة إسقاط السلطة». علي هذا فما جاء في بيان شباب التنظيم مؤخرًا من إعلان استمرار التمسك بالعنف كخيار استراتيجي يبدو متناسقًا مع السيناريو المشار إليه أعلاه. بيانهم كان واضحًا: لن نضع السلاح جانبًا.. فحسب رأيهم فإن المواجهة مع الدولة لا تنحصر في السلمية أو الحرب المفتوحة: »بين السلمية والمواجهة الشاملة محطات كثيرة يمكن أن يتم استنزافه فيها»، وأن »العمليات النوعية مرحلة وسط بين السلمية والصدام». يرون كذلك أن »جهاد الدفع الموجه للمنافقين وعملاء الأعداء في بلاد المسلمين يجب ألا يتأخر»، معتبرين أن أحاديث السلمية صارت بالية. ما يجري الآن من إعلانات واضحة من جانب شرائح وطبقات إخوانية بتبني العنف، هو نتاج موجه لرغبة داخل التنظيم في الإيحاء بأن لديها ما يحرق الأرض فعليًا، وهو ما ينذر بمزيد من العنف قادم في الطريق. واستدعاء شباب الإخوان من الكماليين، لأحاديث العنف وإيمانهم به تجاوز حدود عدة، منها ما بدا متناسقًا مع الموجة الداعشية العنيفة وعلامتها المميزة »الذئاب المنفردة»، أو »الخلايا الصغيرة»، كما هو الحال مع جماعات كحسم وأخواتها. في هذا الإطار مثلا، يجزم نائب المرشد الأسبق المنشق، الدكتور محمد حبيب، بأنه لم يعد هناك أي خلاف علي الأرض بين الإخوان والجماعات الإرهابية المسلحة، وفي مقدمتها داعش، علي أساس أن الجميع ممول ومدعوم سياسيًا من قوي إقليمية ودولية لضرب الدولة من جهة، فيما اختلطت الأفكار بين جميع الفصائل وتلطخت بالدم وحديث التكفير واستدعاء نفير الجهاد الأعمي من جهة أخري. اللجنة الشرعية للإخوان المحسوبة علي الجناح الكمالي التصعيدي، والتي يتردد أن مفتي الجماعة المحبوس، الدكتور عبد الرحمن البر، هو من وضع لبناتها الأولي، تتبني خطاب داعش ذاته، فقالت منذ فترة ليست بالبعيدة نصًا في شرعنة حمل السلاح ضد السلطة: »الحكم الشرعي في مسؤولي الدولة الحاليين هو وجوب المقاومة، بكل أشكالها وأنواعها، لأنها فطرة، وحق، وواجب شرعي، وبها تتحقق سنة التدافع التي بدونها تفسد الأرض، وقلنا إن المقاومة بدايتها إحداث للنكايات وإن قلت الإمكانات، ثم بعد ذلك توازن الخوف والرعب، ثم بعد ذلك النزال والحسم، وأصلنا لذلك من الكتاب والسنة والفقه». المفاجأة أن الفكر الداعشي التكفيري المتعصب المتطرف متأصل في العقل الإخواني منذ عقود طويلة، غير أن شعارات التقية وألاعيب السياسة حالت دون الإفصاح عنه، ومن ثم التزام فقه الجهاد المؤجل الذي سلكه من قبل سيد قطب. الباحث الراحل حسام تمام يقول عن التسلف الصارخ المسيطر علي فكر الإخوان، والذي لا يؤدي إلا إلي مزيد من الانغلاق والظلامية، إنه مما لا شك فيه فإن عمليات الفرز الداخلي في الإخوان وظهور المكون السلفي في الجماعة كان له دور بالغ الأهمية في الإفصاح عن مكونات وتيارات داخل الجماعة بدأت تفقد قدرتها علي التعايش في الجسم الإخواني الممتد وإن لم تكن قد وصلت بعد لحالة الصراع (اختلف الوضع الآن بعد 25 يناير و30 يونيو)، وبالتالي تداخل بين التيار القطبي الذي مازال أسير مقولات العزلة الشعورية وبناء الجيل القرآني الفريد في تكوينه وتربيته بإزاء المجتمع الذي ينظر إليه باعتباره جاهلياً أو فيه من الجاهلية، وبين الأفكار التنظيمية التي تولي أهمية بالغة للتماسك التنظيمي وتتحكم في عمليات الفرز والتصعيد، وكذا بين التوجهات السلفية الصاعدة التي تسير نحو مزيد من المحافظة. حسب تمام أيضًا فإن الجماعة ستفقد كثيراً من مرونتها ومن قدرتها علي ضمان التنوع الداخلي في البيت الإخواني باتجاه مزيد من التنميط والمحافظة الذي ستتعاضد فيه المكونات التنظيمية والقطبية والسلفية، ما يؤدي في النهاية للقضاء علي مشروعها السياسي وربما الدعوي.. علي هذا النحو صار الإخوان الممثلين الأساسيين للسلفية الجهادية في مصر (زعيمها الأبرز في أرض الكنانة هو القيادي المفرج عنه قبل أشهر قليلة محمد الظواهري، شقيق زعيم القاعدة أيمن الظواهري)، والتي يشار إليها باعتبارها المعين الرئيسي لأفكار الجماعات الدينية المسلحة، فنظرة واحدة لأدبياتها تكشف أنها أصبحت مرادفًا مرتبطًا بالجماعة التي لا تزال تدعي السلمية علي غير الحقيقة. فوفق الباحث والأكاديمي العروبي المعروف، الدكتور أكرم حجازي، في كتابه القيم »دراسات في السلفية الجهادية»، فإن مصطلح السلفية الجهادية برز منذ نهاية الثمانينيات، مع صعود بعض جماعات الإسلام السياسي والتي تتبني الجهاد منهجاً للتغيير، ويعتبره وجوبياً علي كل مسلم، سواء ضد العدو المحتل، أو ضد النظم الحاكمة المبدلة للشريعة الإسلامية بالقوانين الوضعية، وهو ما يردده الإخوان وشبابهم ولجانهم النوعية الكمالية هذه الأيام.