❊❊ لم أكن أتصور نفسي لصا في يوم من الأيام. نشأت في جو فطري بالريف، وكنت أصلي وأصوم وأتعامل بطيبة مع الناس، لكن كانت لدي فوق الطموح "حتة طمع" بالسعي دائما لمنصب أكبر من إمكانياتي.. وكان السر في ذلك أقربائي بالأجهزة الأمنية، التي تأمر وتنهي وتدني وتقصي، وتعد يد الحاكم الفعلية الملفوفة بقفاز من حرير يخفي تحته الحديد والنار والنهب والسلب والكذب والخداع، أو أدوات الحكم السرية السائدة بذلك العصر من الفساد غير المسبوق. ولم يكن تعييني في المنصب الكبير بالمؤسسة الصحفية المفاجأة الوحيدة فأنا لست صحفيا ولا حتي إداريا.. المفاجأة الأكبر كانت الرسالة التي صاحبت إبلاغي بالقرار: لا تقترب من ملفات رئيس المؤسسة السابق ولا تلتفت لكل ما أثير حول فساده.. وعلي الفور قفزت لسطح ذاكرتي واقعة عاصرتها قبل سنوات.. فقد فوجئنا بتقرير أصدره جهاز رقابي كبير متضمنا مخالفات موثقة بعدم وجود فواتير خاصة بهدايا غالية وثمينة اشترتها المؤسسة لكبار المسئولين، وكادت تحدث أزمة وفضيحة كبري، شبيهة بفضيحة سابقة خاصة بقطعة أرض، لكنني فوجئت بأن نفوذ سلفي رئيس الصحيفة أكبر كثيرا مما تخيلت، فإذا برئيس الجهاز الرقابي يأتي ليزوره بالصحيفة بأوامر عليا طبعا ثم تختفي صفحات الهدايا من التقرير ويتم التكتم علي الفضيحتين.. ولم يعد لدي أي شك مطلقا أن الفساد مطلوب ويتمتع بحماية تشبه حصانة مجلسي الشعب والشوري.. ومنذ تلك اللحظة لم أكذب خبرا وطردت التردد والخوف من قاموسي، ولم أضيع ثانية دون تنقيب وتقليب فيما يمكن أن تطاله يدي وجيوبي وحقائبي وحساباتي بالبنوك من مال المؤسسة العام، الذي يبدو فعلا أنه بلا صاحب.. (1) استعنت بنفس مستشاري السوء وأبالسة التخطيط والتنفيذ الذين كانوا يديرون الفساد لصالح سلفي السابق الرهيب، وكانوا من الخبراء المهرة المماثلين للمافيا التي تضع ألف ستار لإخفاء عملياتها.. لكنني لم أكن أدرك أن هناك فرقاً بين عضو عامل ومؤسس أوزعيم في مافيا، وبين عضو منتسب.. ويبدو أنهم كانوا "مدركين" بدليل أنني الآن في الحبس وهم أحرار، فبعضهم مازال مسئولا في عمله دون تغيير تحتمه الثورة، وبعضهم توفاه الله وتحرر نهائيا، وبعضهم يدعي البحث عن العدالة والدفاع عمن يسميهم "المظلومين" وكان دوره باستمرار "العقل المدبر لشيوخ المنسر".. والأهم منا جميعا زعيمنا نفسه الذي هرب بسهولة غريبة، رغم خضوعه لتحقيقات في بلاغات وإدلائه بأقوال وشهادات، ورغم قيادته لكل عمليات الفساد بالمؤسسة منذ بداية انحراف النظام، وهي ما تكفي كأسباب لسجنه أضعاف أضعاف ما وقع مني وأودعني في أول تحويل بعد الثورة مع بعض الوزراء أمام الجنايات.. ومن دواعي عجبي من وراء القضبان أن يتم التعامل مع الفساد بمؤسستنا وحسابه ومحاسبته منذ فترة رئاستي فحسب وكأن ما نهب منها قبلها بسنين أو حتي أيام ليس بمال عام! وأعترف بأنني "زودت العيار حبتين" في حجم الهدايا الفاسدة التي سرت فيها علي طريق سلفي، فقد كنت أرغب مثله في ضمان الاستمرار بالمنصب الرهيب بالإغداق علي الكبار وأسرهم ومعاونيهم، لكن مستنداته يتم إخفاؤها أو تغييرها بينما يتم ضبطي وفضحي علي رءوس الأشهاد، وتنشر الصحف قائمة كاملة بالهدايا والكبار جدا الذين ذهبت إليهم.. ونفس الشيء يتم في العمليات الأخري لبيع وإهدار ممتلكات وأموال المؤسسة فأقع أنا وينفذ هو بجلده.. إنني أكاد أصاب بالجنون: فهل هذه حالة ينطبق عليها المثل "قليل البخت يلاقي العضم في الكرشة" أم أن الفساد درجات ومازال بعض منه ساريا ومحميا للآن؟! وما السر في أن الكثيرين استطاعوا الهرب حتي بعد زوال مفاجأة الثورة، بمعني أن الضرورة كانت تحتم التحفظ علي هؤلاء الفاسدين الكبار، المتوافرة ملفاتهم المتخمة بالطبع.. وهل يمكن أن تكون مسألة المقبوض عليهم وأنا منهم هي مجرد نماذج لم يكن من السهل تفاديها في البداية.. ومن الممكن أن نكون بمثابة كباش فداء للآخرين؟! (2) أعترف أن علامات استفهامي حول ما يحدث للبعض دون غيره لن تعفيني من المسئولية، لكن من المفروض بعد الثورة أن تتم العدالة وأن نصبح دولة قانون يطبق علي الجميع إذا ما أردنا التقدم والنهضة لبلادنا.. أما لو بقينا "خيار وفقوس" فقل يارحمن يارحيم.. وعن العملية الكبيرة اليتيمة التي تلاعبت فيها بالمال العام أقر وأعترف: كان تسلمي رئاسة المؤسسة مفاجأة كاملة لي، وكان رئيسها السابق المسنود القوي يعد لبيع قطعة أرض شاسعة بنفس الطرق التي سبق له البيع بها لأراض أخري في حوزة المؤسسة، وكان معه مستشاروه وهم أنفسهم الذين أكملت معهم الطريق، ولأن تخصصي فني هندسي فلم أكن أفهم في الجوانب القانونية والبيع والشراء فاستكملت البيع الذي ظهرت به مخالفات كثيرة، لكن القانوني المتخصص كان يطمئنني، وهو الذي تولي كل شيء تقريبا كما تولي مثيلاتها منذ بدأت لعبة الأراضي التي أسسها سلفي، وأكد لي بالمستندات أنه سد جميع الثغرات القانونية التي يمكن أن نتعثر فيها مستقبلا.. وقد حصل كل منا علي حقه كمكافآت بمستندات موقعة، واتفقنا علي محو أثرها من الميزانية الختامية وتسجيلها تحت بند مختلف لا يمت لأسمائنا بصلة.. أما الأنصبة الأخري الكبيرة غير الموقع عليها فهذه ليس محلا للتسجيل بالمذكرات.. الآن أجد نفسي وحيدا من المؤسسة داخل المحبس وأصبحت المتهم الوحيد منها رغم أن شركائي الموقعين علي المكافات ضبطت مستنداتهم مثلي تماما.. من المؤكد أنني بحكم منصبي فاعل رئيسي، لكن المبالغ الضخمة المهدرة التي يصعب ذكر تفاصيلها مازالت مشاعا بيننا جميعا كشركاء في كل المراحل.. ويبدو أنه كان نوعا من الغباء أو التوتر لا أعرف أنني عرضت تقديم مبلغ ضخم حتي يتم إخراجي من الجناية كما حدث مع شريكي الذي اعترف بتلقيه مبلغاً كبيراً كإكراميات ورشاوي سيقدمها لأطراف أخري وقدم بالمبلغ شيكا فوريا يدينه جنائيا، لكنه ومعه الآخرون أصبحوا طلقاء خارج القضية ومازلت غير مستوعب لذلك بالمرة، خصوصا بعد ظهور بعضهم مدافعا عن أعتي المتهمين والبعض الآخر هاربا خارج البلاد رغم أنه مطلوب قضائيا في بلاغات أخري كمتهم رئيسي.. أرجو أن يشرح لي أحد المختصين ما إذا كان خروج هؤلاء سليماً قانونيا ولماذا لم تطبق علي حالتي لو كان الأمر كذلك؟! (3) جعلتني أرباح بيع قطعة الأرض المهولة أعتقد أنه من السهل حصولي علي قطع أخري شبيهة بالقطع الكثيرة التي حصل عليها سلفي، لكنني تأكدت أن له مكانة وقدرات خاصة وسرية لا أستطيع الوصول إليها، واضطررت للجوء لطرق أبواب أخري تضمن لي التربح والاستمرار لأطول فترة ممكنة للاستفادة بأموال هذه المؤسسة الكبري، خصوصا أنه مازالت بعض الأراضي متبقية من جهود سلفي، وإن كانت أرباحها لن تكون كاملة لي، باعتباره لا يزال ومجموعته شركاء، وذلك من خلال عضويتهم بالشركة الاستثمارية التي أسسها مبكرا لتكون كالمغارة بعيدة عن عيون الصحفيين الفضوليين من أصحاب مهنة البحث عن المتاعب.. وتعمدت زيادة ميزانية الهدايا لتصل لحوالي مائتي مليون جنيه خلال مدة رئاستي، بينما كانت حوالي مائة مليون في آخر سنوات رئاسة سلفي، وكان هدفي ضرب عصفورين بحجر.. من ناحية أضم المزيد من الكبار الذين يضمنون بقائي بمنصبي بالمخالفة للقانون وييسرون فتح الأبواب لقضاء مصالحي الأخري.. ومن الناحية الأخري أخصص جزءا كبيرا من تلك الميزانية لنفسي، خصوصا أن المحاسبة لاتكون جادة، مهما انكشفت الأسرار أوتسربت المستندات.. وللحقيقة فقد كنت أخصص أكبر مبلغ من ميزانية الهدايا للرجل الكبير وأسرته علي نفس طريقة سلفي، لكنني أعطيت اهتماما خاصا لناظر عزبة الصحافة والإعلام فأغدقت عليه وعلي أسرته وابنه من المعادن النفيسة والمقتنيات والسيارات الفخمة ما لفت انتباه الكثيرين، كما رتبت معه عملية لا أعرف إن كانت ستتم لنهايتها أم لا، علي الرغم من أن أمرها لم يعد هاما الآن لأن الرجل حبيس الآن مثلي.. ملخص العملية أنني لمحت في عينيه إعجابا بموقع وقيمة قصرين قديمين مخصصين كمقرين لمؤسستين صحفيتين.. القصران يقعان بمنطقة راقية للغاية وبجوار نيل وسط العاصمة، وطلب مني الترتيب لإخلاء القصرين من العاملين بهما بحجة أنه لا يوجد ما يسدد الرواتب وستفلس المؤسستان.. وتم ترتيب أن ينقل الصحفيين لصحف كبري تستطيع تحمل تكاليفهم، بعد فترة وجيزة من النقل.. أما الفنيون والمعدات والمباني فيتم دمجها في شركة حكومية صرفة ليس بها صحفيون، عندئذ يسهل التصرف في القصرين كما يريد وتسد خاناتهما بأقل تكلفة بالأوراق الحكومية وتذهب "القشطة" إلي حيث يشاء.. وقد رتبت معه كل شيء لأضمن رضاءه التام، وقد أوفي وعده بالفعل ومد لي خدمتي حتي فوجئنا بعفاريت من الإنس تلجأ فجأة للقانول للحكم بالعزل وإنهاء الخدمة رغما عن الجميع! (4) كانت مؤسستنا الأقوي مهنيا بين الصحف الحكومية المسماة عرفيا بالقومية، وكان صحفيونا يهتمون بالمهارة الصحفية قبل كل شيء، إلي أن بدأ سلفي في الدخول مجال البزنس بشكل خفي مع عدد من المسئولين الرسميين وأبناء الكبار، وهنا بدأ الاهتمام بالمشروعات الاستثمارية والتجارية، دون النظر لسماح القوانين بها من عدمه.. إذ إن قانون الصحافة يسمح فقط بالاستثمار في الأنشطة المرتبطة بالمهنة من طباعة ونشر وتوزيع وإعلانات، لكن للأسف كل شيء صار مباحا في ذلك العهد الذي انقلبت فيه كل المعايير، وظهر للجميع أن عمليات المؤسسة للاتجار في الأراضي توسعت كثيرا وتشعبت لتتجاوز المناطق الرئيسية بالقاهرة والإسكندرية إلي مناطق بعيدة بالغردقة وشرم الشيخ ومرسي علم، وهي مناطق شهيرة بالمشروعات السياحية الكبري، وهو النشاط الذي تعلمه ودرسه سلفي السابق حتي التعليم قبل الجامعي بالخارج، وكنت مشاركا رئيسيا بهذه الأنشطة رغم عدم خبرتي بها، عندما ضمني سلفي للشركة المختصة بهذه الاستثمارات الجديدة علي المؤسسة.. وللحقيقة لم تستفد المؤسسة ولا العاملون بها بهذه المشروعات علي الرغم من أن السبب الذي حصلنا به علي الأراضي كان إقامة مشاريع لصالح هؤلاء العاملين.. وكان الهدف الحقيقي من تلك المشروعات هو تحقيق الأرباح والمصالح الشخصية وإن كان يتم باسم وشهرة المؤسسة وجهود العاملين بها.. الأغرب أن الاهتمام بكل ماهو غير صحفي بمؤسستنا امتد إلي أن وصل للنشاط الفني.. فبدأ سلفي وأنا علي دربه من بعده في إقامة حفلات فنية وغنائية للمطربين والمطربات وحجتنا واحدة هي تحقيق دخل للمؤسسة، وكأن المال أصبح هدفا في حد ذاته ولو من أنشطة غير صحفية، فلم يكن هناك من حرص علي متابعة التطور والانتشار السريع الذي كانت تحققه الصحف الجديدة المستقلة .. ولم يكن هناك من يحاسب المرضي عنهم والمقربين من الكبار من رؤساء المؤسسات.. كانوا يتصرفون كيفما شاءوا.. ومن عجائب القدر الآن أنني حبيس الجنايات في قضيتين بينما مؤسسو ومبدعو الفساد بالمؤسسة طلقاء رغم وجود مستندات تسد عين الشمس تخصهم.. فهل هو سوء حظ.. أم خيار وفقوس.. أم أنني لم أفهم الرسالة عند تعييني.. أم أن هناك قوة غامضة خفية تحمي هؤلاء؟!