الارتباك والتوجس عنوان الحالة الراهنة لأغلب الذين يعتنقون الاستنارة الدينية ، ويؤمنون باحترام الخلاف وتمرير الاختلاف مع الآخر ، لكنهم مهددون بما بات واقعا وحشيا يفصح عنه أصحابه يوما بعد يوم ، مستغلين مناخ الحرية الرائج بعد ثورة 25يناير لإرساء قواعدهم ومعتقداتهم الجهيمة، المتدثرة خطأ بالدين والشريعة، فبثوا في النفوس السوية رعبا مبدئيا من أن تتحول مصر إلي دولة دينية محكومة بالوكالة الإلهية من حاكم وحاشية يكفّرون من يخالفهم ويردعون العصيان المشروع بالبطش والإبادة!! ومن المعلوم لدي المتابعين للأحزاب ذات المرجعية الدينية مثل حزب العدالة والحرية المنبثق عن جماعة الإخوان المسلمين ، أن الجماعة المتعطشة للحكم الديني تقوم بتسريب أهدافها كلما تيسرت الفرصة، ففي برنامج الإعلامي المثقف يسري فودة جرت مناقشة بين د. محمد مرسي رئيس حزب الإخوان والدكتور الروائي المستنير علاء الأسواني، تطرقت إلي رؤية الإخوان للفن الذي يهدف بنظرهم إلي ضرورة بث الرؤي الدينية وأن تكون رسالة الفن شرعية، وقد تدخل د.الأسواني فضرب مثلا بفيلم الكرنك وبالذات مشهد اغتصاب سعاد حسني الذي أثار اشمئزاز المشاهدين ولم يثر غرائزهم، وعند ذلك الحد ، اعترض د. محمد مرسي مؤكدا أن الإشارة الرمزية للحدث أفضل ، مما أدخل الحوار بينهما في زوايا الرؤية الفنية المؤثرة والمجدية للمخرج وانتهي الأمر بنتيجة مؤكدة وهي فرض الإخوان المسلمين للقيود العسيرة علي الرؤي الإبداعية ليس في السينما والتليفزيون فحسب بل في الإبداع الأدبي الذي دأبوا علي تطويقه وحصاره بمخالب الكبت والتكفير تحت قبة مجلس الشعب المنحل. علي أن قيود الإخوان تبدو أهون بكثير من قبضة السلفيين.. ويبدو أن الإعلامي المحترم يسري فودة قرر أن تكون المواجهات الخاصة بمصير الفن إذا اعتلي الحكم وكلاء الله، من منبر برنامجه الشهير، فقد استضاف بعض الضيوف بينهم المخرج خالد يوسف وأحد الشيوخ السلفيين، وتم عرض أغنية وطنية مؤثرة، طلب بعدها المذيع من ضيوفه أن يعبروا عن رأيهم فيها، فامتنع الشيخ السلفي بدعوي أن الغناء والموسيقي حرام، فانطلق المخرج خالد يوسف يكرر بتعجب إنها أغنية وطنية محترمة! وتساءل مرتبكا ومتوجها للشيخ السلفي المتجهم: أمال حتعملوا فينا إيه لو حكمتم البلد.. أنا عايز الناس إللي بتتفرج تشهد!! والمواقف السابقة تؤكد النزوع الاستبدادي لدي الزاعمين بأنهم وكلاء الله علي الأرض ، وتلزمنا لمواجهتهم الاستعانة بآراء أكابر الفقه والدعوة الدينية السمحة في أزمنة شهدت تدينا جوهريا لم ينفث الدعاة فيها سموم التكفير أو التحريم، بل انتعشت الحياة بلا ضلال عندما شيد كل إنسان في قلبه دينه المضيء. في عام 1925 كتب الشيخ مصطفي عبدالرازق عن سيدة الغناء العربي أم كلثوم فقال: »إنها أميرة الغناء في وادي النيل ، وإنها نعمة من نعم الدنيا«، كما قال رأيه القاطع في ظاهرة النقاب منذ ذكر الزمن البعيد فقال: »من الغريب أن بعض سيداتنا يسدلن النقاب علي وجوه أذن الله أن تكشف«. »الله«.. لفظ الجلالة المهيب.. ننطقه كثيرا كلما أبهرنا عمل فني: لوحة.. تمثال.. فيلم.. كتاب.. موسيقي.. غناء.. إذن فالله سبحانه وتعالي فوق وخلف وداخل كل إبداع يستدعي الفرح والانتشاء.. هو تعالي الكائن فينا وفي مواهب كل الفنانين الذين اختصهم بقدرات إمتاعية ممنوحة لهم بإرادته ورغبته في إضفاء البهجة علي كبد العيش! الفن فعل وطني.. سيد درويش فعل وطني بامتياز.. وكذلك محمود مختار، بأنامله الذهبية التي شيدت تمثال نهضة مصر في بواكير القرن العشرين علي نفقة التبرعات الشعبية، ليصبح عنوان الأمة في كل دهر.. من الذي يجرؤ علي هدم هذا التراث الفني بدعوي التكفير؟! لقد ذكر المفكر الإسلامي الدكتور محمد عمارة في كتابه »الإسلام والفنون الجميلة« بأن التماثيل بعد انتفاء مظنة عبادتها هي من نعم الله علي الإنسان، وعاملها وصانعها إنما يعملها بإذن ربه.. وعلي الذين أنعم الله عليهم بهذه النعمة مقابلتها بالشكر لله، وأحد مظاهره، اكتشاف مافيها من جمال. أما المفكر الإسلامي سيد قطب الذي يعتبره الإخوان المسلمون عميدهم الثاني بعد الشيخ حسن البنا فله آراء مستنيرة تستلزم التفكر وإعادة النظر من أتباعه وسواهم من المنغلقين المعتمين.. كتب سيد قطب في كتابه »التصوير الفني في القرآن« يقول: إن التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن ، فهو يعبر بالصورة المحسة المتخيلة عن المعني الذهني ، والحالة النفسية، وعن الحدث المحسوس، والمشهد المنظور، وعن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية .. ثم يرتقي بالصورة التي يرسمها ، فيمنحها الحياة الشاخصة ، أو الحركة، المتجددة فإذا المعني الذهني هيئة أو حركة، وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد، وإذا النموذج الإنساني شاخص حي، وإذا الطبيعة البشرية مجسمة مرئية ، فأما الحوادث والمشاهد، والقصص والمناظر ، فيردها شاخصة حاضرة ، فيها الحياة ، وفيها الحركة ، فإذا أضاف إليها الحوار فقد استوت لها كل عناصر التخيل «. ويضيف سيد قطب : »ويجب أن نتوسع في معني التصوير ، حتي ندرك آفاق التصوير الفني في القرآن الكريم.. فهو تصوير باللون ، وبالحركة والإيقاع ، وكثيرا ما يشترك الوصف ، والحوار وجرس الكلمات ، ونغم العبارات ، وموسيقي السياق في إبراز صورة من الصور تتملاها العين والأذن والحس والخيال والفكر والوجدان«. وجدير بالذكر أن الذي اقترح إنشاء مدرسة لتعليم فن الرسم والنحت في مصر هو الإمام الشيخ محمد عبده لما لهذه الدراسة في رأيه من أثر بالغ في الارتقاء بالوجدان والحس الثقافي للعباد. إلا أنه - كالعادة - واجه هجوما شديدا من تيارات أصولية تعتبر التجديد في مجمله حراما وكفرا، فلجأ الإمام محمد عبده إلي سؤال مفتي الديار المصرية وقتها عن مدي شرعية أمر مدرسة الفنون الجميلة ... فجاء رد المفتي المستنير بقول حاسم وجريء: »نحن ديوان كلمات... والغرب ديوان هيئات... وقد آن لديوان الكلمات أن يستفيد من ديوان الهيئات«. وفي عام 1908 أنشئت كلية الفنون الجميلة ، التي تمتلئ الآن بأصوات تكفيرية تحرم وتمنع وتقهر علي صراط التيارات الأصولية الصاعدة التي تمارس ضد الفن الجميل خطيئة الإرهاب الكبري.... وتتوعدنا بالموت الوجداني إذا ما ملكت الزمام!!!