لا ينتهي الحديث عن تلوُّث نهر النيل الذي هو بمثابة شريان الحياة لنا، ولاشك أننا نواجه تحديا كبيرا في نقص حصتنا من مياهه لإنشاء سد النهضة الأثيوبي، بخلاف التعدي عليه ببناء منشآت سياحية وكافيهات وردم، وخلال السنوات الأخيرة زادت التعديات، ورغم إطلاق وزارة الري حملة لإزالتها برعاية الرئيس عبدالفتاح السيسي، إلا أنها لم تستطع السيطرة الكاملة حتي الآن، كما أصبح النيل مصدراً للأمراض المزمنة مثل الفشل الكلوي والسرطان نتيجة الصرف الصناعي للمصانع والصرف الصحي لآلاف المنازل في مجري النهر، والكارثة الكبري هي اعتراف وزارة البيئة بأن هناك 20 مليون طن مخلفات صلبة تُلقي في الترع سنوياً. الدراسة الأخيرة التي أصدرتها وزارة البيئة عن التلوث الناتج عن نهر النيل وفروعه توصلت إلي أن 50% من فاقد الإنتاج الزراعي سببه الرئيسي تلوُّث المياه، وبالطبع قررت أوربا حظر استيراد الخضراوات والفواكه المصرية منذ 2010 بعد تأكدها من عدم صلاحيتها آدميا، وأوضحت الدراسة أن هناك ارتفاعًا ملحوظًا في عدد مرضي الفشل الكلوي، وتعدُّ الترع والمصارف أحد المصادر المنبثقة من النيل بعد أن تحولت هي الأخري لمنبع للفيروسات والأوبئة، فالفلاحون الذين يعتمدون عليها في ري أراضيهم يلقون بالقمامة والمخلفات الصلبة بها إضافة لإلقاء المصانع والمسابك مخلفاتها المحتوية علي مواد كيمائية سامة ومركبات قاتلة ويزداد الأمر تعقيداً مع عدم الاهتمام بتطهيرها دورياً أو الكشف عنها، فيمتد تأثير التلوُّث علي النبات والحيوان ومن ثم صحة الإنسان. ولعل نفوق مئات الأطنان من السمك في محافظتي البحيرة وكفر الشيخ دليل دامغ علي ذلك، فوزارة البيئة قدّرت مخلفات تطهير الترع والمصارف بحوالي 20 مليون طن سنوياً، تستخرج من نحو 8000 ترعة علي مساحة 35 ألف كيلو متر علي مستوي محافظات مصر، وفي تقرير آخر لها أكدت أن المخلفات الصلبة في مصر سنويًا تبلغ 75 مليون طن، وبالرغم من استفادة دول عديدة من تلك الثروة كاليابان وألمانيا إلا أننا مازلنا نري أنها عبء يجب التخلص منه، ورغم أن القانون يجرِّم إلقاء مواد ومخلفات في نهر النيل وفروعه من ترع وقنوات، وهناك 19 مادة تحظر ذلك ويتعرض مخترقها للعقوبة إلا أن التعدي بات أمراً عادياً. ويقدرعدد الترع بحوالي سبعة آلاف ترعة تشق أراضي المحافظات، أشهرها الإسماعيلية والإبراهيمية والتوفيقية، بالإضافة للترع والمصارف الصغيرة المنبثقة عنها، وقامت »آخرساعة» بجولة ميدانية لتري علي الطبيعة مدي تلوثها وتأثير ذلك علي صحتنا، ورصدت دور وزارتي البيئة والري لمواجهة المشكلة. بدأنا الجولة بمحافظة الجيزة وتحديدا بقرية »المنوات» التابعة لمركز »أبوالنمرس»، وتعد تلك القرية مثالا حيا لما أسلفنا ذكره، فأهلها أنهكتهم أمراض الفشل الكلوي والسرطانات وأصبح حلم حياتهم كوب ماء نظيف، حيث يروون ظمأهم بمياه مختلطة بمياه الصرف الصحي والرواسب الطينية، وليس هذا فحسب فأراضيهم الزراعية تُروي من ترعة المنوات الآتية من البدرشين وممتدة إلي الحوامدية، بخلاف أطنان القمامة وأكوام المخلفات التي تسد مجراها كما تعج بعشرات الحيوانات النافقة، والكارثة هي اختلاط مياه الصرف الصحي بمياهها التي تروي آلاف الأفدنة المزروعة بالأرز والذرة ليزيد الطين بلة في ظل غياب المسئولين وتجاهلهم لتلك القرية التي تبعد بضعة كيلومترات عن العاصمة. يقول مجدي رضا (مزارع): تعد ترعتا المنوات أو »السقارية» و»طريق زويل» المارتان بقريتي ميت قادوس والمنوات مأوي للقمامة والمخلفات مما نتج عنه روائح كريهة وحشرات، وهذا أحد أسباب إصابة الأهالي بالفشل الكلوي، فلا توجد شبكة للصرف الصحي، ما يدفعهم للاعتماد علي سيارات الكسح والطرنشات التي لا تجد سوي تلك الترعة لتفريغ حمولتها وليس أمامنا سوي ري الأراضي بتلك المياه. يتابع: خاطبنا مسئولي الوحدة المحلية والري دون جدوي، والكارثة أنهم كانوا يفرضون علينا غرامات حال تركيب مواسير لاستخراج المياه الجوفية الصالحة لننصاع لأوامرهم بري الأرض المزروعة بالأرز والذرة والخضراوات بتلك المياه الملوثة، ما تسبب في تدمير صحتنا وصحة أطفالنا. فيما يشكو حسن كامل (53 عاماً) من الانقطاع المتكرر للمياه في الترعة، ما يعرِّض المحاصيل لخسائر كبيرة وبوار عشرات الأفدنة، ويقول: رغم تصريحات وزير الري بعدم تكرار تلك الأزمة إلا أنها تزداد خلال فصل الصيف وبالطبع فإن الري بمياه الصرف الصحي يؤثر علي جودة الأرض وإنتاجيتها، ولا ننسي أن المصانع العاملة بصناعة السفن بمدينة البدرشين تلقي مخلفاتها الكيمائية في النيل، وتحتوي علي عناصر ثقيلة تقتل الأسماك وتؤثر علي محاصيلنا لذا نناشد مسئولي البيئة والري ضرورة تطهير تلك الترع وإنقاذنا من مخاطرها. الحال لا يختلف كثيراً في مصرف »البلبيسي» التابع لمركز الخانكة بالقليوبية، حيث يُعدُّ من أخطر المصارف التي تمر بالمحافظة، ويستقبل الصرف الصحي من محافظتي القاهرة والقليوبية، علي امتداد الطريق الدائري بداية من المرج والقلج، مروراً بمناطق عرب العيايدة وسرياقوس، ليصب في الخانكة وأبوزعبل، وتتدفق منه مياه الصرف الصحي الناتجة عن مخلفات مجازر الدواجن والمصانع، ما تسبب في انسداد دائم نتيجة ارتفاع منسوب المياه بالمصرف، ما أدي إلي غرق المنازل ومعظم الأراضي الزراعية في هذه المنطقة التي يعتمد معظمها علي مياهه. يقول رجب محمود (أحد أهالي قرية كفر حمزة): مصرف سرياقوس الذي يمر بجوار منازلنا، ويتبع مدينة الخانكة يعتبر بؤرة تلوث تهدد حياة آلاف المواطنين، فنحن نتعرض يومياً لسموم المصرف وحشراته، التي تهاجم منازلنا كما أن انسداد المصرف في كثير من الأحيان يؤدي لارتفاع المياه الجوفية وملوحة التربة فيؤثر علي جودة المحاصيل. وإذا تحوّلنا أيضا إلي ترعة الإسماعيلية ،التي تشق أراضي محافظاتالشرقية والقليوبية والإسماعيليةوالقاهرة وتروي آلاف الأفدنة المزروعة بجانبها، نجد أنها تشهد تعديات وتلويثا لا حصر له، وخلال السنوات الأخيرة تبدل الحال فظهرت الكافيهات علي جانبيها التي تلقي مخلفاتها في الترعة، إلي جانب مصانع تكرير البترول المنتشرة بمسطرد وآخرها مصنع »أجريوم»، التي تلقي مخلفاتها الكيمائية في الترعة بخلاف قيام ربات المنازل بغسل الأواني والملابس فيها وإلقاء الحيوانات النافقة بها. يقول الدكتور نادر نورالدين أستاذ الموارد المائية: مصر تخسر سنويا 3 مليارات جنيه بسبب تلوث المياه بالإضافة إلي إصابة الملايين من المواطنين بالأمراض الوبائية والخطرة، فضلا عن ضياع كميات هائلة من المياه يمكن استخدامها في الزراعة وتعدُّ الترع والمصارف أكثر المناطق المحتضنة للمخلفات الصلبة من قمامة ومخلفات منزلية في ظل عدم وجود مقالب للقمامة أو صناديق لها، كذلك غياب ثقافة المحافظة علي البيئة إضافة إلي إلقائهم المخلفات الزراعية من مبيدات سامة وأسمدة مما يؤثر علي المحاصيل وعلي صحة الفلاحين، فمعظمهم مصاب بأمراض الفشل الكلوي وفيروس سي حتي الأطفال الصغار باتت تلك الأمراض تنهش أجسادهم بلا رحمة . يواصل: عدم وجود شبكات للصرف الصحي يدفع الأهالي إلي استخدام الطرنشات والكساحات وإلقاء مياهها في الترع، ما يؤدي لتوافد أسراب الحشرات والزواحف السامة، كما أنها تؤدي لانسداد الترع ما يتسبب في تناقص نسبة المياه وبوار عشرات الأفدنة، لذا علي وزارة الري أن تمد حملات تطهير الترع والمصارف بكافة المحافظات لمنع إهدار ملايين الأمتار المكعبة من المياه خاصة خلال فصل الصيف الذي تتفاقم فيه المشكلة. فيما يقول الدكتور أنور الديب أستاذ تلوث المياه بالمركز القومي للبحوث: تنقسم المخلفات إلي صلبة وزراعية وصناعية وكلها تشكل خطرا علي مياه النيل وترعه المختلفة المنتشرة بجميع المحافظات وينتج عنها بعض الأمراض كالتيفود والدوسنتاريا وغيرها إضافة إلي أنه بعد تحلُّلها في المياه تنتج عناصر كيمائية ومواد ثقيلة تنتشر في التربة بعد ذلك لتؤثر علي جودة الأراضي ومحاصيلها، والأغرب أنه عند تنظيف المجري المائي بردم المخلفات علي جانبي الترع تتلوث البيئة المحيطة من تحلُّلها ويعمد البعض إلي حرقها وفيها كميات من اللدائن والبلاستيك التي عند احتراقها تنتج ملوثات الدايوكسين المسرطنة التي تنتشر في الجو وتؤثر علي البيئة، لذا فإن الوسائل المثلي للتخلص منها إما من خلال إعادة تدويرها علي غرار الدول الأوربية الكبري التي استفادت منها أو الحرق في أفران خاصة وأخيرا الطمر في مدفن صحي. أما وزير البيئة خالد فهمي فأولي اهتمامه بتلك الأزمة التي يمكن الاستفادة منها وتوليد طاقة تستغل في أفران مصانع الأسمنت، وقد وضعت الوزارة رؤية وتم التوافق عليها من مجلس الوزراء لحل مشكلة المخلفات الصلبة في مصر، كما سيتم تجهيز مدافن آمنة صحيا للتخلص منها دون التأثير علي الصحة أو تلويث الجو. في موازاة ذلك، كانت وزارة الري أطلقت حملة توعوية لتقليل أحمال التلوث بالمجاري عن طريق تنفيذ منظومة متكاملة لإدارة المخلفات الصلبة، ضمن مشروع »تحسين إدارة الموارد المائية»، الذي ينفذه قطاع التخطيط بوزارة الموارد والري بالتعاون مع البنك الدولي ومرفق البيئة العالمي لتحسين حالة المياه في المجاري المائية والتبرع ضمن المشروع القومي لرفع جودة وتحسين نوعية المياه والحد من التلوث خاصة بعد أن أكد الرئيس عبدالفتاح السيسي علي مواصلة أعمال تطهير الترع والمصارف والقضاء علي ورد النيل المستهلك لكميات كبيرة من الماء. وكان الدكتور محمد عبدالعاطي وزير الري صرح بأن المشروع طُبق بقري مركز المحمودية بمحافظة البحيرة لتوعية الفلاحين بمخاطر إلقاء المخلفات الصلبة في المجاري المائية لتحسين نوعية المياه والسيطرة علي الملوثات للحفاظ علي الصحة العامة والبيئة وإعادة تدوير المخلفات الصلبة مثل مخلفات الاستخدام المنزلي ومنع وصولها إلي المجاري المائية كما تم تطهير ترع مدينة القناطر الخيرية. وأضاف: سيتم تعميم المشروع بالقري التي تشهد تلوثا شديدا كما أن الوزارة انتهت من مراجعة كافة المصارف الزراعية علي مستوي المحافظات، وتحديد مصادر التلوث البيئي المختلفة التي تتعرض لها شبكة المجاري المائية الرئيسية وفرعا النيل والمصارف الزراعية، مع وضع خطة متكاملة للتعامل معها، وخريطة شامله لشبكة المصارف الزراعية متضمنة مصادر التلوث البيئي وحجمه وتأثيره علي نوعية المياه التي يُعاد استخدامها أكثر من مرة لتوفير الاحتياجات المائيه للبلاد». أما المهندس هاني دعبس رئيس قطاع الري بالوزارة فقال: تنفق الوزارة حوالي 150 مليون جنيه علي تطهير الترع والريّاحات، وتم البدء في تطبيق أساليب وطرق غير تقليدية للتخلص من القمامة والحيوانات النافقة من خلال صولات تم تطبيقها في بحر يوسف بمحافظة الفيوم، وهي عبارة عن براميل عملاقة يتم تطهيرها بين وقت وآخر، وسوف يتم تطبيق التجربة في العديد من الريّاحات الكبري.