ماراثون الرئاسة الأمريكية انطلق يوم الإثنين الماضى من ولاية آيوا مرة كل أربع سنوات تجد ولاية آيوا الريفية، الواقعة غرب وسط الولاياتالمتحدة، نفسها علي موعد مع صخب المدن الأمريكية الكُبري، إذ تنطلق منها مواكب المتنافسين للوصول إلي البيت الأبيض، فمنذ عام 1972 سكانها هم أول المدعوين للتصويت في الجولة التمهيدية للحزبين الجمهوري والديموقراطي، بهدف استقرار كل حزب علي مرشحه الذي سيمثله في الجولة النهائية التي ستجري في الثامن من نوفمبر من العام الجاري. ويبدو الغضب هو كلمة السر في ضربة البداية لذلك الماراثون الانتخابي الذي انطلق أول من أمس الاثنين 1 فبراير.. غضب يتشارك فيه أبناء الطبقة الوسطي والأوساط الشعبية، علي حد سواء، وهو نفس الغضب الذي يفسر لماذا 3 من المرشحين، لم تكن الترشيحات تصب في صالح أي منهم، أصبحوا الآن قريبين من الوصول للجولة النهائية طبقاً لاستطلاعات الرأي. أساس هذه العملية الديمقراطية الطويلة والمعقدة هو معرفة رأي الناخب الأمريكي، ولاية بعد ولاية، بدءا من آيوا، ومدينة بعد مدينة بدءًا من نترسيت، ومقهي بعد مقهي.. مشهد تصفه ليبي كوبلاند، الصحفية في واشنطن بوست، بقولها: «حول فناجين قهوة الصباح، تصنع الديمقراطية الأمريكية. يجلس أمريكيون يشربون قهوة الصباح، ويمر عليهم مرشحون، وصحفيون، وكاميرات تليفزيون، وموظفو استطلاعات رأي، واستراتيجيون، وفضوليون، يسألونهم عن آرائهم في المرشحين وفي سياساتهم». تيد كروز هو من بين أولئك المرشحين الذين تصدروا المشهد بفعل غضب الشارع الأمريكي.. كروز السيناتور بمجلس الشيوخ عن ولاية تكساس محسوب علي الحزب الجمهوري المعارض، بل علي حزب الشايPart Tea إذا شئنا الدقة وهو الجناح المتشدِّد داخل الحزب الجمهوري، والغضب الذي يعبِّر عنه كروز هو غضب القطاع المتدين، فرغم فوز الجمهوريين بانتخابات التجديد النصفي للكونجرس عامي 2010 و2014 وهو ما يعني امتلاك السيطرة التشريعية الكاملة، إلا أنهم وقفوا عاجزين أمام إصرار الرئيس أوباما علي إقرار نظام الرعاية الصحية المعروف باسمObamacare الذي يكلف الخزانة ملايين الدولارات، ونفس العجز كان أمام تشريع زواج الشواذ جنسياً وإقرار دعم لمراكز تنظيم الأسرة. أما الغضب الذي يعبر عنه المرشح الجمهوري المثير للجدل دونالد ترامب، فهو غضب مهمشين أغلبهم من البيض وغير حاملين لشهادات جامعية ويتقاضون أجوراً متدنية في أعمالهم، الذين من المفترض أن يجدوا أنفسهم في خطابات وسياسات الحزب الديموقراطي (حزب الرئيس أوباما) المحسوب علي اليسار، ولكن هؤلاء انجذبوا لخطاب ترامب الذي وصف فيه الولاياتالمتحدةالأمريكية بأنها «ضحية اتفاقيات التبادل التجاري التي قننت لشركات أمريكية فتح فروعها في دول أخري بحجة أن اليد العاملة فيها أقل تكلفة» كما أن تدني أجور هؤلاء مرده إلي «الهجرة التي لا تريد الدولة السيطرة عليها» حيث يحصل المهاجرون، لاسيما المقيمين بشكل غير قانوني، علي أجور أقل من المواطنين الأمريكيين الذين يجدون أنفسهم مضطرين للقبول بأي أجر يُعرض عليهم. وكان الملياردير الأمريكي قال في كلمة ألقاها في ولاية نيوهامبشير (إنه إذا ما تم انتخابي رئيسا فسوف أعيد جميع اللاجئين السوريين الذين استقبلتهم الولاياتالمتحدة أو ستستقبلهم إلي بلادهم)، مبدياً خشيته من أن يكون من بينهم عناصر فيما يُعرف بتنظيم (داعش). وجاءت تصريحات ترامب تعقيبا علي قرار للبيت الأبيض برفع العدد المسموح به من اللاجئين السوريين الذين يمكن أن تستقبلهم أمريكا من عشرة آلاف إلي 65 ألف سوري، ليصلوا في عام 2017 إلي أكثر من 65 ألف مهاجر. وسبق لترامب أن وصف المهاجرين المكسيكيين في أمريكا بأنهم (تجار مخدرات ومغتصبون)، ووعد مناصريه ببناء سور علي الحدود الأمريكية المكسيكية في حال فوزه في الانتخابات الرئاسية. المعجبون بترامب يستمتعون برؤية ترامب وهو ينكِّل بوسائل الإعلام، بما في ذلك قناة فوكس نيوز ذات التوجهات الجمهورية، ويصفقون لترامب في كل مرة يقوم فيها بدهس قواعد الذوق واللياقة وخدش الحياء العام، ففي إحدي لقاءاته التليفزيونية أوحي ترامب للجمهور ضمناً أن المذيعة التي تحاوره تعيش أيام الحيض، وذلك حينما حاصرته بأسئلة تتطلب أجوبتها حنكة سياسية يفتقدها ترامب، ولكن سارة بالين، التي كانت مرشحة في انتخابات 2008 لمقعد نائب الرئيس مع جون ماكين، لها رأي آخر حيث أعلنت مساندتها لترامب بكل وضوح ووصفت ما يفعله بأنه (الحزام الناسف الصحيح سياسيا)، وهو ما يجعل من ترامب ملياردير العقارات مرشحاً مقبولاً لدي قطاع كبير من الجمهوريين تؤثر فيه بالين بكتبها التي تحقق مبيعات هائلة. في المعسكر الديموقراطي نجد بيرني ساندرز، السيناتور المستقل عن ولاية فيرمونت، ممثلاً لقطاع كبير ممن يعانون من خفض الرواتب في عهد الرئيس أوباما، وهو ما يجد أصداءً حتي في أوساط الجمهوريين، لا سيما حينما يتحدث ساندرز عن رأسمالية المحاسيب وفساد في وول ستريت عنوان البورصة والمال في الولاياتالمتحدةالأمريكية، وعلي العكس من ترامب وكروز فإن برنامج ساندرز مبني علي أسس يسارية: رفع الحد الأدني للأجور، مجانية التعليم العالي، ونظام تأمين اجتماعي شامل. وآيوا ورغم أنها بعيدة نوعاً ما عن الجدل الأيدولوجي الكلاسيكي بين اليمين واليسار، بحكم اعتماد سكانها علي الزراعة في المقام الأول إلا أنها لم تنجُ من عاصفة الغضب، حيث أظهرت نتائج قام بها المركز الرئيسي لاستطلاعات الرأي بالولاية، أن 48% من سكانها يتمنون فوز دونالد ترامب، بينما يري 40% أن توصيف «اشتراكي» أمر جيد بينما كانت الكلمة، حتي وقت قريب، توصم صاحبها بما هو سيئ في أدبيات السياسة الأمريكية، ويوضح كيندرون برادويل أستاذ العلوم السياسية بجامعة إنديانولا الواقعة جنوب غرب الولاية، لصحيفة لوموند الفرنسية: «يبدو أن كثيرين ينسون أن آيوا الزراعية باتت تضم تجاراً ونقابيين من ذوي التوجهات اليسارية التقدمية.. وعلي صعيد اليمين فإن هناك مراكز إنجيلية تلعب دوراً محورياً في حياة السكان، وفوق كل ذلك نجح السيد ترامب في الوصول لهؤلاء من خلال إقناعهم بقدرته علي حل مشاكلهم الاقتصادية وإيقاف موجات الهجرة للولايات المتحدة والكفاح ضد التيارات الإسلامية المتشددة». دونالد ترامب وتيد كروز كلاهما يلعب علي وتر تخويف الأمريكيين من اندثار ثقافتهم وقيمهم، وهو ما لقي رواجاً كبيراً حتي عند رجل الشارع العادي، وهو ما شجّع المرشح الجمهوري جيب بوش (شقيق الرئيس السابق جورج دبليو بوش)، وكذلك ماركو روبيو السيناتور عن ولاية فلوريدا، علي السير علي نفس النهج وطي صفحات خطاب التفاؤل بمستقبل أفضل الذي رسماه للأمريكيين في بداية ترشحهما. وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة والمرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون، التي نأت بنفسها عن الدخول في تراشقات مع نظرائها من المرشحين اعتماداً علي استطلاعات رأي تُظهر تقدمها، عمدت في الآونة الأخيرة إلي تقليد زميلها بيرني ساندرز الذي هاجم عائلة والتون، مالكة سلسلة محلات وول مارت للسلع الغذائية، بسبب ما تدفعه من أجور متدنية للعاملين بها لدرجة دفعت بعضهم للتقدم بطلبات للحصول علي إعانة مالية تقدمها الدولة للعاطلين عن العمل في الأساس، غير أن هيلاري لم تهاجم نفس العائلة بالطبع، فذهبت لانتقاد مجموعة جونسون كونترولز المتخصصة في تصنيع قطع غيار وأنظمة تكييف للسيارات، إذ إن الشركة قررت نقل أنشطتها لأيرلندا هرباً من الضرائب المفروضة عليها في الولاياتالمتحدة. ويبقي السؤال: هل يحدد الغاضبون مصير المرشحين للاستحقاق الرئاسي الأطول والأهم في العالم؟ كيندرون برادويل يرفض التكهن، ولكنه يعتقد أن آيوا سترسم بشكل كبير خريطة التصويت ل51 ولاية أخري.