منظور عنف حاضر وسياسة غائبة يتناول بيير بلان، أستاذ العلوم الجيوسياسية بجامعة بوردو، وجان بول شانيولو، أستاذ العلوم السياسية الزائر بعدة جامعات فرنسية، الأحداث التي رسمت خريطة الشرق الأوسط منذ مطلع القرن المنصرم، أو ربما قبل ذلك بقليل، وحتي ما يُعرف بالربيع العربي. وفي الفصل الرابع يعرض المؤلفان ما آلت إليه أحوال سوريا وليبيا والعراق في منطقة يحاصرها الدم والنار، ولا وجود فيها لقانون أو احترام اتفاقيات لا سيما أن الراعي الرسمي للإرهاب في المنطقة هي الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي دمرت العراق تحت مسمي نشر الحريات، وحولت ليبيا إلي صومال كبير بعدما ساهمت طلعات الناتو الجوية في الإطاحة بنظام حكم القذافي وقتله، كما أن تشجيعها لما يُعرف بالمعارضة السورية كان سبباً في ظهور وحوش آدمية تُدعي داعش لم تصل أي جماعة إرهابية لما وصلت إليه من همجية وبربرية. الحديث عن مصر في الكتاب الصادر بالفرنسية في ديسمبر 2014 عن معهد العلوم السياسية في باريس (سوف تظهر النسخة العربية منه في معرض القاهرة الدولي للكتاب، بترجمة عن كاتب هذه السطور عن دار نشر روافد)، كان في سياق أن مصر هي الدولة العربية الوحيدة التي فقدت أرضاً واستعادتها بفضل جيشها القوي، الذي استرد عافيته بعد هزيمة مؤلمة في يونيو 1967، حيث كسرت مصر غطرسة الإسرائيليين في حرب أكتوبر من عام 1973، وفرضت السلام بإثبات قدرتها علي خوض الحرب التي كانت نقطة الصعود الحقيقية للجيش المصري، خصوصاً أن الولاياتالمتحدة كانت، ومازالت، تقف مع الدولة العبرية وكأنها الولاية رقم 53، وتساعدها في ممارستها القمعية وسياساتها التوسعية التي التهمت الأراضي الفلسطينية بالمخالفة للقانون الدولي، ولا يهمها سوي ضمان تفوقها علي الدول العربية كافة حتي لو احترقت الأوطان من المحيط للخليج، ثم بعد ذلك كله تنصب واشنطن نفسها حامي حمي الحريات والديموقراطية وحقوق الإنسان. المؤلفان أوضحا فارقا جوهريا آخر بين الجيش المصري وجيوش البلدان، حيث إن الجيش المصري أُسس علي معيار الوطنية والولاء للدولة فقط بعيداً عن أشخاص وعصبيات وقبائل وعشائر، ففي العراق كانت المناصب العليا في الجيش حكرا علي عشيرة صدام حسين وكل من له أصول تعود إلي مدينة تكريت، وفي سوريا أمر مشابه حيث المفاصل الرئيسية بالجيش والدولة تحت سيطرة عائلة الأسد ومن يتحالفون معها من عشائر، أما في ليبيا فلم يكن هناك جيش من الأساس بل حفنة من المرتزقة تدافع عن القذافي وعائلته، ونظراً لنسيج الجيش المصري ورؤيته التي تضع مصلحة بلده وأمن شعبها أولاُ وفوق كل اعتبار، فإن مصر لم تشهد الفوضي وبحور الدم علي غرار ما يحدث في الدول المحيطة بها. وإذا كانت ليبيا الآن تحت حكم الميليشيات، وسوريا علي أرض الواقع تحولت إلي 5 دول: دولتان للسُنة تتمثلان في تنظيم داعش، وأبرز المدن التي يسيطر عليها الرقة والحسكة وجرابلس ومدن أخري متاخمة للحدود التركية، وجبهة النصرة التي تتمركز في مدينتي حلب وإدلب بشكل كبير، ودولة كردية غير معلن عنها ولكنها تفرض نفسها علي أرض الواقع في كوباني وتل أبيض وباقي المدن الكردية من خلال وحدات حماية الشعب الكردي، ودولة علوية في دمشق واللاذقية والساحل وطرطوس، ومناطق يسيطر عليها ما يعرف بالجيش السوري الحر، أما العراق فبات واقعياً 3 دول: دولة كردية في إقليم كردستان، ودولة سُنية بقيادة داعش في مثلث الرمادي والأنبار الموصل، والدولة الشيعية المركزية في بغداد، فيما تظل مصر استثناءً، بفضل جيشها القوي المتماسك، مما اعتبره المؤلفان مخطط «سايكس-بيكو2» لتقسيم المنطقة وتفتيتها إلي دويلات. من بين المتناقضات التي سلط الكتاب الضوء عليها، هو أن إمارة بنظام حكم رجعي مثل قطر تنتقل السلطة فيها بالوراثة، تقدم نفسها علي أنها داعمة للتحرر والقلب النابض لما يُسمي بالربيع العربي، وبينما ذراعها الإعلامي المتمثل في قناة الجزيرة تُكيل الاتهامات للآخرين بممارسة التسلط والاستبداد فإنها لا تجرؤ علي التفوه بكلمة انتقاد واحدة تجاه نظام الحكم في الدوحة. شركة «ستراتفور» الأمريكية المتخصصة في مجال الأبحاث المخابراتية والإستراتيجية والعسكرية، وصفت الجيش المصري بكلمات مشابهة لما ورد في الكتاب الفرنسي، حيث نشرت تقريراً عن الجيش المصري حمل عنوان «التفكير العسكري التقليدي المصري»، ورغم ما حاول التقرير أن يروج له وكأنه مساوئ للجيش المصري إلا أنه لم يستطع أن يكتم كلمات الإشادة بالجيش الذي «قضي علي مخطط تقسيم البلاد وإسقاطها في أيدي من يعملون لجهات خارجية» من المؤمنين بمخططات "الفوضي الخلاقة" وبتفتيت الوطن العربي، ولكن رؤية ويقظة الجيش المصري فرضت نفسها وأجبرت الخصم قبل الصديق علي الاعتراف بنجاحه في هذا الصدد. وفي جانب آخر من التقرير نجد الكلمات التالية «نجحت مصر في الحفاظ علي جيشها كأقوي وأكبر جيش في العالم العربي منذ انتهاء الحقبة الاستعمارية. فطوال تاريخها، اعتمدت الدولة المصرية المستقلة بشكل كبير علي الجيش لحماية مصالحها الإقليمية. حدث ذلك خلال العقود الطويلة من الصراع العسكري مع إسرائيل ومرة أخري في نزاعات مع كل من ليبيا والسودان علي الحدود الغربية والجنوبية لمصر. ورغم تضاؤل التهديد الوجودي لمصر من قبل عدوان الجيوش الأجنبية التقليدية خلال السنوات الأخيرة فإن الأخطار الجديدة وغير التقليدية للإرهاب وللاعبين من غير الدول قد تنامت وحلت محل التهديدات التقليدية». آراء عربية في تصريح خاص لآخر ساعة قال عبد الله إسماعيل الكاتب والباحث اليمني المقيم بالقاهرة منذ عام 2012 «لو أردت أن تعرف الفارق بين جيش هش عشائري مفكك وولائه لأشخاص، وبين جيش كجيش بلادكم.. انظر إلي اليمن: عدد السلاح يفوق عدد السكان والدولة قائمة علي دويلات ومخيمات، وميليشيات التخلف والإرهاب الحوثية تعيث في الأرض فساداً وتهلك الحرث والنسل.. اختلفوا مع جيشكم كما شئتم، ولكن صلوا لله شكراً ليل نهار علي هذه النعمة، وإياكم أن تناصروا ميليشيات تسعي لهدمه تنفيذاً لمخططات مشبوهة» واستكمالاً لتلك النقطة يضيف عريش سعيد مسئول لجنة الإعلام الخارجي في الحكومة لليبية لآخر ساعة: «لن أتحدث من منطلق قومي، ولكن نري الواقع كما هو.. الخراب في كل مكان بالوطن العربي ولا أحد يعيش في أمان واستقرار سوي دولة الكيان الصهيوني.. لنفترض أن شابا ليبيا أو سوريا قال: هيا بنا نحرر الأقصي.. سينظر إليه الجميع بسخرية وسيشفقون عليه وسيطالبونه بتحرير بلاده أولاً من ميليشيا التطرف والإرهاب، والتي ما كان لها أن تتغلغل بهذا الشكل لو كانت هناك جيوش قوية كالجيش المصري.. الذي تحرك في التوقيت السليم حينما وصل الأشخاص الخطأ إلي السلطة وهو نفس ما حدث في ليبيا: وصل الأشخاص الخطأ للحكم فتحرك الشعب مطالباً اللواء خليفة حفتر قائد أركان الجيش الليبي بالتحرك اقتداءً بما فعله الجيش المصري».