"الفقر مش عيب والرجولة في الدم مش في الجيب".. "السمك مهما كبر الحوت هو الأصل".. "اللي يحضر الجن وما يعرفش يصرفه يعرف إن الجن هايقرفه". ليست تلك الكلمات حكماً أو أقاويل نسجها شاعر أو فيلسوف، بل شعارات كتبها سائقو "التوك توك" ليعبروا عما يدور برأسهم وعن قناعاتهم التي تكونت بشق الأنفس بعد أن لفوا كعب داير وتخبطوا في دنياهم، وبعضها جاء صادماً يعبر عن جيل جديد مختلف في رؤيته حتي عن جيل الستينيات والسبعينيات الذي كان يدون عبارات علي سيارات الأجرة مستوحاة من أغاني عبدالحليم حافظ وأم كلثوم. أغلب الشعارات التوك توك مقتبسة من نصوص بعض الأفلام خاصة التي ينتجه آل السبكي والتي أصبحت تعتمد أغلبها علي النجم الأوحد الفنان محمد رمضان المحتكر لدور البلطجي الشرس المهيمن علي منطقته الفقيرة التي تقبع علي أطراف القاهرة في استيحاء لشخصياته التي قدمها مثل عبده موتة أو الألماني، إضافة لشخصية "عشري" التي قدمها عمرو واكد في فيلم "إبراهيم الأبيض" التي رسخت في عقولهم خيانة الصديق لصديقه التي دفعتهم لاقتباس مقولة "تصاحب مين؟ ده حتي عشري باع إبراهيم"، ناهيك عن ظهور أغنية "مفيش صاحب يتصاحب" التي حققت أعلي مشاهدة علي موقع "يوتيوب" وجاءت لتؤكد ظنونهم هذه ورسخت تلك المعاني في عقولهم الصغيرة فأغلبهم لا يتجاوز السابعة عشرة من عمره. المعروف أن تلك الظاهرة ليست وليدة وقتنا هذا ولم تقتصر علي التكاتك فقط ولكنها كانت منتشرة بصورة كبيرة في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، ما دفع الدكتور سيد عويس لكتابة مؤلفه "هتاف الصامتين" الذي حلل فيه شعارات الميكروباصات وأتوبيسات النقل العام انتهاء بالعربات الكارو ومعظمها كان مستمد من الأغنيات الرومانسية للعندليب وكوكب الشرق أو دعوات لمنع الحسد وأشهرها "دي مش ورث دي جاية بخلع الضرس" كذلك تأثر بعضها بالأمثال الشعبية التي توارثوها عن آبائهم وأجدادهم مثل "سيب الزعل وقوم نام ما شيء في الدنيا دام". إلا أن ظهور التوك توك قلب كل تلك النظريات رأسا علي عقب، حيث ظهر جيل كامل لديه شعور بعقدة النقص وهذا ما رصده الدكتور كمال سالم صاحب كتاب "مكتوب علي جدران التوك توك" الصادر قبل ثورة يناير بشهور قليلة الذي يعد أول موسوعة ومرجع من نوعه عن شعارات تلك المركبة العجيبة. "آخر ساعة" رصدت بعض العبارات التي دونها السائقون علي عربات التوك توك الخاصة بهم، وعرفت قصة كل واحد منهم التي دفعته لكتابة مثل هذه العبارات. يقف "إسماعيل" ذلك الشاب الذي أتم عامه العشرين بالكاد بجوار "التوك توك" الخاص به يتحسس جيوبه ليطمئن علي جنيهاته القليلة التي كسبها يلقي نظرة بين الحين والآخر علي المرآة ليطمئن علي هندامه الذي يتأنق في اختياره له فهذه الملابس قد تكون البوابة التي تساعده علي العبور لقلوب الزبائن وقد تمكنه من أن يصبح سائقهم الخاص يطلبونه بالاسم ولم لا؟ فقد أصبح رجلا يعتمد عليه فأسرته بأكملها تعول عليه هم إطعامها وتوفير احتياجاتها الأساسية، يضع "سي دي" يحمل توقيع النجم اللبناني "آدم" وأغنيته الشهيرة "اشمعني أنا" تتر مسلسل "ابن حلال" للفنان محمد رمضان أو "حبيشة" التي يعتبرها إسماعيل انعكاسا لواقعه المرير رغم محاولاته المتكررة لنسيانه فهو يشعر بتقارب شديد بينه وبين البطل الساذج الذي تحول لوحش كاسر بعد تعرضه لظلم بيّن، كما يزين التوك توك بعبارة موجعة وصادمة: "لن أطلب الرحمة من أحد لأنه سيأتي يوم لن أرحم فيه أحد" وبالطبع تعتبر انعكاسا لبركان محموم بداخله قد يخلف لنا مجرما أو بلطجياً. إسماعيل ليس وحده الذي يحمل بداخله آلاما جسيمة وثورة عارمة فها هو"محمود عسلية" كما يلقبه أصدقاؤه وهو مراهق لم يتجاوز السابعة عشرة ولكنه يختلف عن سابقه في أسباب شعوره بالظلم فقد وقع في حب إحدي جاراته التي بادلته هي الأخري الحب وعاشا سويا قصة حب من الطراز الأول ولكنها سرعان ما تخلت عنه لترتبط بصديقه الأقرب "ميخة" ميسور الحال الذي يتمتع بانتمائه لعائلة عريقة، ما جعل عسلية يلعن الحب والصداقة سويا ويزين التوك توك الخاص به بثلاث عبارت هي: "قبر يلمني ولا بت تذلني" و"ذهبت لمكتبة الدنيا أسأل عن حبيب بدون مواجع وصديق بدون مصالح قالوا اذهب لقسم الأوهام" و"بقت فندق وكلهم سياح". تعليقا علي هذه الظاهرة يقول الدكتور كمال سالم صاحب مؤلف مكتوب علي جدران التوك توك: منذ دخول تلك المركبة العجيبة إلي قريتنا في منتصف الألفية الأولي حتي ثارت موجة من الغضب والسخرية من قبل الأهالي ولكن سرعان ماتحولت إلي وسيلة المواصلات الأولي وتهافت علي العمل عليه شباب من ذوي المؤهلات العليا عانوا من شبح البطالة إضافة لموظفين أرادوا زيادة عوائدهم المادية ولكن بمرور الوقت ومع تزايد أعبائه خاصة التراخيص وتضييق الحكومة عليه تحول عنه الكثيرون ليصبح أسير المراهقين الذين لم يتموا العشرين عاما. ويضيف كمال: وقد اهتممت برصد شعاراتهم التي كانت انعكاسا لحالة الظلم والكبت التي يعانون منها من قبل المجتمع الذي ينظر إليهم بأنهم حشرات مهملة أو اضطهادهم من قبل سائقي الميكروباص الذين يتميزون عنهم بالرزق الوفير والسرعة واحترام الناس لهم مما يخلف عقدا تجعلهم يقبلون علي مشاهدة أفلام البلطجة والعنف مما يجعلهم عرضة للتطرف أو الجريمة ومن أمثلة تلك الشعارات"العمدة راجع يابلد المواجع"أو "عايز تعيش ماتعدنيش"و"أنا العميد ياخونة. ويستكمل حديثه فيقول: ولكن بعضهم يستهويه شعور الإحساس بالخيانة من قبل الحبيب أو الصديق فيكتب "خلعت دبلتي وبعت دنيتي" "كان مستحيل أنساك دلوقتي حب ومات" أما عن خيانة الصديق فقد تصدرت كلمات أغنية "مفيش صاحب يتصاحب"جدران التكاتك كذلك "الصاحب الناقص بناقص" "صاحب مصلحتك" كما كانت شخصيتا عبده موتة وإبراهيم الأبيض أحب الشخصيات إلي قلوبهم ويبذلون قصاري جهدهم ليسيروا علي دربها. ويختتم قائلا: منذ عدة سنوات كان صاحب التوك توك يهتم به ويدلله بالشرائط والأكسسوارات الملونة والأضواء النيون ولكن سرعان ما أسرع لمرحلة العجز المبكر والشيخوخة المبكرة ويقل اهتمام الشباب بتنظيفه وتجميله فقد جف الحماس وغاب الأمل وغاصت بحيرة الطموح وهذا مؤشر هام لابد من أن نأخذه في اعتبارنا حتي لاتحدث ثورة ثالثة يكونون هم أبطالها. أما عن رأي علم النفس في تلك الظاهرة فتقول الدكتورة هالة حماد أستاذ علم النفس: تقتصر ظاهرة التوك توك علي المناطق الشعبية المترسخ بداخلها إحساس الظلم والتهميش من قبل الدولة فوجود فارق كبير مع سكان الأحياء الأخري جعلهم عرضة واستقطابا لنوعية الأفلام التي تقوم علي العنف والبلطجة لنهب واسترجاع حقوقهم علي حد اعتقاداتهم كما أن الأغاني الشعبية التي يسمعونها تقوم علي ترسيخ الشعور بالظلم والخيانة من الحبيب والصديق ومن المعروف أن صناع السينما يدركون تلك الخلطة فيعزفون عليها وينتجون أفلاما تضرب علي ذلك الوتر لتحقيق الربح السريع دون معرفة النتائج التي ستخلفها فيما بعد. وتضيف حماد: كما أن أصحاب التوك توك أغلبهم مراهقون لديهم إحساس عال بالتمرد وحاجة ملحة لإثبات الذات فبداخلهم طاقة زائدة لم تستثمر بعد فيوجهونها لأفلام وألعاب العنف إضافة إلي أن معظمهم يود الاستمتاع بتجارب الحب المختلفة فيكتب شعارات تساهم في تعزيز ذلك مثل "سفير الغرام "وعميد كلية الحب قسم الغرام" وغيرها التي تلفت انتباه المراهقات اللاتي يرين فيه فتي أحلامهن الذي يعتمد علي نفسه في كسب قوت يومه وشخصيته المستقلة فتقبل علي التجربة هي الأخري. وتنادي حماد الحكومة بضرورة توجيه النظر لمثل هؤلاء الشباب الذين بداخلهم جروحا عميقة خلفتها المشاكل المتتالية المسئول الأول عن العشوائية التي يعيشونها دون أن توفر لهم مصدر رزق آدمي يقتاتون منه أو تعليمهم صنعة أو التعليم العام الذي ينور بصائرهم. واتفق معها الدكتور علي الجلبي أستاذ علم الاجتماع بجامعة الإسكندرية فيقول: استطاع الدكتور سيد عويس أن يرصد هذه الظاهرة في أوائل السبعينات من خلال رصده لعبارات التاكسي والميكروباص وقد توصل إلي أن معظمها قائم علي محور ديني كالكلمات القرآنية أو عبارات مأثورة مثل: "يقيني بالله يقيني" أو عبارات لدحض الحسد ك "الحلوة من اليابان وصاحبها غلبان" أو التي تعتمد علي أغاني القومية العربية التي انتشرت في تلك الفترة ولكن ظهر التوك توك في أوقات وأزمات اقتصادية صعبة جعلت سائقيها ينضمون لطابور الساخطين علي الحكومات والمجتمع الذي ينظر إليهم نظرة دونية بالإضافة للثقافة التي احتكرها آل السبكي في خلطة أفلامهم والتي تخلق بطلا بلطجيا ليس لديه هدف أو حلم مايهمه سوي الأخذ بالثأر ممن ظلموه أو تكدير المزاج العام مما يجعل ذلك ناقوس خطر بشأن الأجيال القادمة يستلزم التصدي لها بمنع عرض تلك الأفلام والارتقاء بصناعة السينما والأغنيات مع تذليل العوائق لتلك الفئة وتطوير التعليم والقضاء علي البطالة. أما الدكتور صبري حسين الأستاذ بكلية اللغة العربية فقال: تعيش مصر حالة مزرية من حيث تدني المستوي الثقافي فلا ثقافة ولاتعليم مما جعل سائقي التوك توك يقبلون علي كتابة الكلمات الهابطة التي تعبر عن تدني المستوي الأخلاقي ففي الستينات والسبعينات كان هناك حالة من الرقي الثقافي والإنساني مما جعل أصحاب المركبات المختلفة يستعينون بالأمثلة الشعبية أو الأقوال المأثورة التي كانوا يحفظونها عن ظهر قلب في شعاراتهم فكانت مقررة عليهم بالمدارس إضافة إلي أنها كانت تطبق فعليا ويتم العمل بها أمام أعينهم علي عكس الجيل الحالي الذي يفتقد للقدوة الحسنة أو تعليم يثري من ثقافتهم فيلجئون إلي محتوي السينما المتدني الذي يتعلمون منه ألفاظا بذيئة تتردد ليل ونهار