ليلى علوى تتسلم درع التكريم من وزير الثقافة «حلمى النمنم» ليلي علوي.. فنانة وإنسانة تملك الكلمة وتدرك أنها من نور.. شرف الكلمة عندها مقدس.. تزن حروف الكلماة بالماس، بالإضافة لإنسانية عالية في التعامل تجعلها تهتم بكل التفاصيل الخاصة بالناس البسطاء الذين يحيطون بها في البلاتوهات والاستديوهات. ليلي أنيقة ببساطة.. اقترنت موهبتها الجارفة بذكاء شديد.. ثقافتها عالية بلا ادعاء.. لها حضور طاغ. ليلي «جدعة».. صاحبة مروءة وشهامة.. واضحة وصريحة.. لاتخاف في الحق لومة لائم. تعشق أسرتها وعملها فهي فنانة حتي النخاع.. تتمتع بموهبة نادرة منذ صغرها.. مشوارها الفني حافل بالعديد من الأدوار الهامة. لذا كان تكريمها في الدورة الأخيرة للمهرجان القومي للسينما المصرية في موضعه.. ولاقي إقبالا واحتفاء شديدا. علي المسرح بدت متألقة بثوبها الوردي.. وكلماتها الصادقة الرائعة.. ليلي نموذج مشرف للفنانة الواعية المثقفة. التكريم في مصر له طعم آخر.. خاصة أنها تم تكريمها من قبل في العديد من الدول العربية.. آخرها الجزائر في مهرجان وهران حيث قوبلت باحتفاء شعبي ورسمي فاق كل الحدود. وبمناسبة تكريم «ليلي» في المهرجان القومي صدر عنها كتاب بقلم الناقد الكبير أستاذنا «كمال رمزي».. الكتاب يحمل اسمها «ليلي» وفيه تحليلات نقدية رائعة لأعمالها.. وشهادات منها للقاءات وأحداث فنية أثرت فيها.
اللقاء مع يوسف شاهين في «كان».. حيث كانت «ليلي» تحرص هي ونونيا علي متابعة هذا المهرجان.. تستيقظ يوميا في الصباح الباكر لتلحق بحفلة الثامنة والنصف صباحا. معها نوتة صغيرة وقلم تكتب ملاحظاتها.. ليلي ناقدة لها أسلوب رشيق متميز. تعود «ليلي» بذاكرتها إلي عام 1996.. كنت أسير مع سميحة أيوب وسعد الدين وهبة عقب خروجنا من قصر السينما الضخم.. عندما التقينا بيوسف شاهين القادم من اتجاهنا ومعه فيما أذكر «ماريان خوري» وخالد يوسف.. تصافحنا جميعا لكنه قبلني بقوة، علّقنا جميعا علي قبلته بمرح، قبل أن نفترق قال لي إنه راض عني وطلب مني أن أخفف من وزني.. بعد عودتي للقاهرة جاءت مكالمة تليفونية من مكتب يوسف شاهين تحدد لي موعدا مع الأستاذ، انتابني القلق الممتع الممتزج بالأماني.. لم أكن أحتاج لأدوار كي أمثلها ولكني أحتاج للعمل مع يوسف شاهين.. ذهبت في الموعد.. استقبلني الأستاذ بدفئه المطمئن وسلمني سيناريو «المصير».. وقال لي بوضوح «مانويللا» كان من المفترض أن تؤديه صديقتي «يسرا» لكنها مشغولة بالمسرح. عدت إلي البيت.. قرأت السيناريو فلمس قلبي وعقلي.. أفكار الفيلم.. مضمونه ورسالته علي درجة عالية من نفاذ البصيرة. إن شخصية «الغجرية» ليست متوفرة في المجتمع المصري وبالتالي لا وجود لها في السينما.. الغجر عندنا أقرب للبدو ولا علاقة لهم بغجر أسبانيا أو البلقان. وبالنسبة لي كانت زميلاتي في المدرسة يطلقن (عليّ) لقب «جيبسي» أي الغجرية ربما للون عينّي أو بسبب طريقتي في المواجهة، وقد يكون لقوة «بنياني».. أيا إن كان السبب فإن حلم «الغجرية» المطمور في داخلي غدا ملموسا مجسدا أمامي علي الورق.
وقبل أن نتصفح بعضا مما كتبه ناقدنا الكبير علي لسان «ليلي علوي».. فلابد من ذكر حلقة لايعرفها الكثيرون عن ليلي ونشاطها الخيري غير المرتبط بمسميات رسمية بل نابع من قناعاتها الخاصة.. منذ سنوات طويلة وكانت في عمر أقل بكثير.. حرصت علي تبني خمسة من الأطفال كبروا اليوم وشبوا عن الطوق وشقوا طريقهم في الحياة ومازالت «ليلي» ترعاهم وغيرهم آخرون. في الأشهر القليلة الماضية عندما كانت تشارك في برنامج «المذيع» الذي يتم تصويره في (بيروت) حرصت ليلي رغم إصابتها في الفقرات العنقية وصعوبة الحركة بالنسبة لها.. إلا أنها أصرت علي القيام بعدة زيارات لمعسكرات اللاجئين السوريين في لبنان وأمضت عدة أيام وسط الأطفال والنساء.. أضفت عليهم البهجة وحملت للصغار الكثير من الهدايا.. إنه العطاء بلا حدود بدافع الإنسانية وبعيدا عن كل دعاية وإعلان.. وهو شيء ليس بغريب علي ليلي.. فمن قبل كانت لها زيارات لأطفال ولاجئي (دارفور) بالإضافة إلي أنه ما من مناسبة تخص الأطفال الأيتام في مصر أو المرضي إلا وشاركت فيها عن طيب خاطر.
حين تعمل مع يوسف شاهين والكلام لليلي كأنك تعمل مع مؤسسة كاملة: الدقة، النظام، الترتيب، الانضباط كل شيء محسوب ليست هناك صدفة اللهم إلا الأحداث القدرية الخارجة عن سيطرة الإنسان والأهم: احترام الوقت الأمر الذي لا يتحقق إلا باستكمال التجهيزات كافة بما في ذك تحديد توقيت تصوير هذا المشهد أو ذاك أثناء الفجر أو وسط النهار أو لحظات الغروب مع مراعاة توفر أصغر أدوات الإكسسوار وأماكن الممثلين قبل وبعد التصوير.. إنه يحيط ممثليه بكل أسباب الراحة كي يتفرغ كل منهم لمعايشة اللحظة التي يؤديها. بعد قراءتي للسيناريو طلبني يوسف شاهين.. توقعت مناقشته لي في الشخصية التي سأقوم بها.. فوجئت بأنه نحّي السيناريو وبدأ يسألني عن نفسي من أنا من هم أعضاء أسرتي أصدقائي.. ما أحبه.. كيف أري ذاتي وكيف أري الآخرين. كانت جلسة ممتعة جعلتني أحب جوانب في نفسي وأصر علي أن تظل باقية ومنها الصراحة والصدق والمواجهة مهما كان الثمن فادحاً.. وقال لي بحكمة: الصدق مهم جداً للإنسان وبالذات الممثل.. فالكذب يظهر بوضوح في عيني الكذاب والصدق يتجلي في عيون الصادقين. يمكنني القول إن ثمة ما يمكن تسميته (الجو الشاهيني) وأقصد به ذلك المناخ الذي يشيعه يو سف في مكان التصوير.. فكل واحد من مساعديه يعرف عمله تماماً وبمهارة وعفوية يستطيع يوسف شاهين أن يقيم علاقة إنسانية حميمة مع جميع العاملين معه سواء كبار النجوم أو أصغر مساعد لعامل إكسسوار.. إنه يبدو صديقا خاصاً لكل من يتحدث معه .. هذا الجو يجعل من العمل متعة ويجلب الطمأنينة لقلوب الجميع.
وتواصل ليلي شهادتها ورؤيتها فتتذكر أنه في «المصير».. كانت هناك عدة مواقف جوهرية محورية شديدة الأهمية أحسب أن قيمتها بالنسبة لي ذلك المشهد الذي يُغتال فيه محمد منير حبيب «مانويللا» ورد فعلها وهي بجانبه إزاء جسده الدامي. عادة رد الفعل أمام الموت في الأفلام المصرية يتمثل في الصراخ أو الإجهاش بالبكاء كنا يوسف شاهين وأنا نريد شيئاً مختلفاً.. تعبيراً يبتعد عن السائد والمألوف. حادث مؤلم وقع في الليلة السابقة علي تصوير هذا المشهد كنا في بلدة سورية تبعد ساعتين بالسيارة من دمشق وعند الفجر طرق باب حجرتي مساعد الإخراج والمخرج لاحقاً خالد يوسف أخطرني أن والدي توفي إلي رحمة الله باغتني الخبر انتابني صمت تام حزنت حزناً مراً دفيناً كنت أقرب للذهول. خلال ساعات قليلة وبلمسة إنسانية رقيقة قرر يوسف شاهين تأجيل التصوير وحجز لي مقعداً بأول طائرة ذاهبة إلي القاهرة وفعلاً جئت إلي مصر حضرت الجنازة وفي اليوم التالي عدت إلي سوريا. في الموقف العاصف لمصرع الحبيب كنت ممتلئة بأحزان صامتة من أجل والدي وتعمدت عدم العويل أو الضرب علي الصدر أو البكاء بصوت مسموع، لم أتنفس ولم أتحرك فقط عبّرت بنظرتي من مزيج مركب من انفعالات متضاربة ما بين عدم التصديق، الذهول، الصدمة العشق الجامح، الإدراك.. المؤلم أن العلاقة الأجمل انتهت ساعدني الو ضع الذي اختاره لي يوسف شاهين علي الإحساس بهذه الانفعالات كان الوقت ليلاً.. العتمة تصارع الضياء و أنا راكعة علي ركبتي فوق بلاط الحارة البازلتي لا صوت إلا صوت الشخاليل الملفوفة حول عنقي ورسغي التي لا تُسمع إلا حين تحركت بدافع الغضب وأمسكت بالحربة لأقذفها نحو هاني سلامة الذي ظننت للحظة أنه سبب مقتل الحبيب. يبقي الكتاب (وثيقة) و«شهادة» تقدير لأعمال فنانة أثرت حياتنا الفنية وأمتعتنا كثيرا.