عيار 21 يعود لسابق عهده.. أسعار الذهب ترتفع 440 للجنيه اليوم الثلاثاء 15 يوليو بالصاغة    الصفقة السابعة.. غزل المحلة يتعاقد مع لاعب منتخب الكاميرون للشباب    محمد حمدي: الظروف لم تساعدني في الزمالك.. وكنت أرحب باللعب للأهلي    محمد صبحي يوافق على الانتقال لبيراميدز (خاص)    إصابة 6 أشخاص فى حادث تصادم على طريق طنطا    أحمد وفيق: جلال الشرقاوي دعمني بعد رفضي من معهد الفنون المسرحية    قوات الاحتلال تقتحم عدة مناطق في جنين    مستوطنون يحرقون مخزن سيارات «شرق رام الله» بالضفة الغربية    الاحتلال يقتحم ضواحي طولكرم ويعتدي على مواطنين ويعتقل أحدهم    الانتخابات المنسية    القضاء الإداري يصدر أحكاماً في طعون انتخابات مجلس الشورى (تفاصيل)    الأوقاف تُطلق الأسبوع الثقافى ب27 مسجدًا على مستوى الجمهورية    «جنة كرة القدم».. أول تعليق من محمد شريف بعد عودته ل الأهلي    «مش هيسافر مع الأهلي وهتحصل مشكلة».. شوبير يكشف مفاجأة جديدة عن وسام أبوعلي    سعر السبيط والجمبرى والأسماك بالأسواق اليوم الثلاثاء 15 يوليو 2025    السيطرة على حريق في مخلفات غزل ونسيج بالغربية    «الطقس× أسبوع».. نشاط الرياح على بعض الشواطئ وأمطار رعدية متفاوتة الشدة بالمحافظات    سعر الفراخ البيضاء والبلدى وكرتونة البيض بالHسواق اليوم الثلاثاء 15 يوليو 2025    4 أبراج «بيبصوا لنُص الكوباية المليان».. متفائلون دائمًا يحولّون الأزمات لمواقف مضحكة    مين فين؟    أمين الفتوى: صلاة المرأة في الأماكن العامة ليست باطلة (فيديو)    المنقلبون على أعقابهم!    لتجنب انخفاض الكفاءة والعفن.. طريقة تنظيف الغسالة في 4 خطوات بسيطة    علاج شعبي ونبات رسمي لولاية أمريكية.. التين الشوكي فاكهة ذات 12 فائدة    بمكونات موجودة في المنزل.. 5 طرق طبيعية للقضاء على ألم الأسنان    روبيو: أولوية ترامب إنهاء النزاع في أوكرانيا وعدم امتلاك إيران للأسلحة النووية    أسعار الخضروات اليوم الثلاثاء 15-7-2025 في قنا    ضحية واقعة "شهاب سائق التوك توك": وثّقت الحادثة للتقويم لا للتشهير.. والداخلية تحركت فورًا    أسعار اللحوم البلدي والكندوز اليوم الثلاثاء 15-7-2025 في الأسواق ومحال الجزارة بقنا    "الإفريقي للتنمية" يقدم منحة بقيمة 62 مليون دولار لاستعادة الخدمات الأساسية في السودان    مصر العاشر عالمًا في تحسن الأداء السياحي بالربع الأول من 2025    اليونيسف تنعى 7 أطفال قُتلوا أثناء انتظارهم للحصول على الماء في غزة    غزل المحلة يضم الظهير التنزاني رحيم شوماري    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 15-7-2025 في محافظة قنا    لأول مرة.. 6 محطات عالمية في الموسم الجديد لسباق زايد الخيري    فاينانشيال تايمز تنصح المستثمرين الأمريكيين بتوخي الحذر من التراخي في تطبيق التعريفات الجمركية    الجيش الإسرائيلي يعلن عن مقتل ثلاثة جنود في معارك شمال قطاع غزة    بالزيادة الجديدة، صرف معاش تكافل وكرامة لشهر يوليو اليوم    حمادة المصري: الأهلي لا يملك البديل المناسب لوسام أبو علي    "الوطنية للانتخابات" تطلق "دليلك الانتخابي" عبر الموقع الرسمي وتطبيق الهيئة    أحمد زاهر يشيد بديو "الذوق العالي" لتامر حسني ومحمد منير: حاجة عظمة    سينتيا خليفة تدخل المستشفى بسبب تسمم غذائي خلال إجازتها في لبنان    رئيس الوزراء يصدر قرارا بالتشكيل الجديد للمجلس الأعلى للثقافة    مجازر إسرائيلية جديدة بغزة.. 24 شهيدا فى قصف منازل حى الزرقا وتل الهوى    الداخلية تلقى القبض على شخصين تعديا على 3 سيدات بالضرب بالدقهلية.    نتيجة الثانوية العامة الأسبوع الأخير من يوليو    رئيس مجلس القضاء الأعلى يصدر حركة تغييرات محكمة النقض    «الأزهر العالمي للفتوى» يعلن خارطة فقهية للتعامل مع نوازل الزواج والطلاق    كوادر بشعار «أنا مسئول» |«الوطنية للتدريب» تطلق مبادرات تمكين المرأة والشباب    هيئة الإسعاف عن دخول أول إسعاف بحري الخدمة بالإسكندرية: نقلة جديدة تخدم قطاع السياحة    محافظ المنيا يعلن غدا انطلاق حملة «100 يوم صحة» لتقديم الخدمات الصحية في القرى الأكثر احتياجًا    أناقة الذهب تزيّن إطلالة سيرين عبد النور.. ما سبب اختيار لون الفستان؟    كيفية تطهر ووضوء مريض القسطرة؟.. عضو مركز الأزهرتجيب    رايات خضراء وصفراء على شواطئ الإسكندرية مع تزايد إقبال المصطافين هربا من الحر    فيديو .. طفل يقود سيارة على الطريق الدائري.. والداخلية تتحرك فورًا    محمود فوزى: الصحافة البرلمانية شريك رئيسي في دعم الشفافية وتعزيز الحوار الديمقراطي    خالد الجندي: محبة الله أساس الإيمان وسر السعادة في المساجد    السعيد حويلة.. قصة 45 سنة حداد ماكينات ري الأراضي الزراعية بكفر الشيخ: بحبها من صغري ومعنديش شغلانة غيرها (صور)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«آخرساعة» ترصد معديات النيل المتهالكة
العبور إلي الموت
نشر في آخر ساعة يوم 07 - 04 - 2015

تاريخٌ أسود لكوارث المعديات النيلية التي تحصد أرواح المواطنين، يتجدد كل يومٍ مع تردي أوضاع المعديات المتهالكة غير المطابقة لمواصفات الملاحة النهرية، والتي لا تتوافر بها أدني اشتراطات السلامة والأمان. سيلٌ من التصريحات الحكومية ينهال علينا بعد كل كارثة، والتي كان آخرها غرق معدية مدينة "سمالوط" بالمنيا، والتي راح ضحيتها 30 مواطناً سقطت سيارتهم من أعلي المعدية. وعودٌ بتطوير منظومة النقل النهري والاستغناء عن بعض المعديات بإنشاء كباري جديدة، اعتاد المسئولون إطلاقها كمسكناتٍ تمتص غضب الأهالي، بينما لا نسمع عنها إلا بحلول كارثةٍ جديدة، قبل أن تسارع كل جهة بإلقاء المسئولية علي الجهة الأخري، في ظل تعدد الجهات المعنية بمنظومة المعديات والرقابة عليها من المحليات بالمحافظات وهيئة النقل النهري وإدارة حماية النيل التابعة لوزارة الري.
لم يكن غريباً أن تقع النسبة الأكبر من كوارث المعديات بمحافظات الصعيد -المنسية دوماً-. من محافظة بني سويف - مفتاح الصعيد- نبدأ جولتنا لرصد ما تعانيه المعديات النيلية من إهمالٍ يهدد أبناء المحافظة التي يشطرها نهر النيل لمسافة تزيد علي 100 كيلو متر. ندرة الكباري المُقامة بالمحافظة ضاعفت من اعتماد أهالي بني سويف علي هذه المعديات كونها الوسيلة الوحيدة للربط بين ضفتي النيل بالمراكز الواقعة عليه. خمسُ معدياتٍ رئيسية تتوزع بين قري غرب النيل وشرقه كان لها حيز كبير من التاريخ الأسود لحوادث المعديات التي أودت بحياة العشرات من أبناء المحافظة، منها معدية قرية بني حيدر بمركز الواسطي، ومعدية أشمنت بمركز ناصر، ومعدية الشراهنة بمركز الفشن، إلا أن معدية قرية كفر ناصر التابعة لمركز ببا تعد أكثر تلك المعديات حصداً للأرواح.
ثلاث ساعات ونصف هي المدة التي استغرقناها لنصل إلي مشارف القرية الواقعة في أقصي الحدود الجنوبية لمحافظة بني سويف، نسألُ عن الطريق المؤدي إلي معدية "كفر ناصر" لنلمح النيل يتمدد أمامنا في نهاية طريقٍ ترابي طويل. علي المرسي المحاذي للشاطئ يقف عدد كبير من الأهالي في انتظار وصول المعدية الضخمة القادمة من البر الشرقي، منهم من يجر وراءه مواشيه، بينما يمتد صفٌ طويل من سيارات النقل الثقيل وسيارات الأجرة والدراجات البخارية، في مشهدٍ قد يبدو عبثيا لمن لم يعتد ركوب المعديات. "أصحاب المعدية مبيفرزوش يا أستاذة، الناس بتركب مع البهائم والعربيات" يقولها أحد الأهالي ساخراً وهو يُشير إلي المعدية التي وصلت لتوها إلي المرسي قبل أن تفرغ حمولتها استعداداً لبدء رحلة جديدة.
مجازفةٌ يومية يخوضها الأهالي باستقلالهم المعدية التي تربط مركز ببا بقرية غياضة الشرقية التابعة لمركز الفشن، أنظر إلي هيكلها المعدني المتهالك والحمولة الهائلة التي تستقر علي ظهرها، لأدرك مأساة أهالي البلدة التي اعتادت تجرع حسرات موت أبنائها غرقاً في حضن النيل. يبدو الحديث عن كوارث المعديات مألوفا لدي الجميع هنا، يحتفظ كل منهم في ذاكرته بقدرٍ وافرٍ من مشاهد حوادث الغرق التي تتكرر كل فترة، والتي كان آخرها كما يخبرني حسن علي أحد سكان قرية كفر ناصر، غرق 12 من مشيعي إحدي الجنازات أثناء استقلالهم المعدية للانتقال إلي البر الشرقي.
يستعيد حسن تفاصيل الكارثة التي كان شاهداً عليها: كانت المعدية تحمل عدداً هائلاً من مشيعي الجنازة، وقبل أن يتأهبوا للنزول فوجئنا بالباب يسقط بهم لتبتلعهم مياه النيل، فالقائمون علي المعدية لا يغلقون أبوابها طمعاً في استيعاب مزيد من الركاب، ورغم أن المعدية كانت قريبة من الشاطئ لم نفلح في إنقاذ عدد منهم، ولم تأتِ وحدات الإنقاذ النهري إلا بعد مرور ثلاث ساعات من الحادثة. ظن حسن أنني أسخر منه عندما سألته عن مدي توافر وسائل الإنقاذ وسترات النجاة في المعدية، يضحك بحسرةٍ وهو يُشير بإصبعه صوب بضع إطاراتٍ مهترئة تتناثر علي حوافها الحديدية "ربنا هو المنقذ".
نصعد أعلي المعدية مع الركاب والسيارات التي تتوافد بعشوائية دون أي نظام لتملأ سطحها. من وراء دفة القيادة يرمقنا ريس العبّارة بحذر، بينما ينصحنا عبدالله سلامة أحد أهالي القرية أن نخفي هويتنا والكاميرا التي نحملها، معللاً: أصحاب المعدية يُرهبون الأهالي هنا ويتحكمون في كل شيء، يمنعون من يعترض علي ممارساتهم من الركوب مستغلين حاجتنا لها. يُشير إلي إحدي المعديات الراسية علي الضفة الأخري: لدينا معدية حكومية تتبع مجلس المدينة لكنها متوقفة ولا تعمل إلا شهرين في السنة، ورغم أن المحافظة أنفقت عليها 7 ملايين جنيه إلا أن القائمين عليها يتعمّدون تعطيلها لصالح أصحاب المعدّية الخاصة، لندفع الثمن من أرواحنا.
فالكارثة الحقيقية التي تقف وراء معظم الحوادث هنا كما يخبرني سلامة تتمثل في الحمولة الزائدة التي يسمح بها أصحاب المعدية. يتابع : للأسف هؤلاء لا يهمهم غير الأجرة التي يحصدونها من السيارات وبخاصة أجرة النقل الثقيل التي تصل إلي 50 جنيها، فيقومون بتحميل أكثر من 7 سيارات في الدور الواحد، وكثير منها تكون محمّلة بأطنان من الزلط والرمل، رغم أن حمولتها يفترض ألا تزيد علي 3 سيارات بهذا الحجم. يُشير بأصبعه صوب أبواب المعدية المفتوحة علي مصارعيها: كثير ما تسقط سيارات من أعلي المعدية أثناء عبورها النيل، ولأنها غير مؤمنة أيضاً بموانع الانزلاق، والكارثة أنها تجرف في طريقها من يقف أمامها من الركاب والسيارات الأخري، بينما لا توجد أي رقابة من جانب شرطة المسطحات أو مجلس المدينة.
لا تقتصر الكارثة في محافظة بني سويف علي المعديات الآلية غير المطابقة لمواصفات الملاحة النهرية، بل تمتد إلي عشرات المعديات اليدوية الصغيرة المُقامة علي الترع المتفرعة من ترعة الإبراهيمية، وترع ميدوم والزاوية والجيزاوية التي تربط بين القري التابعة لمركز الواسطي ومركز ناصر شمال المحافظة. من أمام قرية بني عدي تمسك فوزية محمد بأطفالها بينما تتشبث بصعوبةٍ بحافة المعدية لتعبر إلي الضفة الشرقية. قطعة خشبية متهالكة وحبلٌ يربط بين الضفتين هي المعدية التي يستقلها أهالي القرية للوصول إلي الطريق الرئيسي. مساحة الترعة التي لا يتجاوز عرضها خمسين متراً لا تحد من خطورة الحوادث التي يتعرض لها الأهالي، "في الشتاء الهواء بيضرب المعدية وبتتقلب في نص الترعة" تقول فوزية وهي تستحضر حوادث غرقٍ راح ضحيتها أطفال عدة من أبناء القرية، مطالبةً مسئولي المحافظة بإقامة جسر آمن للمشاة يربط بين الضفتين.
لم تكن المعديات النيلية بمحافظات الدلتا أفضل حالاً من تلك الموجودة في الصعيد، نتابع جولتنا إلي محافظة المنوفية حيث تنتشر المعديات التي تعبر فرع رشيد والرياح البحيري باتجاه محافظة الجيزة لمسافة تصل إلي 200 متر، 15 دقيقة يقطعها أهالي مركز أشمون ليصلوا إلي قرية أبو غالب علي ضفة الظهير الصحراوي لمحافظة الجيزة. دقائق تمر ثقيلة علي آلاف العمال الذين تحملهم المعّدية يومياً إلي أعمالهم بمزارع الحاجر ووردان وأبو غالب، لا يثقون بأنهم سيعودون إلي بيوتهم سالمين بعد تعدد حوادث المعديات الثلاث التي تغطي 28 قرية بمركز أشمون.
عند وصولنا كانت في انتظارنا معدّية نصف آلية متوسطة الحجم، لا يوجد بها دفّة للتحكم في اتجاهها، بينما تعتمد علي "واير" معدني يحدد خط سيرها من الشرق وحتي الغرب. بنظرةٍ عابرة تستطيع أن تري جلياً طبقات الصدأ التي تُغطي أسفل هيكلها المتهالك. يذهلني عدد السيارات الذي تحمله معدّية بهذا الحجم، بعضها محمّل بعشرات العمال العائدين من مزارعهم. يخبرني حمدي عبدالعال أحد أهالي أشمون أن خطورة هذا النوع من المعدّيات تتمثل في حوادث الانقطاع المتكرر للسلك المعدني الذي يسحبها من الاتجاهين، ما يؤدي إلي اختلال توازن المعدّية، وكثيرا ما نُحاصر عليها وسط النيل لأكثر من ساعتين، حتي نجد مركباً يسحبنا إلي البر.
يتابع عبدالعال: عشرة عمال من أهالي البلدة فقدوا أرواحهم بعد سقوط السيارة التي كانت تحملهم من فوق المعدّية قبل بضعة أشهر، الحمولة الزائدة تسببت في انحراف المعدية بعد أن انفلت الواير الذي يثبتها. لا أحد يراقب صيانة هذه المعديات، ولم نرَ أيا من أصحابها تعرض للمحاكمة بسبب هذا الإهمال الذي يحصد أرواحنا، حتي التعويضات لا تُصرف دائماً لأهالي الضحايا. بعد كل حادثة يأتي المحافظ ورئيس المدينة وجميع المسؤولين ليكرروا وعودهم بحل الأزمة، ولا نري وجوههم إلا بحلول كارثةٍ جديدة. ويوضح عبدالعال أن تقاعس المسؤولين عن الالتفات إلي مطلبهم الأوحد بإنشاء كوبري جديد يصل محافظة المنوفية بالجيزة، جعل الأهالي مرغمين علي "معديات الموت" لأن أقرب كوبري يقع في منطقة طملاي بمركز منوف الذي تفصلنا عنه ساعة ونصف علي الطريق الزراعي.
نكملُ الجولة إلي جزيرة الورّاق لنصل إلي محطتنا الأخيرة التي تجسّد أبعاد المأساة التي يعيشها ركّاب المعديات. النيل الذي يُطوّق الجزيرة الأكبر في مصر ويمنحها الحياة، بات مُطبقاً علي رقاب سكانها لما يعانونه من جحيمٍ يومي باستقلال المعديات التي تعد وسيلتهم الوحيدة للوصول إلي العالم الخارجي، في ظل انعدام أي روابط برية تصل الجزيرة بالمحافظات الثلاث التي تحدها. سبع معديات فقط تربط الجزيرة التي يتعدي سكانها 100 ألف نسمة بمحافظات القاهرة والقليوبية والجيزة التي تتبعها إدارياَ. إلا أن المأساة الحقيقية تجدها عند المدخل الرئيسي للجزيرة الذي تصل إليه من منطقة شبرا الخيمة.
أغلب المعديات هنا مخصصة لنقل الركاب فقط، طوفانٌ بشري هائل يفاجئني وأنا أقترب من مرسي المعدية الرئيسية بالجزيرة. منحدرٌ ترابي خطِر وممر ضيق من قطع الخشب المتهالك مثبت علي شاطئ النيل هي كل ما يحويه المرسي. هنا تحتاج إلي مهارة لاعبي الأكروبات لتجتاز الطريق إلي المعديّة التي لا تكاد تجد فيها موضعاُ لقدمك. يُبادرني حسن إسماعيل أحد سكان الجزيرة وهو يعبر بجواري إلي داخلها: أخطر ما نواجهه هنا مراسي المعديات غير الآمنة، التي يغرق بسببها كثير من الأهالي وبخاصة الأطفال الذين يسقطون في المياة عند النزول من المعدية أو الصعود إليها، ورغم أن هناك مرسي حكوميا انتهت المحافظة من إقامته قبل عامين، إلا أنه لم يعمل وتحوّل إلي مقلب للقمامة.
"لما أولادي بيركبوا ببقي حاطط إيدي علي قلبي" يقولها محمود مصطفي وهو يُشير إلي مجموعة من الركاب تتشبث ببوابة المعدية بفعل الزحام الهائل الذي يحيطنا، يستعيد محمود حادث غرق أخير راح ضحيته طفلان من أبناء الوراق: رعونة القائد تتسبب أحيانا باصطدامها بحافة المرسي الترابي، وحتي وإن كان التصادم بسيطاً يختل توازن الركاب وهذا ماحدث في ذلك اليوم الأسود للأسف لم نتمكن من نجدة الطفلين بسبب تدافع الأهالي، غير الأعطال المتكررة التي تحدث في المعدية ونقف إثر ذلك ساعات طوالا وسط النيل الذي يتجاوز عرضه هنا 500 متر. اهتزاز أرضية المعدية التي تشق النهر ببطء صوب جزيرة الوراق يكمل لي المشهد الذي يصفه لي.
تبدو لي المعدية في قِدمها بعمر أحمد تمساح قائدها الذي يخبرني أنه لم يعرف خلال سنوات عمره الستين غير هذه المهنة التي ورثها عن أبيه. يري تمساح أن حوادث المعديات "قضاء وقدر" من الوارد حدوثها مثلها مثل غيرها من وسائل المواصلات، وليست ناجمة عن تقصير أو إهمال من أصحاب المعدّية. بينما يحمّل الحكومة مسئولية بعض هذه الحوادث. يُشير بأصبعه صوب الحشائش والبوص الذي يغطي مساحة كبيرة من سطح نيل الوراق: انتشار هذه الحشائش وتراكم طبقات الطمي أسفل المجري الذي تسلكه المعدية يؤدي إلي تكرار الأعطال، خاصة عندما يقل منسوب المياه. وزارة الري وإدارة حماية النيل التي يفترض أن تقوم بتطهير المجاري الملاحية لا تقوم بأي دور في ذلك، ويحملوننا أخيراً مسؤولية كل شيء.
وعن الخطوات التي يتبعها لترخيص المعّدية يقول: الترخيص يبدأ من المزايدة التي تعقدها الهيئة العامة للنقل النهري كل ثلاث سنوات، ندفع فيها ما لايقل عن 250 ألف جنيه، علي أن يتم تجديد الرخصة كل سنتين وفق شروط تضعها الهيئة بإجراء فحص شامل للمعدية، كما يشترطون علينا أن يكون أفراد طاقم العمل من حاملي رخص الملاحة النهرية. ورغم أنني أستهلك ما يقرب من طن سولار أسبوعيا لتشغيل المعدية يكلفني أربعة آلاف جنيه، غير ما أدفعه من الضرائب والتأمينات، إلا أنني لم أرفع التعريفة علي الركاب والتي لا تتجاوز نصف جنيه.
نحمل مشاهداتنا ونضعها علي طاولة اللواء سمير سلامة رئيس الهيئة العامة للنقل النهري الذي أكد ل"آخر ساعة" أن الهيئة بدأت بتطبيق خطة موسعة لإحكام الرقابة علي منظومة المعديات النهرية، لتلافي الحوادث التي تقع بين الحين والآخر. مشيراً إلي أن عدد المعديات النهرية المرخصة التي تعمل بشكلٍ آلي تتجاوز 100 معدية، موزعة علي فروع النيل والرياحات والترع المتفرقة مابين الوجه القبلي والبحري، بينما يصل عدد المعديات غير الآلية إلي 150 معدية، معظمها تدار من قبل الأهالي. يتابع: ولكن يجب أن نفرق هنا بين نمطين من التبعية، فالمعديات التابعة للهيئة هي التي تربط بين محافظة وأخري، بينما تعد الوحدات المحلية هي المسئولة عن المعديات الواقعة داخل المحافظة الواحدة.
ويوضح اللواء سلامة أن إجراءات الترخيص التي تشترطها الهيئة تتضمن إلزام صاحب المعدية بتطبيق الاشتراطات الفنية التي تجعل المعدية مطابقة لمواصفات الملاحة النهرية، بدءاً من سلامة الهيكل وخلوه من أي خلل أو تسريب، وحجم الحمولة التي تحدد في الترخيص بالتناسب مع حجم العبارة والتقويات الموجودة فيها، غير وسائل التثبيت وكفاءة الأبواب المخصصة لإفراغ الحمولة. كما نشترط توافر وسائل للإنقاذ من سترات النجاة والقوارب وطفايات الحريق، غير رخص القيادة النهرية التي نلزم صاحب المعدية بإصدارها لأفراد الطاقم، مع ضرورة وجود ميكانيكي لإصلاح أي عطل مفاجئ. ويشير إلي أن الهيئة تشترط أيضاً مواصفات أمان محددة لمراسي المعديات.
ويشدد سلامة علي أن هيئة النقل النهري لا تقوم بإصدار أي ترخيص دون أن تستوفي المعدية هذه الشروط. متابعاً: تجديد التراخيص يتم كل سنتين بإجراء فحص شامل للمعدية في ورش تابعة للهيئة للتأكد من صلاحيتها، كما بدأنا في تطبيق خطة للمرور المفاجئ علي المعديات في مختلف المجاري الملاحية، بتشكيل حملات تشمل شرطة المسطحات ومفتشي الهيئة بالتعاون مع منسوبي إدارات الملاحة الداخلية بالمحليات لإحكام الرقابة علي المعديات، ونقوم بإيقاف أي عبارة تُخالف هذه الاشتراطات لحين توفيق أوضاعها. مؤكداً أن معظم الحوادث تقع نتيجة عدم التزام أصحاب المعديات بالحمولة المسموحة لهم، وعدم مراعاتهم إغلاق الأبواب أثناء الإبحار ما يسمح بسقوط السيارات من فوقها.
بينما يؤكد المهندس أحمد فتحي مدير إدارة حماية النيل بوزارة الري والموارد المائية أن وزارة الري ليست مسؤولة عن مخالفات تشغيل المعديات النيلية، فدورها يقتصر علي التصديق علي تراخيص التشغيل بعد حصول صاحب المعدية علي موافقة هيئة الحماية المدنية وشرطة المسطحات، وموافقة الهيئة العامة للنقل النهري علي صلاحيتها من حيث المتانة ومواصفات الإنشاءات. إلا أن المسئولية الرئيسية لوزارة الري تتحدد في إصدار تراخيص المراسي الخاصة بالمعديات، وتعد الوحدات المحلية التابعة لمجالس المدن الجهة المسئولة عن أعمال التكريك وتطهير المجاري الملاحية للمعديات.
ويفجر المهندس أحمد ل"آخر ساعة" مفاجأة بتأكيده أن هناك العشرات من المعديات المنتشرة علي نهر النيل وفروعه غير مرخصة. مؤكداً أن جميع مراسي المعديات التابعة لجزيرة الوراق عشوائية ولم تخضع لأي ترخيص، متابعاً: حررنا محاضر عديدة وأصدرنا قرارات إزالة لهذه المراسي، لكن للأسف لم تبدأ شرطة المسطحات والجهات التنفيذية في تطبيقها حتي الآن.
ويرجع الدكتور حمدي برغوث خبير النقل النهري الكوارث الناجمة عن حوادث المعديات إلي فشل منظومة بأكملها كما يشير، مؤكداً أن استمرار المنظومة علي ما هي عليه ينبئ بكوارث قادمة، ما يجعلنا في أمس الحاجة لإجراء إصلاح جذري وإعادة هيكلة لمنظومة المعديات النيلية علي أسس علمية سليمة. يتابع: معظم المعديات غير صالحة فنياً، فالخلل يبدأ من تصنيع المعديات الذي يتم بشكل فردي وبصورة بدائية، وبتصميمات لاتتبع أي معايير هندسية صحيحة، حتي وإن أُخذ بالشكل الهندسي العلمي في التصميم لا يُنفّذ بطريقة سليمة لأن التقنيات المتبعة في ورش تصنيع قديمة ولم يطرأ عليها أي تطوير. غير أن القائمين علي هذه المعديات معظمهم لا يفقهون شيئاُ في أسس الملاحة النهرية، ولا يؤدي مهندسو الفحص أي رقابة فعلية علي مدي التزام أصحاب المعديات بإجراءات الصيانة والسلامة المطلوبة.
ويري الدكتور حمدي أن طرح فكرة الكباري بديلاً عن المعديات أمر غير مجد وسيحمل الدولة تكلفة مالية هائلة، فالمعديات تعد وسيلة نقل اقتصادية يمكن استغلالها أيضاً لزيادة الاستثمارات بقطاع النقل النهري. ويقترح حمدي أن يبدأ كل محافظ بالتعاون مع الخبراء في هذا القطاع بدراسة حجم الحركة اليومية للركاب والسيارات بين ضفتي النيل في المحافظة، وعلي أساسها يعد خطة تحدد مواصفات وعدد المعديات التي تحتاجها المحافظة للحد من الحمولة الزائدة، ويطرحها في صورة مشروعات استثمارية علي القطاع الخاص ولدينا شركات كثيرة مؤهلة لذلك. بحيث تتضمن مشروعات التطوير عمل تصميمات متكاملة لمراسي مغطاة للمعديات ومحطات لانتظار الركاب، ووحدات مرور لتنظيم دخول المركبات وعربات النقل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.