«جريمة لا تُغتفر».. أول تعليق من وزير التعليم على وقائع مدرسة سيدز    إقبال المصريين على سفارة مصر بباريس في اليوم الثاني للتصويت بانتخابات مجلس النواب    إدراج 29 جامعة مصرية في تصنيف QS 2026.. والقاهرة تتصدر محليا    أكاديمية مصر للطيران للتدريب توقع اتفاقية تعاون مع شركة أيركايرو    تمويلات ضخمة لتسمين الماشية.. «الزراعة» تعلن أرقامًا قياسية في مشروع البتلو    التعليم العالي: "إيراسموس" ركيزة أساسية لتطوير وتدويل التعليم العالي في مصر    وزيرة التخطيط: زيادة الإنفاق على التعليم الفني والتدريب وقائمة من الإصلاحات الهيكلية لريادة الأعمال    «رحمي»: تمويل 493 ألف مشروع ب22.7 مليار جنيه من 2022 وحتى الآن    كييف تبحث مع شركائها الأوروبيين خطواتها المقبلة بعد طرح خطة السلام الأمريكية    ستارمر يعلن عن لقاء دولى خلال قمة العشرين لدفع جهود وقف إطلاق النار بأوكرانيا    وزير الخارجية يتلقى مع مستشار الأمن القومي البريطاني    موسكو: المسيرات الروسية تضرب نقطة انتشار اوكرانية مؤقتة    بيراميدز يصطدم ب ريفرز النيجيري في بداية دور المجموعات لدوري الأبطال    تشكيل تشيلسي المتوقع أمام بيرنلي في البريميرليج    وزير الرياضة: كل الدعم لأحمد الجندي في رحلة العلاج بألمانيا    موعد مباراة الأهلي وشبيبة القبائل والقنوات الناقلة في دوري أبطال إفريقيا    موعد مباراة تشيلسي ضد برايتون والقناة الناقلة    إسلام سمير: الفوارق بين الأندية "كبيرة".. وأحمد سامي ليس سببا في أزمات الاتحاد    «الأرصاد» تعلن طقس ال6 أيام المقبلة.. وموعد انخفاض الحرارة    إصابة 12 عاملا إثر انقلاب ميكروباص بالمنيا الجديدة    إصابة 11 عاملا إثر انقلاب ميكروباص بالمنيا الجديدة    وزير التعليم يقرر وضع مدرسة «سيدز» الدولية تحت الإشراف وإدارتها من الوزارة    بعد قليل.. "التضامن" تجري قرعة حج الجمعيات الأهلية لاختيار الفائزين بالتأشيرات    بعد تصدره التريند.. موعد عرض برنامج «دولة التلاوة» والقنوات الناقلة    استخدمت لأداء المهام المنزلية، سر عرض تماثيل الخدم في المتحف المصري بالتحرير    الصحة: الوضع الوبائي للفيروسات التنفسية في مصر مستقر تمامًا ولا توجد أي فيروسات جديدة    دايت طبيعي لزيادة التركيز والمزاج الإيجابي، نظام غذائي يدعم العقل والنفس معًا    سعر الدولار في البنوك المصرية اليوم السبت 22 نوفمبر 2025    سعر كرتونة البيض في بورصة الدواجن والأسواق اليوم السبت 22 نوفمبر 2025 فى المنيا    موعد تطبيق منظومة السيارات الجديدة بديلة التوك توك فى الجيزة    شيكو بانزا يظهر فى مران الزمالك الأخير استعدادا ل زيسكو بعد وفاة شقيقه    الرئاسة في أسبوع| السيسي يشارك بمراسم تركيب وعاء ضغط المفاعل للوحدة النووية الأولى بالضبعة.. ويصدر تكليفات حاسمة للحكومة والوطنية للانتخابات    فوز «كلب ساكن» بجائزة أفضل فيلم في مسابقة آفاق السينما العربية    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 22-11-2025 في محافظة الأقصر    انتخابات مجلس النواب بالخارج، بدء التصويت بالسفارة المصرية في طهران    غرفة عمليات الهيئة الوطنية تتابع فتح لجان انتخابات النواب فى الخارج    وزارة الصحة توجه رسالة هامة عن تلقى التطعيمات.. تفاصيل    منظمة الصحة العالمية: أكثر من 16.5 ألف مريض بغزة في انتظار الإجلاء الطبي    دراسة جديدة.. عصير البرتقال يؤثر على نشاط الجينات    سعر الجنيه الإسترلينى اليوم السبت فى البنوك 22-11-2025    اليوم.. محاكمة 6 متهمين بقضية "خلية مصر الجديدة"    دافع عن خطيبته من متحرش.. فشوه المتهم وجهه وجسده بساطور    فرنسا لمواطنيها: جهزوا الطعام والماء لحرب محتملة مع روسيا    بعد تصديق الرئيس.. تعديلات قانون الإجراءات الجنائية نقلة حقيقية في ملف حقوق الإنسان    «يوميات ونيس».. العمل الذي صنع ذاكرة جيل ورسّخ قيم الأسرة في الدراما المصرية    بيسكوف: مستوى اتصالات التسوية بين موسكو وواشنطن لم يحدد بعد    فلسطين.. جيش الاحتلال يقتحم حي الضاحية في نابلس شمال الضفة الغربية    المرأة العاملة| اختيارها يحمي الأسرة أم يرهقها؟.. استشاري أسري يوضح    محمد موسى يهاجم الجولاني: سيطرتك بلا دور.. والسيادة السورية تنهار    تطورات مثيرة في قضية سرقة عصام صاصا للحن أغنية شيرين    أبرزها وظائف بالمترو براتب 8000 جنيه.. «العمل» توفر 100 فرصة للشباب    استشارية: خروج المرأة للعمل لا يعفي الرجل من مسؤولية الإنفاق أبدًا    عضو "الشؤون الإسلامية" يوضح حكم التعامل مع الدجالين والمشعوذين    اتحاد الكرة يعلن حكام مباريات الأحد في الدوري الممتاز    مصطفى حجاج يكشف حقيقة الخلاف بينه وبين هاني محروس    محمد أبو سعدة ل العاشرة: تجميل الطريق الدائري يرتقى بجودة حياة السكان    عالم بالأوقاف: الإمام الحسين هو النور المكتمل بين الإمامة والنبوة    شوقي علام حول التعاملات البنكية: الفتوى الصحيحة تبدأ بفهم الواقع قبل الحكم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الصيادون في شبكه الاهمال
يواجهون الموت ونقص الاسمالك
نشر في آخر ساعة يوم 23 - 12 - 2014

لا يهابون الموت الذي يتربص بهم حين يبتلعهم البحر في جوفه، يقابلون الموج القاتل بشجاعةِ الفرسان في ساحة المعركة، يحملون أرواحهم علي ظهر مراكبهم بحثاً عن الرزق. قد يغفر الصيادون للبحر قسوته لكنهم بالتأكيد لن يغفروا للمسئولين تجاهلهم حماية حقهم في الحياة. حتي أصبح سماع خبر عن غرق أو تحطم مراكب للصيد أمراً عادياً مع تكرار الحوادث المروعة التي يتعرض لها الصيادون كل يوم. لكن مشكلاتهم لا تقتصر علي توفير وسائل للنجدة والإغاثة، بل تتجاوز ذلك إلي انهيار المخزون السمكي بالمصائد الطبيعية. وغيرها من المشكلات التي تضعها «آخر ساعة» علي طاولة المسئولين في السطور التالية.
صيادون: يجب توفير طائرة لنجدة المراكب «العطلانة» في البحر
البلطجية يمنعون 70 ألفاً من أبناء مدينة المطرية من الصيد في المنزلة
مافيا «الزرِّيعة» تمارس الصيد الجائر لحساب أصحاب المزارع السمكية
رئيس هيئة الثروة السمكية: خطة لتطوير البحيرات والمصائد الطبيعية
قبل أن تأذن السماء للشمسِ بالشروق كنا علي الطريق الذي يحملنا إلي «عزبة البرج». أربعُ ساعات هي المدة التي قطعتها السيارة حتي وصلنا إلي مشارف المدينة الواقعة في الطرف الشمالي لمدينة دمياط. وأنت في «عزبة البرج» لست في حاجة إلي من يقودك إلي الترسانة التي تحتضن أسطول مراكب الصيد علي شاطئ المتوسط، سيستدرجك البحرعلي مَهلٍ برائحته التي تنفذ إلي رئتيك حتي تقع في سطوةِ جماله، كل طرق المدينة تؤدي إلي البحر الذي يتمدد بمحاذاة عمائرها. بمجرد أن تطأ قدمك أرض المدينة تدرك مدي ارتباط أهلها بحرفةِ الصيد، تتراص في طرقاتها محال لبيع مستلزمات الصيد من الشِباك والحبال، بينما يقع نظرك هنا وهناك علي آثارِ مراكب مكهنة.
كنت أظن أن الأمكنة التي يتجمع فيها الصيادون لا تمتلئ إلا بعودتهم من البحر بحلول المساء، تملؤني الدهشة وأنا أقترب من مقهي الصيادين الواقع قرب مرسي مراكب الصيد، المكان مكتظٌ إلي درجةٍ يصعب فيها أن تجد موضعاً لقدمك. «اتفضلوا اشربوا حاجة» صاح أحدهم مرحباً قبل أن يسأل عن هويتنا، بمجرد أن أطلعناه علي ما جئنا من أجله، تنهد حسام خليل رئيس الجمعية التعاونية لصائدي الأسماك، قبل أن يفضي إلينا بما يحمله من هموم الصيادين الذين لفظهم البحر بقسوةٍ ليستقر غالبيتهم علي المقاهي بعد تراجع إنتاجهم من الأسماك بشكلٍ مروّع وتزايد المشكلات التي يتعرضون لها.
يتابع وهو يشير بإصبعه إلي وجوه الصيادين الذين يحاولون إخفاء همهم بابتسامةٍ اعتادوا أن يستقبلوا الغرباء بها: لا تعرف «عزبة البرج» مهنةً غير الصيد، 50 ألف صياد هنا يعملون في الحرفة التي ورثناها عن آبائنا وأجدادنا، بينما تمتلك المدينة أكبر أسطول من مراكب الصيد يمثل 65% من أسطول الصيد المصري، حيث تضم 2387 مركبا للصيد في أعالي البحار ومراكب نصف آلية ومراكب شراعية غير التي تأتي من البرلس ورشيد وبلطيم، كنا نغذي جميع أسواق الجمهورية بمختلف أنواع الأسماك، لكن أوضاعنا للأسف تتجه من سيئ إلي أسوأ، مع تفرق دم الصيادين بين الجهات المختلفة المعنية بهذا الملف، وهي الهيئة العامة للثروة السمكية، والمخابرات الحربية، وحرس الحدود ووزارة البيئة.
مشكلاتٌ لا حصر لها تثقل كاهل الصيادين كما يخبرني حسام خليل الذي أمضي 40 سنة من عمره يجوب البحار علي ظهر مراكب الصيد: هذه المشكلات تعوق المهنة وتعدم الثروة السمكية، فمخزوننا السمكي يتراجع بشكلٍ كبير لعشوائية إدارة الدولة لملف الصيد ودعمها للتوسع في المزارع السمكية علي حساب قتل آلاف الأطنان من الأسماك في مصائدها الطبيعية التي تمثل مصدر الرزق الوحيد للصيادين. فهناك مافيا تدير عملية صيد الزريعة وهي السمك الصغير المحظور صيده، تمارس الصيد الجائر لحساب أصحاب المزارع السمكية تحت مرأي ومسمع مسئولي هيئة تنمية الثروة السمكية التي تعطي تصاريح بصيد الزريعة في الموانئ لتزيد مواردها المالية، رغم أن ذلك مخالفة صريحة للقانون الذي يفترض أن تطبقه الهيئة.
الكارثة كما يشير أن صيد الزريعة التي تضعها أمهات الأسماك أثناء مواسم التكاثر في الموانئ والبواغيز والمياه الضحلة الهادئة، يسبب هجرة جماعية للأمهات التي لا تعاود التكاثر في نفس المكان لأنه أصبح غير آمن بالنسبة لها، ما يمثل خسارة فادحة لنا ويؤدي مباشرة إلي تراجع المخزون السمكي.
بدا محمد سلامة يائساً وهو يقوم من مقعده بمقهي الصيادين ليصطحبنا في جولةٍ إلي ترسانة مراكب الصيد الممتدة بطول الشاطئ. كان البحرُ هادئاً وهو يحمل آلاف المراكب التي تراها ترقد علي مدد الشوف بأحجامٍ وأنواعٍ مختلفة. يخبرني سلامة الذي امتهن الصيد منذ كان صبياً في السادسة من عمره، أن هذا المشهد لم يكن موجودا قبل بضع سنوات، معظم المراكب الواقفة بطول المرسي لا تستعدُ لرحلةِ صيد، لكن أصحابها أوقفوها وغادروا منتظرين الفرج في تعدل أوضاعهم. يشيرُ إلي إحدي المراكب التي تعلو ساريتها عبارة «للبيع»، «كثيرٌ منها معروضة للبيع، لأن الصيادين مش لاقيين ياكلوا منها».
يتابع: كثير من أصحاب المهنة بدأوا يتسربون منها، ولم يعد هناك عمالة جديدة من البحارة يعملون بالصيد لصعوبة ما يواجهونه دون عائد. غير أن القانون الذي صدر منذ سنوات بوقف إصدار تراخيص الصيد أثر بشكل كبير علي المهنة، بينما تحوّل إصدار التراخيص إلي بيزنس يديره سماسرة بالتعاون مع مسئولي الهيئة لمنحها إلي مافيا كبار الصيادين الذين يتوسعون في نشاطهم علي حسابنا، ما جعل الرخصة ترتفع من 40 ألف جنيه لتصل إلي 350 ألف جنيه.
كما أننا نُستنزف من الجهات التي تحصّل مبالغ التأمينات منا، بين صناديق الجمعيات وهيئة الثروة السمكية غير رسوم التفتيش البحري، ونعاني عند صرف التعويضات في حالة غرق المركب أو أفراد البحارة، لأن الصياد الذي يغرق ولا يتم انتشال جثته يعد مفقوداً في نظر القانون، وعليه تضطر أسرته إلي الانتظار ثلاث سنوات لإصدار شهادة وفاته حتي تتمكن من صرف التعويض. هذه كارثه تعرض عائلات الصيادين للتشرد والضياع.
«رزقنا علي الله» «سيري بأمر الله» «بسم الله مجراها ومرساها» عباراتٌ تزين مركب الريس وفدي محمد الذي يخبرني أنها تمنحه الصبر علي ما يواجهه من صِعاب، وتشعره بالأمان وهو في حضنِ بحرٍ لا يأمنُ غدره. « البحر مبيهزرش» يقول مجسداً وجه الموج حين يكشر أنيابه في وجه الصياد. يغفر الريس وفدي للبحر قسوته بينما لا يغفر للمسؤولين عدم التفاتهم لحقوق آلاف الصيادين. يتابع: نتعرض في البحر لمخاطر كثيرة أثناء النوات لا نجد من ينجدنا منها إلا الله، طرقنا أبواب جميع المسؤولين لتوفير طائرة إنقاذ أو لنشات لنجدة المراكب التي تواجه الأعطال والغرق في البحر المتوسط، لأن لنشات نقطة التفتيش التابعة لحرس الحدود لا تعيرنا أي اهتمام، كثير من المراكب غرقت بالفعل لتأخر نجدتها.
حياة موازية يعيشها الريس وفدي وبحارته علي متن مركب الصيد الذي ينطلق في رحلاتٍ قد تتجاوز العشرين يوماً لمسافاتٍ تتعدي 200 ميل. يطلعنا علي تفاصيلها وهو يصحبنا إلي داخل المركب، غرفتي نومٍ صغيرتين للبحارة لا تتعدي مساحة الواحدة منهما المترين، ألواحٌ خشبية يكسوها فرشٌ وغطاء هي الأسِرة التي يتخذها البحارة للنوم، تجاورها غرفة قائد المركب ومطبخٍ صغيرٍ لا يحتوي إلا علي وابور غاز صغير، بينما ينهمك البحارة في صيانةِ معدات الصيد في مؤخرة المركب.
يخبرني وفدي أن المناطق التي اعتادوا الصيد منها قاربت أسماكها علي النضوب، ما جعل إنتاج المركب الذي كان يتجاوز ثلاثة أطنان في الرحلة الواحدة من مختلف أنواع الأسماك القاعية كالبوري والباربوني والقاروص والجمبري، ينخفض إلي حوالي 500 كيلو فقط، ما يجعل أسعار الأسماك البحري ترتفع في السوق، ورغم ذلك أعمل الآن بالخسارة لأن الرحلة تتكلف 30 ألف جنيه لارتفاع أسعار السولار الذي يحتاج المركب منه إلي 70 برميلاً للرحلة الواحدة. كنا نحصل علي البرميل ب 200 جنيه وارتفع إلي 360 جنيها بعد رفع 25% من الدعم، غير تكاليف الطعام ورواتب البحارة العاملين معي.
ويعاني الصيادون كما يقول من ارتفاع أسعار معدات ومستلزمات الصيد من الغزول والشباك والأحبال، ما يجعلهم يسقطون فريسة جشع وطمع تجار السوق السوداء والجمعيات التي تحتكر استيرادها، في السابق كنا نحصل علي جميع احتياجاتنا مدعمة من الدولة بخصم 50%، إلا أن الدعم تم إلغاؤه ليرتفع كيلو الشِباك من 50 جنيها إلي 125 جنيها، بحجة زيادة الجمارك التي تفرض علي الواردات وتكاليف الشحن.
لا يقتصر نشاط أبناء «عزبة البرج» علي صيد الأسماك وحده، ولكن يتخطي ذلك لكل ما يرتبط بهذه الحرفة. فعلي مقربة من مرسي المراكب، تقع مجموعة ورش لتصنيع مراكب الصيد في منطقة تسمي «الطابية»، بمجرد اقترابك من المكان تستقبلك هياكل عملاقة لمراكب صيد في أطوار التصنيع. وبينما العمال ينهمكون في نشر أخشاب المراكب وتثبيتها، يحوّل رمضان المعاطي صاحب الورشة دهشتي بعظمةِ هذه الصناعة إلي حسرة دفينة لما وصلت إليه أحوالها، عندما أخبرني أن عدد المراكب التي ينتجها اليوم لا تعد إلا عينةً لما كان ينتج في السابق، لما تتعرض له صناعة المراكب من مشكلاتٍ تعصفُ بها.
لا تنفصل المشكلات التي تملأ قطاع الصيد عن تلك التي تضرب صناعتنا، فوقف تراخيص مراكب الصيد أثّر علينا بشكلٍ كبير، كما أن ارتفاع أسعار الوقود أدي لارتفاعٍ جنوني في أسعار جميع الخامات التي نعمل بها، فالمركب الخشبي الواحد الذي تستغرق صناعته حوالي سنة يحتاج إلي 100 طن من أخشاب الكافور والسويدي التي ارتفع سعر الطن منها من 300 جنيه إلي 850 جنيها، ما جعل أسعار المراكب تتراوح بين نصف مليون إلي 3 ملايين جنيه، يحصر ذلك الزبائن في فئة محددة جداً من كبار الصيادين أو أصحاب شركات تصدير الأسماك، لأنها تفوق قدرة الصياد العادي.
بخروجنا من المنطقة التي تحوي ورش صناعة السفن، انتهت جولتنا في مدينة «عزبة البرج». نتابع طريقنا لتقصي أحوال صيادي بحيرة المنزلة التي تطل علي محافظات دمياط وبورسعيد والدقهلية. ساعةٌ من الزمن كانت تفصلنا عن مدينة المطرية الواقعة في آخر حدود محافظة الدقهلية. بمجرد أن دلفت السيارة إلي طرقات المدينة استشعرت الحزن الذي يطبق علي شوارعها بعد أن فقدت المطرية 35 صياداً من أبنائها في حادثة تحطم مركب «بدر الإسلام» بالبحر الأحمر مؤخراً. لكن الحدث لا يبدو استثنائياً في المدينة التي اعتادت تجرّع حسرات موت أبنائها كل يوم غرقاً في البحار، بعد أن ضاقت عليهم البحيرة التي كانوا يعيشون من خيرها، لتقع في قبضةِ البلطجية والمعتدين.
كانت الشمس علي وشك الرحيل، عندما وصلنا إلي شاطيء بحيرة المنزلة، هنا تتجلي الصورة بمأساويتها، وجوه الصيادين العائدين من البحيرة بعد رحلةِ صيدٍ خائبة، تفضح حسرةً لم يفلح غروب الشمس في إخفائها. «المنزلة مابقتش بتاعتنا» يبادرني شحاتة حسن وهو يحاول استغلال بقايا الضوء لرتق شبكة صيده بعد أن قطعها له البلطجية، عمره الذي تجاوز الستين لا يتيح له التصدي للأباطرة الذين يحكمون البحيرة بالأسلحة الآلية، يحكي بحسرة عما يتعرض له صيادو المنزلة من إرهاب وترويع وسرقة تحت مرأي ومسمع شرطة المسطحات وهيئة الثروة السمكية. يتابع: 70 ألفا من أبناء مدينة المطرية يعملون في الصيد، لكننا محرومون من الصيد في البحيرة، لاعتداءات البلطجية الذين يحوطون آلاف الأفدنة من البحيرة بالشباك والبوص لحجز الأسماك لصالحهم وحجبها عن الصيادين.
يتابع وهو يشير إلي مجموعة مراكب شراعية تتكدس علي جانب البحيرة: ما نلقاه من اعتداءات جعلت الآلاف من صيادي المطرية يتركون مراكبهم ويهجرون البحيرة، بحثا عن الرزق في البحر الأحمر أو في الدول الأجنبية، وكثيرون يعودون إلينا جثثا هامدة، لتعرضهم إلي مخاطر كثيرة وهم في عرض البحر مثلما حدث في تحطم مركب «بدر الإسلام». وللأسف لا نحصل من المسؤولين إلا علي تصريحات وهمية بإزالة تعديات بحيرة المنزلة، سمعنا أن هناك 160 مليون جنيه رصدها رئيس الوزراء في زيارته الأخيرة لتطهير المنزلة، لكننا لم نر أي شيء غير عدة كراكات أزالت أماكن محدودة لتعديات البلطجية، لكنهم عاودوا إقامتها بعد ساعات.
«بقالي 5 أيام مجبتش سمكة واحدة» يقول إبراهيم حسن غزال أحد أقدم صيادي المطرية وهو يشير إلي أكوام الحشائش والبوص وورد النيل الذي يغطي أرجاء البحيرة. يخبرني أن التلوث الذي يغمر المنزلة وارتفاع سطح القاع نتيجة تراكم طبقات الطمي فيها أعدم إنتاجها من الأسماك. يتابع: لا أحد يلتفت إلي تطهير البحيرة وتجريف الرواسب منها، الكارثة أن هذه الرواسب تتكون نتيجة إيصال مصرف بحر البقر الذي يجمع الصرف الصحي من جميع محافظات الدلتا ليصرف مباشرة في البحيرة، ما أثر بشكل كبير علي كميات الأسماك وأنواعها وأصاب البلدة جميعها بالفشل الكلوي، غير الردم والتعديات المتواصلة التي قلّصت مساحة البحيرة من 700 ألف فدان إلي130 ألف فدان، معظمها مسطحات مبنية.
يسترجع زكريا الساهي صورةً لبحيرة المنزلة يحتفظ بها في ذاكرته: كنا نمسك السمك بأيدينا من وفرته ومن نقاء مياه البحيرة، حيث كان الشادر الواحد ينتج 10 أطنان من مختلف أنواع الأسماك، لكن مع انسداد بوغاز الجميل انعدمت جميع الأسماك البحرية من البوري والقاروص والوقار والسردين، ولم يتبق غير البلطي.
ننهي جولتنا بين الصيادين ونعود أدراجنا محمّلين بهمومهم لنضعها علي طاولة الدكتور خالد الحسني رئيس الهيئة العامة لتنمية الثروة السمكية، الذي أكد أن هناك اتجاهاً جاداً في الدولة للالتفات إلي المطالب المشروعة للصيادين ، فالمشكلات التي يعانون منها جزء لا يتجزأ من مشكلاتٍ تراكمية تعرض لها قطاع الصيد والثروة السمكية لفترة طويلة من الزمن أسفرت عن تناقص المخزون السمكي في المصائد الطبيعية التي تشمل البحار والبحيرات، ولم يعد إنتاجها يتعدي 300 ألف طن سنوياً، مقابل الاستزراع السمكي الذي وصل إنتاجه إلي مليون و200 ألف طن أي نحو 83٪ من الإنتاج السمكي في مصر، حتي بدأت الهيئة في وضع خطة لتطوير البحيرات والمصائد الطبيعية التي تم التعدي عليها بالردم والتوسعات العمرانية وتعريضها لمختلف أنواع الملوثات من الصرف الصحي أو الصناعي علي مدار عشرات السنين.
يتابع الدكتور خالد: هذه الخطة بدأنا تنفيذها قبل أشهر، متخذين من البحيرات الطبيعية نقطة انطلاق لتحقيق أقصي استفادة اقتصادية من إنتاجها، قمنا بتطهير بحيرتي مريوط والبرلس أما المنزلة فكان لها خصوصية كونها أكثر البحيرات التي تعرضت لمشكلاتٍ متراكمة، ويستحيل أن تعود إلي حالتها في يومٍ وليلة، لكني أعد الصيادين أن ننتهي من أعمال التطهير خلال عام ونصف.
يضيف: وبتكليف من رئيس الوزراء أعددنا لجاناً لتطهير بحيرة المنزلة، قمنا بإنزال 18 حفارا وكراكة لتطهير بوغاز الصفارة، كما تم إزالة 22 ألف فدان للتعديات في بحيرة المنزلة بمحافظات بورسعيد ودمياط والدقهلية.
ويفسر تناقص مخزوننا السمكي بالمصائد الطبيعية أننا لم نستغل غير 12 ميلا بحريا من عمق مياهنا الإقليمية، جميع الصيادين يتركزون في أماكن بعينها للصيد ويشتكون من قلة الإنتاج. لدينا الآن اتجاه لتشجيع الصيادين لاستغلال المياه الاقتصادية والدولية التابعة لنا، والممتدة من عمق 12 ميلا بحريا وحتي 200 ميل، لما تتميز به هذه المنطقة بتوافر كميات هائلة من الأسماك .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.