"أفنيت عمري في الأهرام لكنها أوصدت أبوابها في وجهي.. وأخفت مستندات براءتي".. "سقطت الأقنعة عن زملائي واكتست وجوههم بملامح التشفي ونظرات الشماتة حينما قدموا للقضاء تقارير مفبركة لإدانتي".. هكذا كانت تعتصر المرارة والحسرة روح وعقل الكاتب الصحفي الكبير، إبراهيم نافع، رئيس تحرير ورئيس مجلس إدارة الأهرام الأسبق، طيلة أربع سنوات خانقة عاشها محاصراً في دوامة من الاتهامات والافتراءات الباطلة وقوافل الأكاذيب والتشهير الصحفية.. الصمت، والإيمان بنظافة يده وبعدالة التحقيق، كانا سلاح إبراهيم نافع "البتار" في مواجهة سيل الاتهامات التي لوثت سمعته وطيرت النوم من عينيه شهوراً طويلة.. فجاءت النهاية كما تمناها.. سعيدة، مشرفة، بيضاء.. حيث قال القضاء المصري قولته في واحدة من أشهر القضايا التي شغلت الأوساط السياسية والصحفية في السنوات الأخيرة، معلناً تبرئة إبراهيم نافع من كل ما نُسب إليه من ادعاءات وتهم تتعلق بتبديد الأموال والتربح والإضرار بماليات الأهرام. ومن ثم لم يجد نافع مفراً من توديع الصمت وتوضيح الصورة الحقيقية للرأي العام في كتابه الجديد "أنا وقاضي التحقيق .. ما كان في سنوات الصمت". "بالعدل نحيا .. وبالعدالة أولاً – حتي وقبل الحب – تشرق الحياة".. تلك هي الحقيقة التي سلم بها إبراهيم نافع بعد نصف قرن في بلاط صاحبة الجلالة وأكثر من ثلاثة عقود علي رأس مؤسسة الأهرام.. حقيقة لا شك أنه كان يدركها ويؤمن بها تمام الإيمان، لكنه أبداً لم يذق حلاوتها إلا بعد محنة الاتهامات الشرسة التي طاردته في أعقاب نهاية رحلته الصحفية المميزة. والآن وبعد أن برأ القضاء ساحته، لا يبدو الأمر مستغرباً أن يقول نافع بملء فمه وبصيغ متعددة في عدد من صفحات كتابه المثير "أنا وقاضي التحقيق .. ما كان في سنوات الصمت": "والآن.... أريد أن أقف في شرفة منزلي، وأقول: "يحيا العدل".. ولا تضحكوا مني، فلا يقدر قيمة العدالة إلا كل مظلوم.. ولا يقدر قيمة التراب الذي تخطو عليه قدم كل قاض عادل إلا إنسان مثلي، ذاق مرارة الظلم؛ فأدرك معني أن العدل أساس الملك".. يستهل إبراهيم نافع صفحات كتابه التي ناهزت الثلاثمائة بالآية القرآنية الكريمة: "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسقٌ بنبأ فتبيَّنوا أن تصيبوا قومًا بجهالة فتصبحوا علي ما فعلتم نادمين" (الحجرات: 6) في دلالة واضحة علي حتمية التحقق من سهام الادعاءات والشائعات المسمومة قبل أن تنال من سمعة الشرفاء ومن ثم سمعة ذويهم كذباً وافتراءً.. وفيما قد يبدو أمراً بديهياً أن يوجه إهداءه للقارئ الذي يتصفح الكتاب بحثاً عن الحقيقة، فإن ما لا يعد تقليدياً أن يهدي نافع كتابه أيضاً إلي أعدائه: "إلي أعدائي.. الذين لولاهم لما سقطت الأقنعة عن الوجوه، ولما اختفي كل أصحاب الوجوه المستعارة من حياتي.. ولما أبصرت حولي قلوبًا بهذه الروعة وهذا الوفاء.. أيها السَّادة الأعداء.. شكرًا لكم ألف مرة".. الأمر الذي يفسره فيما بعد بأنه قد "آن الأوان ليخرسوا، فلن يسمع أحد أكاذيبهم، بعدما قال القضاء قول الحق".. ولعل ما يلفت الانتباه في كتاب إبراهيم نافع الصادر قبل أيام عن الدار المصرية اللبنانية أنه لا يحمل صبغة دفاع عن الذات مجردة وإنما يضع الوقائع والحقائق أمام القارئ مدعومة بالوثائق والمستندات والشهادات ونصوص التحقيقات وحكم القضاء. ومع ذلك لا تعكس صفحات الكتاب قلم إبراهيم نافع الذي يكتب في السياسة والاقتصاد، بل إبراهيم نافع الإنسان، الذي تألم وتعذب واحتار، وامتلأ بالأمل والإيمان مرات، وهاجمه اليأس والإحباط في مرات أخري، قبل أن ينصفه القضاء ويكشف زيف التهم التي انهالت عليه.. في ثمانية فصول كاملة من أصل أحد عشر فصلاً يضمها الكتاب يسرد نافع تفاصيل التفاصيل عن قائمة الاتهامات التي طالته وسبيله لإثبات براءته منها رغم الحملة " الإعلامية المسعورة" التي حرض عليها عدد من قيادات مؤسسة الأهرام وصحفيوها وقادتها ضده وتزعمتها جريدة الأسبوع برئاسة الكاتب الصحفي والنائب مصطفي بكري(علي حد قوله).. وكان أشهر هذه الاتهامات ما تعلق بأن القيمة الحقيقية لنظام الإنذار والإطفاء التلقائي بالغاز النظيف التي تم توريدها للأهرام بعد موافقة نافع تبلغ حوالي عشر القيمة التعاقدية، فضلاً عن أن النظام نفسه غيرمتناسب مع الموقع ويترتب عليه الإضرار بصحة العاملين، حسبما جاء في تقريرين مؤرخين ب 17 مارس و10 أبريل2007 أعدتهما مؤسسة الأهرام كقرائن اتهام، وهو ما علق عليه نافع بحسرة: "ما كل هذه الكراهية التي يكنها لي الذي خلفني في منصبي (يقصد رئيس مجلس إدارة الأهرام السابق صلاح الغمري). كيف كان قادراً علي احتمال كل هذه الكراهية في قلبه نحوي، في الوقت الذي كان يظهر لي كل الحب والمودة".. بل ويزيد في التعبير عن دهشته: "لم أحرمه يوماً من فضل الأهرام.. أبداَ لم أفعل؛ فقد اخترته عضو مجلس إدارة شركة الأهرام للاستثمار، واستمر بها حتي يوم اختياره رئيساً للمؤسسة، فضلاً عن خدمات شخصية أخري كثيرة، لا داعي لذكرها".. احتاج إبراهيم نافع أربع سنوات كاملة قبل أن ينصفه قاضي التحقيق ويبرئ ساحته مما جاء في التقريرين المشار إليهما حول نظام الإطفاء، وفي تلك الأثناء كان يتعين عليه التصدي لسيل من البلاغات والقضايا التي انهالت عليه، ومنها البلاغ المقدم من محمد عبداللاه وسعد الحلواني وأحمد النجار حول ما أسموه "انحرافات مكتب جدة".. وبلاغ آخر مقدم من مدير الشئون القانونية بالأهرام يتهمه إلي جانب حسن حلوي ومحمود عبدالمنعم بالاستيلاء علي نفقات علاج المرحوم محمد زايد بالمستشفيات الأمريكية، إضافة لبلاغ مصطفي بكري وسعد الحلواني وأحمد النجار ضد نافع واتهامه بالتربح واستغلال النفوذ والإضرار بالمال العام عبر إنشاء شركة "إنترجروب" وتسهيل تعاملاتها مع الأهرام في مجال التوريدات.. كما تقدم مصطفي البرتقالي ببلاغ آخر ضد نافع وحسن حمدي مدير عام الإعلانات بزعم إضرارهما بالمؤسسة في عملية تسوية مديونية رجل الأعمال مجدي يعقوب، فضلاً عن البلاغ المقدم من الجهاز المركزي للمحاسبات ومؤسسة الأهرام بحصول نافع وسبع قيادات آخرين علي مبالغ طائلة كعمولات إعلانات بالمخالفة للنظم واللوائح، وكذا اتهامه بتسهيل استيلاء رجل الأعمال إيهاب طلعت علي ما يقرب من 120 مليون جنيه من أموال الأهرام.. بلاغات عدة واتهامات قاسية طالت إبراهيم نافع في تلك الفترة، لكنه خرج منها سالماً، بعدما تمكن من تفنيدها بالوثائق والمستندات والدلائل القطعية، لتنتهي جميعها وبقرار من قاضي التحقيق بالحفظ أو التقييد كشكاو إدارية.. والعجيب أن نافع لم يكن سعيداً بما يكفي كلما ثبتت براءته من اتهام ما: "كنت أخوض هذه الحرب وأنا موقن من النصر في النهاية.. ولكن هذا لا يعني أنني لم أشعر بالألم من أجل أبنائي وزوجتي وأحفادي.. كنت مشحوناً بحزن العالم كله من أجلهم؛ ومن أجل نفسي، فأصعب أنواع الغدر الذي يأتيك من الذين أحسنت إليهم صنعاً".. وبعيداً عن تفاصيل البلاغات خصص نافع الفصل الأول في كتابه ليروي عن جذور علاقته بالأهرام بدءًا من تخرجه عام 1956 في كلية الحقوق مرورًا بالتحاقه بالأهرام وحتَّي خروجه منها، وكيف جاء رئيسًا لتحريرها ثم رئيسًا لمجلس إدارتها، ودور الكاتب الكبيرمحمد حسنين هيكل في ذلك وطبيعة علاقته بالرئيس الراحل أنور السَّادات الذي اختاره للأهرام. وأيضاً دوره – أي نافع – في تحويل الأهرام إلي مؤسسة اقتصادية واستثمارية وصحفية عملاقة ذات سمعة عربية وعالمية لا يستهان بها، كانت ميزانيتها حين تولي مسئولية الإدارة فيها عام 1984 لا تتعدي 126 مليون جنيه قبل أن تصل حين تركها عام 2005 إلي أكثر من مليار ونصف المليار جنيه، وهو ما يتطرق إليه بشئ من الاستفاضة في الفصل الأخير من الكتاب.. غير أن الفصل الثاني الذي يحمل عنوان "أربع سنوات من الصمت .. ما لم يقل من قبل".. يبقي الفصل الأكثر سخونة، ولم لا وقد سجل فيه نافع بقلم مهموم ، متحسر ، بائس، ما أسماه ب"ضغائن وأحقاد" زملاء عمره في مؤسسة الأهرام ضده، فجاء في هذا الجزء أنهم أوصدوا باب المؤسسة ضده ورفضوا منحه المستندات التي تعينه علي البراءة، بل إنهم تواطأوا عليه وسعوا لإدانته في جرائم لم يرتكبها: "لم أهتز نفسيًّا بشأن الاتهام. ذلك لأنني بحكم سنوات عمري أعرف أن الدليل المزيف لا يقيم جريمة، إذن البراءة ستفرض نفسها، ولكن الذي اهتزت له نفسي حقًّا هو ما رأته عيناي بعد سقوط الأقنعة عن أوجه الذين عشت بينهم زمنًا طويلا. أخًا وزميلا ورئيسًا، رأيت ملامح التشفي، نظرات شامتة، أعين تقطر حقدًا، ابتسامات نهمة إلي إلحاق المزيد من الأذي، كل ما مضي حول علاقتي بهم تراءي كأنه حلم ثقيل. هؤلاء الذين عملوا معي وبادلتهم الصداقة والاعتزاز، وأظهروا لي كل الحب والذين صدقًا أحببتهم، هؤلاء الناس الآن يحاولون إدانتي ويحجبون أدلة البراءة وهي بين أيديهم، كل الذين تعاملوا مع اللجنة، التي ندبت للتحقيق في الأهرام وقد حرصوا علي أن يتخذ مسار أعمالها الاتجاه الموصل إلي الإدانة وذلك بطريقتين: حجب جميع المستندات والدراسات المعدة عن النظام حتي عن أعضاء اللجنة ( أشار تقرير اللجنة إلي ذلك بصريح العبارة)- إمداد اللجنة بتقارير مفبركة مع التلويح بالعصا والجزرة لكل من تطلب اللجنة سؤاله، لتكون أقواله في طريقة الإدانة".. ورغم تلك المرارة الكبيرة التي يشعر بها نافع من بعض زملائه، فإنه وبعد كلمة القضاء لم يعد يبالي بما أشاعوه وما يزالون وعلي مايبدو أنه لن يلتفت إليهم ثانية: "وداعاً لهؤلاء الناس من حياتي.. اليوم، لن يكون حولي سوي من انكشفت لي وجوههم الجميلة: لأعيش ما أراد الله لي أن أعيش، مع قلوب تحبني.. وهذا يساوي الدنيا ومافيها".. وعليه فإنه يبشر من وصفهم بأصحاب الوجوه الجميلة لا سيما من القيادات الصحفية برد الدين لهم وتخليد أسمائهم في كتاب جديد يجمع مادته حالياً بعدما اقتصر هذا الكتاب علي الإشادة بالقيادات الإدارية التي صاحبته في رحلة تأسيس مكانة الأهرام المرموقة بين كبريات المؤسسات الصحفية العالمية.