يتخيل الطبيب الفرنسي "جان أنثيليم" الذي أطلق مقولته الشهيرة "أنت ما تأكله" أواخر القرن 18 عندما شرع في صياغة العلاقة بين الصحة النفسية والجسدية للإنسان وبين الغذاء الذي يتناوله، أن المصريين سيبتدعون مقولةً أخري تُنافي القاعدة التي انتهي إليها، وترسخ لفكرة أن هناك من يتمتع بقدراتٍ فريدة تجعله قادرا علي تناول أسوأ أنواع الأغذية دون أن يصيبه أذي. فتحت مقولة "معدة المصريين تهضم الزلط" يجد معدومو الضمير من راغبي الربح السريع الطريقَ ممهداً لإغراق أسواق المنتجات الغذائية ومطاعم تقديم الوجبات بأغذيةٍ ولحوم فاسدة أو مغشوشة تفتك بصحة المواطنين. والكارثة أن غالبية المطاعم التي يثبت مخالفتها تستمر أبوابها مفتوحة لاستقبال الزبائن. التموين: 400 طن مواد غذائية فاسدة يتم ضبطها سنوياً أشهر مطاعم إمبابة يفتح أبوابه للزبائن بعد ساعات من تشميعه ربما أصبح من الأجدي أن تسأل مباشرة عن الأماكن التي تقدم أطعمةَ صالحةً للاستهلاك الآدمي، لتوفر علي نفسك الخوض في قائمةٍ لا حصر لها من أماكن تقديم "غذاء الموت"، وهي الظاهرة التي تتفاقم يومياً في ظل تعدد الجهات المعنية بالرقابة علي الغذاء وتداخل أدوارها. ضعف عقوبة غش الغذاء وتهالك التشريعات الحاكمة لهذا الملف وامتلاؤها بالثغرات، سمح للمخالفين بالتوسع في مزاولة نشاطهم دون رادع. الكارثة الأكبر أن أغلب الأماكن التي تُضبط وهي تقدم أغذيةً فاسدة لا يتم إغلاقها حتي بعد صدور أحكام قضائية تقتضي تنفيذ ذلك، أو تغلق بشكلٍ صوري مثلما حدث بالنسبة لأحد المطاعم الشهيرة في منطقة إمبابة بالجيزة، والذي فتح أبوابه للزبائن بعد ساعات من تشميعه إثر إدانة صاحبه بحيازة لحوم غير صالحة للاستهلاك الآدمي. قائمةٌ مفجعةٌ من محاضر قضايا التموين حصلت "آخرساعة" علي صور منها تكشف حجم المأساة. ربما وجدتُ أكثر هذه المحاضر أهميةً وإثارة، ذلك المتعلق بضبط 500 كيلوجرام من جبن الموتزاريلا غير صالحة للاستهلاك الآدمي بإحدي الثلاجات الشهيرة بمدينة قليوب والذي يحمل رقم 14807 لسنة 2014 جنح/ شبرا الخيمة أول، لوجود تغير في خواصها الطبيعية من حيث اللون والرائحة، الكارثة أنها تصل إلي مطاعم البيتزا والمعجنات، ما يجعل حتي الأطعمة المحببة إلي الجميع وبخاصة الأطفال غير آمنة. ويؤكد علي ذلك أيضاً المحضر رقم 16151 لسنة 2014 جنح/ شبرا الخيمة أول، والمتعلق بضبط 150 كيلوجراما منتجات غذائية منتهية الصلاحية بسوبر ماركت شهير منها أكياس بطاطس متنوعة وعصائر ومشروبات غازية. لا تقتصر الكارثة علي ذلك بل تمتد ضبطيات مفتشي التموين والطب البيطري ووزارة الصحة إلي مصانع تجهيزات اللحوم التي تعمل "تحت بير السلم" لإعداد الكباب والكفتة من مخلفات اللحوم، ومنها إلي مطاعم شهيرة يضبط بها كميات هائلة غير صالحة للاستهلاك الآدمي، وهو ما ورد في المحضر رقم 25069 لسنة 2014 جنح/ المطرية. ولم تسلم الأسماك أيضاً من ذلك حيث تم ضبط 968 كيلوجرام أسماك منتهية الصلاحية بأحد محال بيع المجمدات وفقاً للمحضر رقم 35735 لسنة 2014 جنح/ طوخ. المفاجأة الأكبر كشف عنها المهندس عبدالمنعم خليل مدير الإدارة العامة للمنتجات الحيوانية بوزارة التموين حيث قال إن إجمالي المواد الغذائية الفاسدة أو غير المطابقة للمواصفات التي يتم ضبطها سنوياً يصل إلي حوالي 400 طن، بينما يزيد عدد المحاضر التي تحرر سنوياً عن 2500 قضية.المشكلة الرئيسية التي أدت إلي تفاقم الظاهرة إلي هذا الحد كما يري المهندس عبد المنعم خليل هي أن عقوبة غش الغذاء الواردة في قانون "قمع الغش التجاري" رقم 281 لسنة 1994 غير رادعة بالمرة، فهي تتضمن الحبس لمدة سنة وغرامة 10 آلاف جنيه، مع مصادرة جميع المضبوطات، إلا أن الحبس غير وجوبي، 70% من القضايا يكتفي القاضي بتوقيع الغرامة فقط علي المتهم أما إذا أصيب المستهلك بعاهة أو مشكلة صحية يشدد الحكم ليصل إلي الحبس لمدة خمس سنوات. ويتابع المهندس عبد المنعم: هناك شقان آخران في عقوبة غش الغذاء للأسف لايتم تنفيذهما، الشق الأول يلزم فيه القانون الجاني بنشر الحكم النهائي الصادر بحقه علي حسابه الخاص في جريدتين رسميتين ليومين علي التوالي، وهنا يعد التشهير نوعاً من العقوبة لردع جرائم غش الغذاء، ولكن هذا للأسف لا يحدث. الشق الآخر والأهم هو قرار غلق المصنع أو المطعم أو المحل التجاري الذي يقدم لحوماً أو مواد غذائية غير صالحة للاستهلاك الآدمي أو غير مطابقة للمواصفات، والذي يفترض أن تقوم المحليات بتنفيذه، للأسف لا يتم إغلاق هذه الأماكن إلا في أضيق الحالات. وحتي قرار المحكمة لا يأتي بالغلق النهائي وإنما يكون غلقاً إدارياً مؤقتاً لحين توفيق الأوضاع، ولا يتم سحب الرخصة من الجاني -إذا كان مرخصاً- إلا بتكرار الجريمة عدة مرات. ويوضح أن الأرباح الطائلة التي يجنيها هؤلاء المجرمون من غش اللحوم تحديداً تجعلهم يستأنفون نشاطهم في أماكن أخري غالباً ماتكون في المناطق النائية كالخانكة والخصوص والبراجيل ليكونوا بعيدين عن أعين الجهات الرقابية. وعن طبيعة الحملات التي تقوم بها وزارة التموين يخبرني أنها تتم بالتعاون مع مفتشي الهيئة العامة للخدمات البيطرية ومفتشي الأغذية التابعين لوزارة الصحة، بمداهمة الأماكن التي ترد إلينا معلومات و شكاوي بخصوص المنتجات الغذائية التي تصنعها أو تبيعها، وغالباً مانكتشفها بالصدفة البحتة. وخلال الحملة نقوم بمصادرة اللحوم أو غيرها من المواد الغذائية إذا كانت غير صالحة للاستهلاك الآدمي أو غير مطابقة للمواصفات القياسية، ونحرر محضراً بالواقعة لتتولي النيابة المختصة مهمتها في التحقيق لاحقاً. الأغذية الفاسدة يتم إعدامها وفق قرار النيابة بعد تحريزها ومصادرتها كما يشير مدير إدارة المنتجات الحيوانية بالتموين، وذلك علي حساب المتهم في أحد المقالب التابعة للهيئة العامة للنظافة والتجميل، وفي القاهرة الكبري يوجد ثلاثة أماكن لإعدام هذه المنتجات، مقلب شق الثعبان، وأبو زعبل في القليوبية، وشبرامنت في الجيزة. وعن طرق الكشف عن مدي سلامة الأغذية يوضح أن لكل مادة غذائية مواصفة قياسية معينة تقرها الهيئة العامة للمواصفات القياسية والجودة، تحدد هذه المواصفة جميع المواصفات الشكلية الخاصة بالمنتج والمكونات المستخدمة في تصنيعة ونسب استخدامها وظروف تخزينه، كما تحدد فترة الصلاحية ودرجة الحرارة المناسبة له وطريقة التغليف. وأي خرق لاشتراطات المواصفات الصحية يعد غشاً للغذاء، والذي ينتشر بكثافة في التلاعب بمكونات المنتجات خاصة مصنعات اللحوم من اللنشون والبسطرمة، والألبان والسمن وأنواع الجبنة المختلفة. ويري الدكتور مجدي عطية مدير التفتيش علي اللحوم بالهيئة العامة للخدمات البيطرية أن إنشاء هيئة لسلامة الغذاء تنظم عمل جميع الجهات الرقابية المعنية بهذا الملف، هو الحل الوحيد لإصلاح وإعادة هيكلة منظومة الرقابة علي الغذاء التي تعمل بعشوائية في ظل تعدد هذه الجهات التي يجب أن تتكامل أدوارها مع الجهات الأخري لتفادي تضارب الاختصاصات. يتابع: الكارثة التي تعنينا بالمقام الأول فيما يخص اللحوم هي ظاهرة الذبح خارج المجازر والتي انتشرت بشكل واسع جداً في الفترة الأخيرة، بسبب ضعف عقوبات القوانين والقرارات الوزارية الخاصة بذبح وتداول اللحوم مثل القرار 517 لسنة 1986. وتتراوح العقوبة مابين الحبس لمدة شهر والغرامة، وهي عقوبة هزيلة جداً لجريمة تفتك بصحة المصريين. بينما يحذر الدكتور سعيد شلبي أستاذ أمراض الباطنة والجهاز الهضمي بالمركز القومي للبحوث من المخاطر الصحية الجسيمة التي تترتب علي تناول الأغذية الفاسدة، ويؤكد أنها يمكن أن تكون سبباً للإصابة بسرطان الجهاز الهضمي أو القناة الهضمية، فضلاً عما يمكن أن تسببه من تسمم غذائي تصحبه نزلات معوية وارتفاع شديد في درجات الحرارة وإسهال وقيء قد يؤدي إلي الجفاف المسبب للوفاة نتيجة نمو البكتيريا والميكروبات السامة علي المادة الغذائية حال حفظها في ظروف غير مناسبة تعمل علي إفسادها. أما المواد الغذائية منتهية الصلاحية حتي لو كانت خاضعة لظروف حفظ جيدة فتنعدم قيمتها الغذائية لأنه مع الزمن يحدث لها تحلل ذاتي. ويحذر الدكتور سعيد من أن طرق التجميد قد تخفي مظاهر فساد الأطعمة، فمعظم مظاهر الغش لا تحدد إلا بتحاليل معملية، إلا أن مجابهة ظاهرة بهذه الخطورة تتطلب أن يقوم جهاز حماية المستهلك والجمعيات الأهلية المعنية بالتحذير من المنتجات المغشوشة وتوعية الجمهور بمظاهر غش وفساد السلع الغذائية بأنواعها، كي يكون علي دراية بها قبل إقدامه علي الشراء، بأن يراعي فحص المظهرالخارجي للمنتج وخواصه الطبيعية من حيث اللون والرائحة وشكل المنتج الغذائي.