الدكتور محمد مختار جمعة (وزير الأوقاف) مجموعة من الإجراءات الجريئة في الأيام الماضية لضبط إدارة وحماية صناديق النذور بمساجد وأضرحة مصر من العبث بمحتوياتها، ارتفعت حصيلتها إلي 031% فإجمالي المبالغ التي تحققت خلال شهرين مليونان و193 ألف جنيه بعد أن كانت مليونا و253 ألف جنيه خلال شهرين سابقين!!! وهذه الإجراءات الجديدة لحماية فلوس «الغلابة» التي ينذرونها لوجه الله والتي تصل لحوالي خمسة عشر مليون جنيه سنويا «تقريبا» وما يحيط بها من أقاويل لصالح شريحة من العاملين بالجوامع التي تتبع وزارة الأوقاف، تعيد الأمور إلي دائرة الجدل والقضايا في المحاكم والتظلمات إلي الجهات العليا بالدولة خلال حقبة ماضية عندما حسم الوزير الشجاع الأسبق الدكتور محمود حمدي زقزوق القضية بتحديد نسب توزيع حصيلة الصناديق ووضع حدا أقصي لها، لكن أزمة «طبق العسل» لم تنته حتي الآن بين المشايخ لاغتيال أموال البسطاء!!! مختار جمعة أوقف السرقة بقفلين لكل صندوق فارتفعت حصيلة النذور إلي130%. الدكتور زقزوق أول من اقتحم عش «الدبابير» والمنتفعون سكنوا القصور وقضوا الصيف في أوروبا يعود تاريخ بداية صناديق النذور إلي العهد الفاطمي حيث انتشرت في هذه الأيام ظاهرة بناء الأضرحة، فكل شخصية مهمة سواء كان شيخا أو وزيرا أو زعيما يريد أن يبني لنفسه ضريحا يبنيه (يستثني من ذلك طبعا مجموعة من أولياء الله الصالحين يستحق أصحابها التكريم فعلا ببناء أضرحة لهم)، ثم ارتبط بناء هذه الأضرحة بظاهرة أخري وهي ظاهرة صناديق النذور والتي لاقت إقبالا ملحوظا من بسطاء وعامة الناس عليها.. النذر لوجه الله فأي مواطن علي سبيل المثال لا الحصر ينذر لله تبرعا محددا إذا استجاب الله لدعائه بشفاء مريض عنده، أو نجاح ابنه، أو كسب قضية، أو قضاء حاجة من حوائج الدنيا وما أكثرها، وهذا التبرع قد يكون نقديا أو عينيا كالحلي الذهبية أو الفضية أو السجاد أو المصاحف أو ماشابه ذلك، وتلتهم صناديق النذور ماخف حمله وغلا ثمنه من هذه التبرعات التي يضعها الناس نذرا لله. وأكبر الجوامع والمساجد التي تستقبل هذه الأموال والنذور هي مسجد السيد أحمد البدوي بطنطا، ومسجد إبراهيم الدسوقي بكفر الشيخ، والحسين والسيدة زينب بالقاهرة، والمرسي أبوالعباس بالإسكندرية، وعبدالرحيم القناوي بقنا، وهذه المزارات معروفة للمقيمين بالقاهرة والمحافظات، بل وخارج مصر. محط أنظار المشايخ وعلي مدي سنوات طويلة كان يتم توزيع حصيلة النذور حسب النسب الآتية: 52% للعاملين بالمساجد التي بها صناديق نذور، 5.4% لكل خليفة ضريح وعددهم اثنان في مسجد السيد أحمد البدوي، و3% لحامل مفتاح مقصورة المسجد وهي وظائف شرفية وتقليد متعارف عليه وهاتان الوظيفتان تتوارثان علي مدي القرون الماضية ولاتتفق أبدا مع روح التطوير والعصر الحديث فماذا يفعلان أصلا سوي جمع الأموال و5٪ بالمساجد التي ليس بها أضرحة، و01% للمجلس الأعلي للطرق الصوفية، وأما باقي الحصيلة فتؤول إلي وزارة الأوقاف! لكن صناديق البدوي «بالذات» كانت محط أنظار المشايخ والقائمين عليها لأنها الأكبر والأضخم دائما بين كل جوامع ومساجد وأضرحة مصر، فهي دائما وطوال السنة ذاخرة بالعملات المصرية، والأجنبية، والذهب، والفضة، وأشياء لاتخطر علي بال أحد من مريدي السيد البدوي (])! مدد ياسيدي مدد! ومع ذلك لقد احتفظت صناديق نذور الأضرحة بعلاقة حميمية جدا مع بسطاء الناس وحتي الفقراء منهم.. يقتطعون من أقواتهم ودخولهم المتواضعة ويذهبون بها إلي هذه الأضرحة ليشتروا بها أحلامهم وآمالهم، ويشتكوا لصاحب الضريح همومهم ومتاعبهم اليومية، ويطلبوا منه فك كربهم، ويسجلوا بها أناتهم الحائرة: مدد ياسيدي مدد! وبخلاف هذه الأموال السائلة هناك نذور عينية ترد يوميا ابتداء من مواشي حية، ولحوم وطيور مذبوحة، وقطعان من الخراف والماعز والجديان والخضر والفواكه والألبان، وحتي أطباق الفول «النابت»! وأمام هذا السيل العارم من الأموال السائلة والنفحات العينية التي ترد يوميا للأضرحة، فإن حلم معظم مشايخنا الأجلاء من أئمة ومقرئين وموظفين وعمال هو تسكينهم علي هذه الغنائم في هذه الجوامع الشهيرة حتي «يهبروا» منها أطول فترة ممكنة، ذاك أفضل وأجدي جدا من سفرهم للعمل بالخليج وأربح، سيتقاضي هنا الواحد منهم ضعف ما سيتقاضاه هناك، لكن الفرق كبير بين أن يحصل عليها في الغربة، وبين أن يجدها بين أصابعه وهو مقيم في بلده وبين أهله وعشيرته! حكاية السيد البدوي ومرة أخري وبصراحة شديدة كانت حكاية صندوق النذور في جامع السيد البدوي بطنطا واحدة من أغرب الحكايات الغامضة طوال سنوات طويلة، فأسرار خزائن هذا الصندوق «تحديدا» كانت محفوفة بالعديد من الأسرار لأنها مغلقة علي المستفيدين منها «بالقانون» ابتداء من خليفة السيد البدوي (رغم أن سيدي أحمد البدوي لم يتزوج أصلا وبالتالي لم ينجب)، مرورا بحامل مفتاح المقصورة، فالإمام، والمؤذن، ومقيم الشعائر، وخادم الضريح، والموظفون والعمال، حتي السباك، والنجار، الكل «يلعق» من عسل النذور، و«يلهف» من قسمة «الغنائم» أكلوا منها وشربوا حتي أصيبوا «بالتخمة»! من عرق «الغلابة» كان المستفيدون من حصيلة النذور كثيرين ويحصلون علي أرقام فلكية مكنتهم من شراء أفخم البيوت والعقارات بأغلي المناطق السكنية وسكنوا القصور وركبوا أفخم السيارات الفارهة، حتي إن بعضهم كان يقضي صيفه في أوروبا، وكان عرق «الغلابة» يوزع علي غير مستحقيه «بالقانون» طوال سنوات طويلة مضت، حتي إن العاملين في أضرحة المساجد الكبري كانوا يتمسكون بالبقاء في أماكنهم أطول سنوات ممكنة، ويلجأون إلي الوساطات لدي كبار المسئولين في وزارة الأوقاف للمد لأطول فترة حيث النذور أكثر وأكبر، وعندما تتعدي سنوات خدمتهم في هذه الأماكن المميزة ينقل بعدها العاملون والدموع تسيل من عيونهم إلي مساجد صغيرة، بداية من درجة الإمام والشيخ ومقيم الشعائر والمؤذن وحتي خادم المسجد، ثم يعين مكانهم «أطقم» أخري كنوع من الإعارة الداخلية! زقزوق في عش الدبابير ووسط مهازل صناديق النذور وفوضي توزيعها بالجوامع الكبري والأضرحة لكل من هب ودب، أصدر وزير الأوقاف الشجاع الدكتور محمود حمدي زقزوق قراره العادل عام 8991 بإعادة توزيع الحصيلة بأن تخصص نسبة 01% منها علي العاملين.. حصة ونصف لكل من شيخ المسجد والإمام بحد أقصي 003 جنيه في الشهر، وحصة واحدة لكل من أمين المكتبة وكاتب النذور ومقيم الشعائر ورئيس العمال بحد أقصي 001 جنيه في الشهر، ونصف حصة لكل من قارئ السور والعمال الحرفيين والخدمة المعاونة بحد أقصي 08 جنيها في الشهر.. أما خليفتا المسجد الأحمدي بطنطا فيخصص لكل منهما نسبة مقدارها 3% من حصيلة الصندوق بحد أقصي عشرون ألف جنيه في السنة، وحامل مفتاح المقصورة (كان مقيما في القاهرة بصفة شبه دائمة ولايحضر إلي طنطا إلا في حالتين: عند توزيع «الغلة» أو زيارة أحد كبار المسئولين أو ضيوف مصر للضريح) نسبة 2% بحد أقصي عشرة آلاف جنيه سنويا، ويلغي نهائيا هذان المنصبان الشرفيان (الخليفة وحامل المفتاح) عند خلوهما من القائمين بها بعد الوفاة، وكانت هذه المناصب من قبل تورث! 4 سنوات فقط وقضي قرار الوزير العادل محمود حمدي زقزوق بأن تكون مدة الخدمة للعاملين بالأضرحة ومساجد النذور 4 سنوات فقط (طوال مدة الخدمة) علي أن ينقل العامل أو الموظف بها إلي مسجد آخر ليس به نذور، وبذلك تتحقق عدالة توزيع الدخل بين مشايخ وزارة الأوقاف.. فماذا حدث؟ تذمر «المستفيدون» العاملون في المساجد الكبري خاصة السيد البدوي وسيدنا الحسين والسيدة زينب، وادعوا أن القرار مخالف للشريعة الإسلامية، إذ إن مفهوم النذور علي أنه تبرع مشروط صرفه علي المساجد يخالف رأي جمهور الفقهاء الذين يرون أن النذر هو الصدقة التي أوجبها المنذر علي نفسه، وبأن تخفيض النسبة المستحقة لهم لايجوز باعتبارها من الأجر الذي لا يخفض إلا بحكم قضائي، وأقام عدد كبير من هؤلاء المستفيدين دعاوي أمام القضاء الإداري بمجلس الدولة لإلغاء قرارات الوزير وما تضمنه من تحديد مدة بقائهم بمساجدهم! تحقيق المصلحة العامة لكن القضاء أيد قرارات الوزير الجريء والمفكر الإسلامي الكبير الدكتور محمود حمدي زقزوق، لأن وزير الأوقاف هو السلطة المختصة بإصدار قرارات تنظيم العمل والإدارة، والصرف بصناديق النذور التي بالمساجد، وبذلك تكون قراراته صحيحة، وصدرت ممن يملك إصدار قانون ابتغاء المصلحة العامة ومتفقا وصحيح حكم القانون.. والطريف أنه وقت تنفيذ قرارات الوزير شهد عدد من أضرحة المساجد والجوامع أحداثا ساخنة أبطالها الذين سيضارون من «غلة» النذور وتذمروا، وحدثت حالات من الهياج الشديد، ونطقوا بألفاظ فيها استهزاء وسخرية من اللجان التي حضرت من قيادات وزارة الأوقاف لاتخاذ إجراءات التنفيذ، ووجهوا سيلا من التحديات إليهم، مرددين في أعماقهم المثل الشائع بين المشايخ: «عُض قلبي ولا تعُض رغيفي.. إن قلبي علي رغيفي ضعيفي»!! السمع والطاعة من المتمردين بل الأغرب أن بعضهم أمام زملائه المتجمهرين عرض أن يستمر في موقعه بلا أي عائد من النذور واكتفاء بمرتبه فقط علي ألا يتم نقله إلي أي مسجد آخر ليس به ضريح، وتأزمت المواقف، ونقلت اللجان لقيادات الأوقاف حال أصحاب العمائم «المتمردين» وتدخلت أكثر من جهة للوساطة والتأجيل، لكن الوزير القوي الحاسم د. زقزوق رد عليهم بكل حزم: أنا لايهمني «الكرسي» أو «المنصب» لكني متمسك بقراري إلي أبعد الحدود، ولابد من تنفيذ القانون، وإنهاء الفوضي وتحقيق العدالة بين العاملين في وزارة الأوقاف، وترشيد نسب المستحقين، لتوجيه الحصيلة في النهاية لإصلاح وصيانة وترميم المساجد وتأثيث مكتباتها، فما كان من أصحاب العمائم «المتمردين» سوي السمع والطاعة! مفتاحان لكل صندوق واستمرت لعبة القط والفأر بين وزارة الأوقاف والمتربصين من بعض المشايخ داخل الجوامع والمساجد التي بها أضرحة سنوات.. وسنوات، إلي أن تولي الوزارة الدكتور محمد مختار جمعة، ويبدو أنه رأي أن حصيلة النذور قليلة ويمكن مضاعفاتها، وربما شك في ذمم البعض من القائمين عليها، فاهتدي إلي حيلة ماكرة تتسم بالشفافية لسد الطريق أمام «المنتفعين» وأصحاب النفوس الضعيفة، فاتخذ عدة إجراءات لضبط إدارة وحماية هذه الصناديق من العبث بمحتوياتها، فأمر بوضع «قفلين» علي كل صندوق نذور، مفتاح أحدهما في الوزارة، والآخر في المديرية التي يتبعها الضريح، ولايفتح أي صندوق نذور إلا في وجود المندوبين معا، وكانت النتيجة مبهرة: فإجمالي المبالغ التي تحققت في شهرين فقط بعد خطته «الجهنمية» ارتفعت إلي مليونين و193 ألف جنيه، بعد أن كانت مليونا و253 ألف جنيه خلال شهرين سابقين بزيادة قدرها 031%!!!