الفول والطعمية وجبة شعبية يلجأ إليها ملايين المصريين سواء من الفقراء أو الأغنياء، دون أن يعلموا أن مرض السرطان يطاردهم في كل "ساندويتش" يتناولونه من المطاعم الشعبية المنتشرة في كل شوارع مصر، والسبب يكمن في زيوت الطعام التي تستخدم لمرة واحدة في مصانع إنتاج شرائح البطاطس المقرمشة، قبل أن يعاد استخدامها مجدداً في مطاعم الفول والطعمية، فخطر الزيت المستخدم لأكثر من مرة في القلي يصل إلي حد إصابة مستهلكيه في هيئة أطباق فول أو أقراص طعمية بأمراض السرطان وعلي رأسها سرطان المعدة. حالة الاستهتار والرغبة في الكسب السريع وانعدام الضمير دفعت الكثير من المصانع إلي بيع الزيت المستهلك لديها إلي مطاعم الفول والطعمية، عبر وسيط هو "السرجة" التي كانت قديماً مكاناً لطحن الحبوب واستخراج الزيوت منها، قبل أن تكشف "آخرساعة" الدور الذي تلعبه عشرات السرج المنتشرة في المناطق الشعبية في إعادة تدوير وبيع هذه الزيوت منتهية الصلاحية. بدأنا الجولة من منطقة بولاق أبوالعلا في وسط القاهرة، وهناك حيث توجد سرجة في شارع ضيق. كان المكان رثاً ومتهالكاً يحوي جراكن قديمة وميزاناً. ادعيت أنني مندوبة إحدي شركات رقائق البطاطس الشهيرة وأود أن أبيع لصاحب السرجة "عم سلطان" فائض الزيت المستخدم فوافق علي الفور وقال "أتعامل مع مندوب شركة للزيوت الذي يورِّد لي الزيت كل ثلاثاء"، واقترح عليّ أن أحضر له عينة حتي يقيم سعره. صاحب السرجة أوضح لي وسألته أن الجركن سعة 20 لتراً يترواح سعره ما بين 7 إلي 8.5 جنيهاً للتر الواحد، إذا كان زيت تموين منتهي الصلاحية، أما إذا كان زيتا مستخدماً فيتراوح سعر اللتر ما بين 6 إلي 7 جنيهات حسب رائحته ونوعه إذا كان مخلوطاً بزيت أولين أم زيت صويا، مشيراً إلي أن الأول هو الأفضل فهو الزيت المهدرج الذي يشبه السمن فهو مع انخفاض درجة الحرارة يتجمد وهو ما تفضله مطاعم الفول والطعمية لأنه لا يتبخر بسهولة ليستخدم لأطول فترة ممكنة. وأثناء حديثي معه عرفني صاحب السرجة علي شخص مندوب شركة للزيوت - مقرها روض الفرج - التي تورد له الزيت المستخدم، الذي يباع في جركن أصفر يشبه جراكن البنزين ولا يحتوي علي أي بيانات سوي اسم الشركة التي تعتبر وسيطاً بين المصنع والسرجة، فعرضت عليه أن أورد له الزيت المستخدم أيضاً بدلا من المصنع الذي يتعامل معه فقال "لو السعر أقل وجودة الزيت أعلي أي لا تظهر عليه علامات الاستخدام فسآخذ منك كميات فأنا أورد لعدة مناطق منها بولاق أبوالعلا وأرض اللواء وروض الفرج والظاهر ولكن أريد عينة من الزيت. واستفهمت منه عن سبب شرائه لهذا الزيت المستخدم رغم أنني مندوبة لنفس الغرض، فضحك وقال: "زيوت المصانع تستخدم لمرة واحدة فقط حتي تحافظ علي جودة شرائح البطاطس لذا بدلاً من التخلص منه ونستفيد نحن منه، فيبيع لي اللتر ب6 جنيهات وأقوم أنا بتصفيته من الشوائب وأبيعه للسرجة ب7 أو 8 جنيهات وأكسب أنا واللي زيك! غادرت المكان والدهشة تغمرني، كيف لهؤلاء أن يشاركوا في جرائم من هذا النوع؟!، خصوصاً أن غالبية المصريين يتناولون الفول والطعمية في مطاعم الشارع، ما يعرضهم لأمراض خطيرة علي رأسها السرطان.. وبينما لم أجد إجابة علي تساؤلاتي كانت قدمي قد وطأت عزبة الصعايدة في منطقة إمبابة بالجيزة بعد نحو الساعة.. لحظات وكنت أقف علي باب سرجة ثانية. السيناريو ذاته كررته مع أم محمود حيث عرضت عليها أن أورد لها زيتاً مستخدماً فقالت: "عادي كله زيت مش هتفرق مستخدم مرة أو أكثر"، لكنها أوضحت أنها تتعامل مع مورد آخر منذ سنوات وليس لديها رغبة في تغييره. لم أبرح المكان قبل أن ألتقط أنفاسي وأحاول استيعاب ما سمعته للمرة الثانية خلال ساعة واحدة، وقبل مغادرة المكان أخذت أرقب زبائن أم محمود.. هذا رجل من الأهالي جاءها ليشتري عدة لترات من الزيت المستخدم، بينما كانت تكيل لترات أخري من جركن آخر تخلط زيته بزيت الأولين لتبيعه لعربات الفول، وقدر آخر تخلطه بالماء وزيت الصويا ليبدو نقياً قبل أن تبيعه للمواطنين بنظام التجزئة. تركتها وأنهيت رحلتي مع الزيوت بمنطقة عرب المعادي في سرجة ثالثة. هناك وجدت شاباً يبدو عليه أنه علي درجة من التعليم فكانت الحجة هذه المرة أنني أعد بحثاً عن تاريخ السرج وكانت هذه هي فرصتي الوحيدة للتصوير وقص لي رحلة الزيت بموجب خبرته في السرج فهو ورث الحرفة أباً عن جد. قال الشاب إن غلاء الأسعار أجبرنا بما أننا في منطقة شعبية أن نغش كل شيء ليتناسب المنتج مع السعر، فمثلاً "أكيد مش هاصنع الطحينة والحلاوة الطحينية كلها من زيت السمسم"، وأمام دهشتي وجدته يسترسل قائلاً: "أخلط 20% من زيت السمسم بمقدار من زيت الصويا وقليل من زيت الأولين ليعطي القوام المطلوب إلي جانب بعض الزيوت الأخري ومنكهات للرائحة وحسب الخلطة يختلف السعر ونبيع الطحينة سايبة حسب الطلب أما الحلاوة الطحينية فتمر بنفس المراحل فتجد كيلو ب16 جنيها وأخري ب12 جنيهاً، أما الزيوت فمبدئياً أي زيت يتم تحسينه وحسب درجة التحسين يتحدد السعر فهناك زيت يباع اللتر منه ب6 جنيهات وقد يصل إلي 10 جنيهات، ولكل زيت زبونه فالمطاعم لا تطلب إلا زيت الأولين المهدرج وهو أدني الأنواع وأرخصها سعراً، وإذا كان مستخدماً من قبل أو أول مرة فلا يتعدي ثمنه سبعة جنيهات، لأنه ثقيل وبالتالي يكون صعب التبخر، أما زيت الصويا فهو أعلي درجة من الأولين ويباع بالتجزئة للزبائن والبعض يخلطه بزيت التموين منتهي الصلاحية ولكني لا أبيعه، أما أعلي جودة في الزيوت فهو زيت عباد الشمس أو الذرة وعادة تكون زجاجته مغلفة. هكذا وبصدمة شديدة انتهت جولتي من سرجة إلي أخري، قبل أن أحول وجهتي إلي أحد مطاعم الفول والطعمية في المنطقة ذاتها. سألت مدير المطعم هل تعلم أن الزيت الذي تستعمله في القلي مستخدم من قبل في مصانع البطاطس، فأجاب قائلاً: "نعم أعرف فهو أفضل من الزيت المستخدم لأول مرة لعدم قدرته علي التبخر وأرخص في السعر فالجركن يستخدم لمدة شهر ب120 جنيها20 لتراً اللتر ب 6 جنيهات أفضل بكثير من المستخدم لأول مرة 160 -180 جنيها، ويعطي نفس التأثير في أن تكون الطعمية هشة ومقرمشة، فأقلي البطاطس في الصباح الباكر ثم الطعمية ثم الباذنجان، وأصفي الزيت كل يوم من الشوائب وأضيف علي الزيت القديم زيتا جديداً". لم أكن أتخيل كل هذه المفاجآت الصادمة التي حملها إليّ أصحاب السرج والمطاعم في إجابات خرجت منهم بتلقائية شديدة، وكأنهم لا يعرفون حجم الكارثة الصحية التي يشاركون فيها، لكن النتيجة الأكثر فداحة لهذه الزيوت معادة الاستخدام عرفتها من الخبراء المختصين. الدكتور عبدالهادي مصباح استشاري المناعة وزميل الاكاديمية الأمريكية للمناعة قال لي "إن اعادة استخدام الزيوت مرة أخري كارثة بمعني الكلمة، فحتي لو كان الزيت نباتياً فبمجرد تعرضه للنار يتحول الي دهون مشبعة وهي العامل الرئيسي المسبب لأمراض السرطان وبخاصة سرطان المعدة حيث تحول الزيوت المهدرجة الي دهون مشبعة تترسب علي جدران الشرايين وتسبب جلطات وضغط الدم وانسداد في الأوعية الدموية. فيما تقول الدكتورة هناء محمد الباحثة في المركز القومي للبحوث بقسم كمياء الزيوت والدهون إن الزيوت بمجرد تعرضها للنيران تتحول الي الشوارد الحرة وتحدث سلسلة من التفاعلات تسبب عمليات الأكسدة وتدمر الخلايا، وتتسبب في أعراض الشيخوخة المبكرة فيصبح لون العيون غير رائق وتتجعد البشرة بخلاف أمراض السرطان، لأن هذه الزيوت بعد احتراقها تزيد فيها نسبة الأحماض، فقد تأكل الطعمية وتشعر بحموضة بعدها ولكن إذا أكلتها في البيت فلن تنتابك هذه الحموضة والسبب يرجع إلي هذه الزيوت. وتنصح الدكتورة هناء ربة المنزل أن تستخدم الزيت لقلية واحدة، وأفضل زيت يتحمل درجة الحرارة هو زيت القطن، أو زيت الصويا مع خليط من زيت القطن فهو صحي ويتحمل درجات الحرارة العالية، مشيرة إلي أن الكارثة تكمن في استخدام زيت الأولين المهدرج كون تأثيره مميتاً بصرف النظر عن أنه معاد استخدامه، ولا يصلح زيت عباد الشمس أو الذرة في القلي لأنه لا يتحمل درجات الحرارة العالية فيتبخر.