لم يساورهم الشك لحظة في جودة المنتجات المعروضةِ أمامهم، ينظرون مطمئنين إلي لافتات "وزارة الزراعة" التي تعلو منافذ بيع منتجاتها، يتكدسون أمامها واثقين في الحصول علي غذاءٍ آمنٍ بأسعارٍ مناسبة. ومع تفاقم ظاهرة الغش الذي يملأ أسواق المنتجات الغذائية تتضاعف مصداقية "منافذ وزارة الزراعة" لدي الجمهور باعتبار أنها خاضعة لإشرافِ جهةٍ حكومية. لكن المفاجأة التي تكشفها "آخر ساعة" امتداد الغش إلي مصدر اللحوم المجمّدة التي تُباع في كثير من منافذ قطاع الإنتاج بمركز البحوث الزراعية التابع لوزارة الزراعة، وصولاً إلي منافذ وهمية تحمل اسم الوزارة بينما هي في الحقيقة غير تابعة لها. المعلومة الصادمة فاجأني بها موظف بقطاع بمركز البحوث الزراعية وهو يكشف لي حجم الفساد الذي يدور داخل إدارة التسويق المعنية بمنافذ البيع، أخبرني أن منافذ القطاع تتعامل من الباطن مع إحدي الشركات الخاصة بتوريد اللحوم المستوردة وفق عقود توريد مبرمة بين الطرفين، الكارثة أن هذا المورّد استأجر من وزارة الزراعة إحدي الوحدات التابعة لمركز البحوث الزراعية وأقام بها مركزاً لتجهيز اللحوم دون الحصول علي ترخيص بذلك، وبناء عليه قام بتقطيع وتعبئة اللحوم المجمّدة لحساب الوزارة ولحسابه الخاص مستغلاً اسم الوزارة، دون أدني مراعاة للاشتراطات الصحية الواجب تطبيقها في عملية تجهيز اللحوم، غير التلاعب الذي يحدث في تواريخ صلاحية اللحوم وبياناتها. الكارثة الأكبر كما أخبرني أن هذه اللحوم تُباع في منافذ وزارة الزراعة ليسقط المستهلك ضحية عملية الغش التي تديرها شبكة فساد من داخل إدارة التسويق وإدارة المراجعة، علي مرأي ومسمع رئيس قطاع الإنتاج بمركز البحوث الزراعية الذي تقدمنا له بعدة شكاوي لفضح هذا الفساد، إلا أنه لم يتخذ أي إجراء فاعل بل فوجئنا أن التحقيق الداخلي في هذه الوقائع توقف بصورةٍ مريبة. التقطت منه عنوان المركز وقررتُ أن أبدأ البحث لأستطلع حقيقة هذا المكان. وهناك وجدت مبني من طابق واحد تتوسطه لافتة "أسواق التنمية الزراعية" يجاورها عدد من منافذ وزارة الزراعة، وفي القسم الخلفي من المبني وجدت لافتة "مركز تقطيع وتعبئة وتجهيز اللحوم" التابع لمركز البحوث الزراعية، اقتربت منه ليستقبلني المسؤول عن المكان، بالطبع أخفيت عنه هويتي وأخبرته أني أريد التعاقد معه علي توريد 100 كيلوجرام من اللحم البتلو لصالح إحدي شركات بيع منتجات اللحوم، أبدي الرجل ترحيباً بالغاً وأكد علي جودة المنتج الذي يقدمه - لأنه تابع لوزارة الزراعة- وما إن طلبت منه إلقاء نظرة علي مكان تقطيع اللحوم والكيفية التي تُجهز بها حتي ظهرت عليه علامات الارتباك، ورفض رفضاً قاطعاً دون أن إبداء أسباب. ما حدث ضاعف من إصراري علي كشف ما يجري داخل أسوار "مركز تجهيز اللحوم"، خرجتُ من المكان متجهةً إلي وزارة التموين والتجارة الداخلية، وهناك قابلت المهندس عبدالمنعم خليل مدير عام إدارة المنتجات الحيوانية بوزارة التموين، أبلغته بما شاهدته والمعلومات التي وردت إليّ بخصوص هذا المكان، لم أتخيل أن استجابته يمكن أن تكون بهذه السرعة، أبدي تعاونه الشديد واستعداده لمداهمة المكان من خلال حملة مشكّلة من مُفتشي التموين وإدارة التفتيش علي اللحوم التابعة للهيئة العامة للخدمات البيطرية. حدد الموعد ورحب بمرافقتنا له خلال حملة التفتيش. وفي الموعد المحدد انطلقنا من أمام مبني وزارة التموين لمداهمة الموقع. بمجرد أن وصلنا تجمّد حارس البوابة من وقع المفاجأة، استقبلنا مندوب وزارة الزراعة المشرف علي الحسابات، فتح لنا لندلف إلي المكان حيث كان العمال منهمكين في تجهيز اللحوم، تسمّر الجميع تاركين ما بأيديهم. انتشر المفتشون متفحصين المكان واللحوم التي يتم تجهيزها، وهنا صُعقت من منظر اللحوم المجمّدة الملقاة علي أرضية المكان، وأكياس "السجق" المكدسة في إحدي الزوايا، تتناثر حولها ماكينات الفرم، ومعدات تشفية اللحوم، بينما تقف أكوام عبوات اللحوم المعبأة تمهيداً لنقلها عبر سيارات وزارة الزراعة التي رصدناها في الموقف الخاص بالمركز. يمسك المهندس عبد المنعم خليل رئيس حملة التفتيش بإحدي العبوات ويشرح: معظم المخالفات التي رصدناها تعد غشاً تجارياً يعامل وفق القانون رقم 281 لقمع الغش التجاري، المكان لايحمل رخصةً بتجهيز اللحوم، عمال شركة التوريد القائمة علي المكان يقومون بإذابة اللحوم المجمدة المستوردة علي الأرض بالمخالفة للاشتراطات الصحية، تمهيداً لتقطيعها ثم تعبئتها في أكياس باسم وزارة الزراعة يتحايلون علي المستهلك بعدم كتابة البيانات الخاصة بنوع ومصدر اللحوم وبلد المنشأ التي تم الاستيراد منها، فقد رصدنا لحوما هنديا وبرازيليا وأخري مستوردة من نيوزيلاندا، كما لم توضح البيانات علي العبوة النهائية ما إذا كانت اللحوم مستوردة أم لحوما بلدية وذلك يتم بغرض إيهام المستهلك بغير حقيقة السلعة. المخالفة الأخطر كما يؤكد المهندس عبدالمنعم خليل أن جميع تواريخ صلاحية اللحوم علي العبوات المغلفة تم التلاعب بها، بالمخالفة للمواصفة القياسية المصرية رقم 2613 الخاصة بفترات صلاحية المنتجات الغذائية. فاللحوم المجمدة والمفرومة تأخذ صلاحية ثلاثة شهور فقط تم مدها إلي ستة أشهر، وتم تزييف صلاحية الكبدة المجمدة لتمد إلي سبعة أشهر بدلاً من شهرين وهي المدة المعتمدة في نفس المواصفة. غير أن جميع اللحوم ومصنعاتها التي تم ضبطها مغلفة بتغليف لا يصلح لحفظ اللحوم لأنه منفذ للرطوبة. المخالفات التي تم تحريرها في المحضر رقم 17266 لسنة 2014/ جنح قسم الطالبية، من قبل مفتشي التموين والطب البيطري، استدعت تشميعهم للثلاجة الرئيسية للمركز ومصادرة 3 أطنان من اللحوم المجمّدة لاعتبارها غير مطابقة للمواصفات. اللافت أن مسؤول المكان لم يكن بحوزته مايدل علي علاقته بوزارة الزراعة، متحججاً بأن جميع الأوراق الخاصة بالمكان تقع في الإدارة المركزية للشركة وبقطاع الإنتاج. لكن "آخر ساعة" حصلت علي مستندات تثبت أن المكان الكائن به "مركز تقطيع اللحوم" يتبع لولاية مركز البحوث الزراعية وتم تأجيره لشخص يمتلك شركة لتوريد اللحوم وفق مزايدة علنية للترخيص بحق الانتفاع لمدة عام حيث ينتهي العقد بتاريخ 31/ 12/ 2014. كما حصلت "آخر ساعة" علي عقد التوريد المبرم بين ذات الشركة وقطاع الإنتاج لتوريد اللحوم المجمّدة ومصنعات اللحوم إلي منافذ وزارة الزراعة مقابل عمولة 8-10% غير طلبات وأذون صرف كميات اللحوم الصادرة عن "وحدة التقطيع والتشفية" إلي منافذ الوزارة باتحاد الشرطة الرياضي، ومنفذ مديرية الزراعة بالمنوفية. وبمواجهة المهندس سعيد الدسوقي مدير عام إدارة التسويق بقطاع الإنتاج التابع لمركز البحوث الزراعية أقر بأن مورّد اللحوم المجمّدة له تعاقد سنوي مع وزارة الزراعة يضخ بموجبه اللحوم إلي جميع منافذ قطاع الإنتاج الذي يتولي عملية الإشراف علي هذه المنتجات، فهناك لجان تتسلم اللحوم وتقوم بمعاينتها قبل عرضها في المنافذ، كما تتم عملية النقل بسيارات مبرّدة تابعة للقطاع. أما "ملاحظات مفتشي التموين" كما أسماها المهندس سعيد فيشير إلي أنها ستؤخذ بعين الاعتبار. وأنكر إدخال أي لحوم هندية إلي منافذ التسويق مؤكداً أن جميع اللحوم المتعاقد عليها هي لحوم برازيلية. يأتي نفيه رغم الكميات الكبيرة من اللحوم الهندية التي رصدها مفتشو التموين في مركز تجهيز اللحوم الذي يغذي المنافذ.. لا يقتصر مسلسل الغش التجاري والخداع الذي يتعرض له الجمهور علي ذلك، فالكارثة الأخري التي نكشفها تكمن في انتشار أعداد كبيرة من منافذ البيع الثابتة والمتنقلة التي تدّعي أنها تابعة لوزارة الزراعة مستغلة اسمها في إيهام المستهلك وخداعه. وتؤكد ذلك مستندات حصلت عليها "آخر ساعة" تتضمن خطابات مرسلة من الإدارة العامة للتسويق بقطاع الإنتاج إلي وزارة التموين ومديريات الطب البيطري بالقاهرة والجيزة، تفيد بوجود عدد من المنافذ تحمل اسم وزارة الزراعة وهي لا تمت إليها بصلة. كنت أظن أن هذه المنافذ توجد مستترة في أماكن بعيدة عن أعين الجهات الرقابية، قبل أن تذهلني عناوينها الواردة بالخطابات، لأن معظمها يتركز في مناطق حيوية تمتاز بكثافة الحركة الشرائية. بدأتُ جولتي بالمنفذ الواقع في ميدان الحصري بمدينة 6 أكتوبر، وهناك كانت دهشتي أكبر، فالمنفذ لا يكتفي بخداع الزبائن عبر لافتة "منفذ بيع منتجات وزارة الزراعة" بل يعرض منتجات تحمل اسم الوزارة، بحيث يستحيل علي المستهلك أن يعرف حقيقة هذا المكان ومصدر منتجاته. لم يختلف المشهد كثيراً عن المنفذ الواقع بمنطقة بولاق الدكرور، بينما تقف في ميدان الجيزة سيارة مبرّدة تحمل اسم وزارة الزراعة. ويؤكد الدكتور عبدالكريم زيادة رئيس قطاع الإنتاج بمركز البحوث الزراعية التابع لوزارة الزراعة أن هناك مطابع تقوم بتقليد أكياس تغليف المنتجات الغذائية لإيهام المواطنين أن هذه السلع من قطاع الإنتاج، حتي أننا قمنا بطباعة ملصقات جديدة لأكياس تغليف اللحوم البلدية تحمل اسم وزارة الزراعة وبيانات اللحوم وبعد اسبوعين فوجئنا بتقليدها في المنافذ الوهمية، إلا أن إدارة المتابعة بقطاع الإنتاج تخطر الجهات الرقابية ووزارة التموين وتحرر محاضر علي الفور ضد الأماكن التي يتم اكتشافها.